سأسيرُ هادئاً في التاريخ/ نيكيفوروس فريتاكوس
الشِّعر
قَبْلَ أنْ يُكْتَب، يكونُ الشِعرُ كَلِمات.
ثمّ تُصْبِحُ كَلِماتُه غُيوماً،
أَلْواناً، نوراً، مَدَّ وجَزْرَ نُجومٍ
أَنْهارَ أعْلامٍ، آلاتٍ، مَنافِضَ،
جمهوراً يَصْعَدُ أو يَنْزِلُ،
سقالاتٍ في الأُفق.
وكُلُّ هذه، فَكِّروا، قَبْلَ أنْ تَصيرَ ما هي عَليهِ
في الشِّعر كانتْ كَلِمات.
(التُراب الذي يَصيرُ زَهرةً وشَجَرة).
■ ■ ■
تَفاؤل
الظَلامُ أَعْمَقُ مِنَ النور، يَسْتَقِرُّ
على سُفوحِ الهاوِيات الوَعِرة التي أرْتَقيها
لأسْلُكَ من هُناكَ دَرْبي المُسْتَقيمَ في الزَمَن.
(مُحاطاً بِنورٍ لا يُحَلَّلُ
مَليئاً بِوَدائعَ سَماويّةٍ لا تُفَسَّرُ
أَثِقُ بأنّني إذْ أعْبُرُ أَخيراً
هذه الجِبالَ القاسيةَ المُتَجَدِّدة
سَأسيرُ هادِئاً في التاريخ).
■ ■ ■
صَفاء الصباح
أَعْرِفُ ذلك. هذه اللَحْظةَ يُعِدّون
فِراشي في الأثير. أخالُني أراه،
يُبَدِّلُ ألْوانَهُ، يَسْبَحُ هنا
وهناك موسيقيّاً، يَنْخَفِضُ في مَكانٍ آخَر
موشِكاً على مُلامَسةِ شُموسِ “آرل”
ثمّ مُرْتَفِعاً لِيُقارِبَ رؤوسَ التَنّوب
على الجِبالِ التي أحْبَبْتُ وأَسْمَعُ أصْواتاً:
اسْتَرِحْ يا شاعِرُ في العالَمِ
الجَميلِ الذي اسْتَحْسَنْتَ أنْ تولَدَ فيه
الذي يَبْدو أَنَّ فيهِ ما يَرْبو على أشْياء وأشْكال
يَظْهَرُ وَكَأنَّهُ الكَلِمةُ الأبَديّة.
■ ■ ■
ارتقاء
أشْكُرُ سَقالةَ جُروحي العَظيمةَ
التي وَطِئْتُها وارتَقَيْتُها، ورَأيْتُ العالَم
فَدَوَّنْتُ المَنْظَرَ العَجيب
على الوَرَق، بَلْ أقولُ بِالأحْرى،
يا أرْضُ، إنّي أسْعَدُ كائن
عاشَ على وَجْهِك. لَقَد غَمَرَني النور
وأخْفاني، حَتّى لم يَعُدْ لي من ظِلٍّ
كَما لِكُلِّ الأجْساد والأشْياء.
تَأْتي أحْيانٌ أشْعُرُ فيها
بِأنّي أقَلُّ ثِقلاً على تُرابِك
من نورِ الشَفَقِ على الصَخْرة.
■ ■ ■
تَحَوّل
حَقيبتي ومِلْكي، كُلُّ ما لي
تَقْريباً، عِنْدَما جِئْتُ إلى العالم
كان حَفْنةَ ظَلام. ما كان لي شَيءٌ عَداها.
كُلَّ ما أُعْطيْتُه. لو صِرْتُ موسيقيّاً
لَكان عَلَيَّ فَقَط أنْ أُبْدِعَ نَغْماتي.
ولَوْحاتي لو صِرْتُ مُصَوِّراً.
وأَرْقامي المُفيدةَ لو صِرْتُ حَكيماً. لَكِنَّ الغَريبَ قَد حَصَل.
أصْنَعُ بِكُلِّ ميليغرام ظَلام
ضَمّة من زَهْر المارغاريتا.
■ ■ ■
إنْسانٌ يَوْميّ
هذا الإنْسانُ اليوميّ (القصير
والمُهمَل) الذي أعْطَيتُهُ ماءً
وأرشَدْتُهُ إلى الطَريق، الذي ليس
له على وجه الأرض غرفةً من مِتْرَين مُرَبَّعَين،
قد لا يَتَّسِعُ لهُ الكون.
■ ■ ■
الهويّة
لي على وَجْهِ الأَرْضِ هويّتي
ليس لأنّ لي جسدي الخاصّ
بوجهه، ويَدَيْهِ، وقلبه، لكن
لأنّ لي في جَسَدي
نهراً ليس لي، وعَلَيّ
أن أكون حاضِراً، أن أجيء
عندما تَطْلُعُ الشَمْس وعندما تَغْرُب
وأنْ أُوَقِّعَ بوضوح: نيكيفوروس.
بَعْدَها أَقِفُ قبالةَ
الكونِ، حاسِراً ووَرِعاً،
وأراهُ يَصيرُ كُلُّهُ وَجْهاً
مُسْتَديراً، شَفّافاً، بَشَريّاً.
* شاعر يوناني من مواليد قرية كروكيس قرب إسبارطة عام 1912، ورحل فيها عام 1991.
** ترجمة عن اليونانية: روني بو سابا
العربي الجديد
ما لا يستطيع الحب إنقاذه/ هيلدا دومين *
ترجمة: سوار ملّا
«توجّه»
قلبي،
يا زهرةَ دوار شمسٍ
تفتِّشُ عن الضوء؛
لأيِّ بريقٍ غابرٍ سترفعُ رأسكَ
في الأيامِ الحالكة؟
ليلةٌ رقيقةٌ
ستأتي الليلةُ
وستحبُّ فيها،
لكن، ليسَ ما هو جميلٌ، بل ما هو بشع.
ليس ما يرتفعُ، بل ما عليه أن يسقطَ.
الليلةُ التي لن تساعدَ فيها أحداً،
بل ستكون عاجزاً تماماً.
ليلةٌ رقيقةٌ
حيث ستحبُّ فيها
ما لا يستطيعُ الحبُّ إنقاذه.
أجملُ
أجملُ هي قصائدُ الفرحِ،
مثلما الزهورُ أجملُ من الجذوعِ التي تحملُها،
أيضاً قصائدُ الفرحِ أجملُ.
مثلما الطائرُ أجملُ من البيضةِ،
مثلما هو أجملُ حين يحلُّ الضياءُ،
أيضاً الفرح أجملُ.
وأجملُ هي أيضاً
تلك القصائد التي لن أكتبَها.
أناشيد مُلهِبةٌ
وسادتي مبلَّلةٌ
بدموعٍ نزلَت من أحلام مُنهكةٍ.
لكن، رغم ذلك،
لم تزل هناك حماماتٌ
تطيرُ من يدي العاجزةِ، الفارغة.
الشِّعرُ
الشِّعرُ
هو ذَلِكَ السكونُ الممدودُ
بين كلمةٍ وأخرى.
كولونيا
المدينةُ الغريقة،
الغريقةُ
لي وحدي.
أعومُ في دروبِها
بينما يمشي
الآخرون.
لقد صارَ لبيوتِها القديمةِ
أبوابٌ جديدةٌ
من الزجاجِ.
نعومُ، أنا والموتى،
من خلالِ هَذِهِ الأبوابِ الجديدةِ
لبيوتِنا القديمة.
أغنية الرحيل ١
هنا
أيها الأطفالُ المنبوذون،
تتجمَّدُ كلماتي.
تعالوا،
أريدُ أن اوقِفكم على أطرافِ أصابعي،
مثل فراشاتِ الشّتاءِ.
الشمسُ الشاحبةُ كما لو أنَّها قمرٌ
تطلعُ هنا أيضاً، في هذه البلادِ،
حيث نذوقُ «الاغترابَ» حتى آخرِ نفس.
أغنية الرحيل ٢
تحدُّق فيَّ الأشياءُ
بينما أجيءُ بقدمين حافيتين لأحرِّرها،
لأحرِّر سريريَ الذي كان يودّ أن يكونَ سريري،
لأحرِّر الطاولةَ والجدرانَ
التي وعدتْ أن تأويني مثلما كانت تفعلُ جدرانُ منزلِ الطفولةِ…..
آهٍ، يا أشيائي الرقيقة، أحببتِ أن تلمّيني.
أيَّتها الأشياء،
ها ترينني أرحلُ.
فرجي يرتعشُ
فرجي يرتعشُ مثل طائرٍ صغيرٍ
تحت سطوةِ نظراتكَ.
يدك نسيمٌ عليلٌ
فَوْقَ جسديَّ.
كلُّ حرَّاسي يفرُّون.
تفتحُ البابَ الأخيرَ
فأرتعبُ
وأفرحُ
لأنَّ نوميَ قد هزلَ
مثل قماشٍ مهترئٍ.
توجُّه ليليٌّ
رأسي في جهةِ الجنوبِ
قدماي نحو الشّمالِ،
مذْ ابتعدتُ.
دوماً، قدماي نحو الشَّمالِ،
نحوك.
جسديَّ النائمُ إبرة بوصلةٍ
تنقِّب عن شمالِها.
* شاعرةٌ ألمانية ولدت عام ١٩٠٩ في مدينة كولونيا لأبوين يهوديين ينتميان للطبقةِ البرجوازية. درست هيلدا لوڤينشتاين (الصورة ـ هكذا كان اسمُها الأصليّ قبل أن تتزوّجَ وتسافرَ) الحقوق ومن ثمّ درست العلوم السياسية والفلسفة في كلٍّ من كولونيا، هايدلبيرغ وبرلين. بعدما انتقلت إلى هايدلبيرغ، تعرَّفت إلى طالبِ علم الآثار وابن أحدِ التجّار ڤالتر پالم، ومن ثم التحقت به في ايطاليا سنة ١٩٣٢ لتكملَ دراستِها هناك. لكن بعد وصول هتلر إلى السلطة، أصبحت منفيّةً لا تقدر على العودةَ إلى بلدها. تزوّجت الشّاب پالم وكانا يعتاشان من اللغةِ بصورة مباشرة، حيث تدرّس هي اللغة الالمانية وتترجم أبحاث زوجها العلمية. بعدئذ غادرا معاً من روما عبرَ باريس، فكندا ومن ثمّ جمهورية الدومينيكان، حيث استقرّا. عملت هيلدا هناك في الترجمة وإعطاء دروس تعليم اللغة. توفّي والدها سنة ١٩٤٢ في المنفى الأميركي. وفي سنة ١٩٥١ توفيت والدتها في
ألمانيا.
كان لوفاة والديها أثر بالغ في نفسِها، هي التي عاشت شبابها غريبةً تائهة في جهات الأرض، وجدت في الكتابة الخلاصَ النفسيّ والبديل الأنجع للانتحار. في ١٩٥٣، حصلا على منحة في ألمانيا وعادا، بعدئذ أخذت هيلدا دومين (لقب «دومين» نسبة إلى جمهورية دومينيكان التي آوتهما وحيث بدأت الكتابة) تصدر دواوينها الشعرية تباعاً وكذلك العديد من المقالات الأدبية والاجتماعيةِ الناقدة، ونشرت روايةً واحدةً. تُرجمت قصائدها إلى لغات عديدة ونالت كثيراً من الجوائز.
كلمات
العدد ٣٣٦٩ السبت ١٣ كانون الثاني ٢٠١٨
(ملحق كلمات) العدد ٣٣٦٩ السبت ١٣ كانون االثاني ٢٠١٨