سؤال تقسيم سورية –مقالات مختارة-
فكرة التقسيم الفاشلة/ فايز سارة
ليست فكرة تقسيم سوريا بجديدة، ولا هي مقترنة بما شهدته البلاد من تطورات كارثية في السنوات الخمس الماضية، بل هي أقدم من ذلك، إذ بدأت قبل تشكيل الكيان السوري بصورته الحالية، وكانت فرنسا دولة الانتداب على سوريا، عملت في عشرينات القرن الماضي على تقسيم سوريا إلى خمس دول، لكنها فشلت، وتم طي المشروع عمليًا، وسط أسباب عدة أهمها إصرار السوريين على وطن واحد يجمعهم.
لكن إفشال السوريين لمشروع تقسيم سوريا، لم يمنع أصحاب الفكرة، والطامحين لتحقيقها من إعادة طرحها مرات في العقود الأخيرة، ولعل الأهم في تلك الأطروحات، أطروحة إسرائيلية لتقسيم سوريا، أطلقها الإسرائيلي عوديد عينون مطلع الثمانينات في إطار فكرة أعم لتقسيم المشرق العربي، مستغلاً الضعف الذي ضرب المنطقة، ولا سيما في لبنان وفلسطين، والحرب التي شنها نظام حافظ الأسد على الشعب السوري أواخر السبعينات ومذابحه في حماة وحلب وتدمر وعشرات آلاف القتلى ومثلهم من السجناء، وأكثر من مائتين وخمسين ألفًا، هاجروا أو تم تهجيرهم نتيجة سياسة الأسد الدموية. ثم أعيد طرح فكرة تقسيم سوريا مؤخًرا من أطراف متعددة، كانت آخرها أطروحة أميركية، شارك في الكلام عنها رسميون ورجال استخبارات سابقون، أكدوا أن التقسيم واحد من الحلول الممكنة للقضية السورية، وما شهدته سوريا من صراعات وتطورات في السنوات الخمس الماضية.
ورغم أن سنوات الصراع، والسياسات الطائفية، التي رفع نظام الأسد رايتها ومارسها عمليًا، تركت جروًحا عميقة في الحياة السورية، وقادت إلى ظهور تجاذباب وانقسامات دينية وطائفية وعرقية في أوساط بعض السوريين وفي بعض بلدان المنطقة، وولدت قوى منظمة ذات طبيعة دينية وطائفية وعرقية لدفع سوريا وبلدان في المنطقة نحو انفجار، يعتبر الصراع السني الشيعي أهم أدواته، فإن فكرة تقسيم سوريا وبعض بلدان المنطقة بشكل عام، ما زالت بعيدة عن الواقع، وأساس هذا البعد يكمن في عوامل، الأهم فيها عامل إقليمي دولي، يجعل من الصعب إعادة رسم خرائط جديدة في المنطقة، على أساس ديني أو طائفي أو عرقي نتيجة التداخلات الديموغرافية، والاختلاطات القائمة في مستوى الإقليم، وداخل العدد الأكبر من دوله، والذهاب إلى تقسيم أي واحدة من تلك الدول، سيفتح الباب أمام تقسيم الدول الأخرى، الأمر الذي يعني صراعات وحروبًا، وما يليها من مهجرين ولاجئين، يحتاجون جهوًدا وأموالاً ووقتًا، لن يستطيع العالم كله، أن يحتملها أو يتحملها.
العامل الآخر الذي يجعل تقسيم سوريا وبلدان في المنطقة بعيدة الاحتمال، أساسه عدم وجود حامل سياسي واجتماعي محلي أو إقليمي لفكرة التقسيم، وهذا مثبت في مواقف الأنظمة السياسية، كما في أفكار الجماعات السياسية الرئيسية ومواقفها، والأمثلة في هذا كثيرة، إذ تعارض أنظمة المنطقة النزعات الانفصالية والتقسيمية بصورة أساسية، وهو ما تؤكده غالبية الجماعات السياسية في اتجاهاتها الرئيسية، ولعل المثال الأوضح في الأخيرة، معارضة تشكيلات المعارضة السورية للتقسيم، رغم كل ما أحاطت بالوضع السوري من تطورات وأحداث وتجاذبات في السنوات الماضية. غير أن ذلك كله لا يمنع من قول، إن بعض الأنظمة في المنطقة، لا تمانع، إنما تشجع التقسيم ومنها إيران في دعمها نزعات انفصالية في بعض البلدان، ونظام الأسد في سوريا الذي مارس تصعيد النزعات الطائفية ودعمها في بلدان أخرى، والأمر نفسه موجود في أفكار ومواقف بعض الأحزاب والجماعات السياسية الصغيرة، وذات التأثير المحدود في بعض بلدان المنطقة.
ومثلما يغيب الحامل السياسي القوي لفكرة تقسيم الدول في المنطقة وفي سوريا، فإن الحامل الاجتماعي القوي مفقود هو الآخر. فما زالت الأكثريات في بلدان المنطقة، أقرب إلى التعايش والاستمرار في كياناتها الوطنية، حتى الحديثة منها مثل الأردن ولبنان، والتي عاشت تجارب مرة نتيجة صراعات وانقسامات، كادت تشتتها وتقسمها في مراحل سابقة، وقد جعلت الفكرة من الماضي بعد أن أثبت الواقع، أن فاتورة الانقسام، أكثر تكلفة من فاتورة الاستمرار في الكيان الواحد، ولعل تجربة الكيان الكردي في شمال العراق مثال على عدم نجاعة مشروع الانفصال عن العراق، وعزوف شيعة العراق وسنته عن التوافق على تقسيم العراق، هو مثال آخر على غياب الحامل الاجتماعي لفكرة التقسيم في دول المنطقة.
وإذا كان من الصحيح، أن فكرة التقسيم صعبة وضعيفة وبعيدة، فإن من الصحيح أيًضا أن فكرة بقاء الدول القائمة على نحو ما هي عليه في طبيعتها الاستبدادية الديكتاتورية، صارت أطروحة غير قابلة للبقاء والاستمرار، مما بات يتطلب دولاً جديدة في المنطقة، تقوم على مفاهيم الدولة الحديثة، وخصوًصا مفاهيم الحرية والكرامة والعدالة وحقوق الإنسان، وهذه كلها لا توفرها الدول القائمة على النزعات الدينية والطائفية والعرقية، بل توفرها دولة المواطنة، التي هي بديل للدولة الحالية، أكثر مما هي الدول الناتجة عن عمليات تقسيم الدول القائمة.
كاتب وصحافّي سورّي، وعضو الهيئة السيّاسيّة في الإئتلاف الوطنّي لقوى الثورة والمعارضة حاليا ومستشار سياسي واعلامّي لرئيس الإئتلاف
الشرق الوسط
تقسيم سورية… جذوره وحيثياته وصعوبة تنفيذه/ عمر كوش
خلال نقاشاتنا السياسية، قبل الثورة السورية، كانت كلمة «تقسيم سورية»، تثير حساسية وامتعاضاً ورفضاً، من غالبية السوريين، خصوصاً القوى السياسية، فضلاً عن أنها كانت من المحرمات والمحظورات، تعاقب سلطة نظام الأسد كل من يدعو إليها أو يتبناها، أو حتى يشير إليها، عقاباً شديداً، يصل إلى اتهامه بالخيانة والعمالة، ورميه في السجن.
كان واقع الحال، يشير إلى أن جذور تقسيم سورية، كانت تنمو شيئاً فشيئاً مع ممارسات الفئة المتسلطة في النظام الذي كان يرفع شعار الأمة العربية الواحدة، مع حرصه على تغييب أشكال السياسة، وإحكام الرقابة على الشعب السوري ومكوناته، الاثنية والدينية والعشائرية.
وجاءت الثورة السورية في آذار (مارس) 2011، كي تعبّر عن لحظة إعادة الاعتبار للسياسة، ولعودة المجتمع السوري إليها بهدف تحويلها إلى فاعلية اجتماعية، سياسة لها فضاؤها العام، الذي يتسع للجميع، وقد أطلق ناشطوها شعارات ضد تسلُّط السلطة على المجتمع، وممارساتها التقسيمية، وبناها الثقافية، التمييزية والإلحاقية والتهميشية، فكان «واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد»، أحد الشعارات المؤسسة للثورة السورية.
ولعل حراك الثورة الاحتجاجي السلمي، الذي يندرج في حقل السياسة، كان رداً على سنوات طويلة من التغييب والإقصاء والتهميش، وموجّهاً ضد الشعارات الأيديولوجية المزيفة للسلطة، التي تقفز فوق الوطني إلى القومي، منادية بوحدة الأمة العربية، فيما تمارس أجهزتها تقسيماً مذهبياً ومناطقياً وإثنياً، وتعمل على إلحاق سورية، وطناً وشعباً، بما يخطط له حكام وملالي إيران، الذين توغلوا في تنفيذ مشروع قومي توسعي، هدفه الهيمنة، وتحكمه عقلية الثأر من تاريخ مضى، وينظر إلى سورية على أنها تجمُّع سنّي معاد، يجب تغيير بنيته الديموغرافية وإعادة هندسته اجتماعياً، لذلك لم يتوان حكّام إيران عن حشد أنواع الميليشات التي أنشأوها في العالم العربي وخارجه، ودفعوا بها إلى سورية، للقتال إلى جــانب النظام الأسدي المستبد.
وركّز داعمو النظام وحلفاؤه، خصوصاً الإيرانيين والروس على إجهاض حلم السوريين باستعادة الحرية والكرامة، وحرمانهم من الانتقال إلى دولة مدنية ديموقراطية. وقاموا بفعل كل شيء، لقتل الثورة، وحرفها عن مسارها وأهدافها، وسلكوا شتى الوسائل لإدخال سورية في أتون حرب إقليمية ودولية، بإقحام ميليشيات الحرس الثوري وميليشيا «حزب الله» الإرهابي وسائر الميليشيات المذهبية، العراقية والأفغانية وسواها.
ولا شك في أن عوامل أخرى، داخلية، ساهمت في ذلك، خصوصاً بعد محاولات ضرب الثورة، ومنعها من تجسيد إجماع وطني قويّ، حيث ظهر أن ممارسات النظام الأسدي التفتيتية والتقسيمية فعلت فعلها لدى قطاعات من الطيف السوري، فضلاً عن إسهامات القوى الإقليمية والدولية، التي لا تنظر إلى سورية إلا بوصفها موقعاً جيوسياسياً مهماً بالنسبة إليها.
وأخذت أحاديث التقسيم تطفو شيئاً فشيئاً، مع سيل التحليلات والتصوُّرات التي تحاول رسم مستقبل لسورية والسوريين.
ومع تحوُّل الأزمة الوطنية العامة، التي سببها تعامل النظام مع «مشاة الثورة العزّل»، إلى ما يشبه الحرب العبثية، أو ما يزيد ، خصوصاً مع التدخُّلين الإيراني والروسي، بدأت أفكار التقسيم تلقى رواجاً في النقاشات والتحليلات، بل تجد متحقّقها على الأرض.
ولعل أول مُتحقَّق لمحاولات تقسيم سورية حدث في الشمال السوري، مع تشكيل كانتونات الإدارة الذاتية، التي فرضها حزب الاتحاد الديموقراطي (PYD)، الذي يُعتبر نسخة سورية لحزب العمال الكردستاني (PKK)، حين أرسى دعائم ما يشبه دويلة لشعب، له برلمان، دعاه «مجلس شعب غربي كردستان»، وشكل قوات عسكرية، دعاها «قوات حماية الشعب»، وشكّل أيضاً شرطة معروفة باسم «أسايش»، لعبت دوراً كبيراً في ملاحقة وقمع الناشطين الأكراد المختلفين مع توجُّهات الحزب وممارساته التي تمخّضت أيضاً عن حكومة ودستور ونظام تعليمي خاص بأجندته.
وأثيرت شكوك حول علاقته بالنظام الأسدي، منذ أن سحب النظام قواته وأجهزته من المناطق ذات الغالبية الكردية، وتركها في عهدة مسلحي هذا الحزب، الذين سبق أن تمركزوا فيها منذ ربيع العام 2011، وهناك من يرجع العلاقة إلى ما قبل انطلاق الثورة السورية، ويسوق حججاً.
وليس حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي وحده من استغل المتغيرات في سورية، بل النظام الأسدي وتنظيم الدولة «داعش» أيضاً، إذ تحدّث الأسد عن «سورية المفيدة»، التي تعني بالنسبة إليه دويلة علوية، فيما أقام تنظيم داعش «دولة الخلافة»، الأمر الذي بات يبرر المخاوف على وحدة سورية، فضلاً عن محاولات بعض الفصائل المسلحة، الإسلامية الجهادية، تنفيذ أجنداتها الخاصة، بعدما عبّأت فراغ القوة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام الأسدي، وراحت تقيم سلطة الأمر الواقع على رغم إرادة معظم السكان الرافضين لتوجهاتها وممارساتها.
ولعل تسليط الضوء على بعض نماذج الهدنات التي يعقدها النظام وحلفاؤه مع المقاتلين، يظهر مسعى النظام التقسيمي، إذ يتم إخراج المقاتلين ومن تبقّى من سكان المناطق المحاصرة، وترحيلهم إلى سورية الأخرى «غير المفيدة».
والملاحظ أن الإيرانيين والنظام يلجأون إلى التغيير الديموغرافي، من خلال شن حرب شاملة، بالتزامن مع الحصار والتجويع والقصف والترهيب، وبعد إنهاك المناطق المستهدفة، يجرى عقد هدنات، تفضي إلى ترحيل مقاتليها وسكانها، واستبدالهم بآخرين، إما إيرانيين أو من «حزب الله» والميليشيات العراقية، أو آخرين من شمال سورية، ويعوّل النظام وحلفاؤه على أن يتحوّل المستوطنون الجدد جزءاً من كتلة طائفية متراصة.
واشترى تجار إيرانيون عقارات وأراضي في أحياء من العاصمة دمشق وفي حلب وحمص، إضافة إلى توطين عائلات لمقاتلي «حزب الله» وميليشيات أفغانية في مناطق مختلفة من العاصمة ومن حمص ودرعا والسويداء، ويدخل في هذا السياق قيام أثرياء النظام، وخصوصاً رامي مخلوف، ابن خال الأسد، بإقامة مشاريع إنشائية ضخمة في دمشق، بعد تهديم وجرف بعض الأحياء والمناطق، مثل حي القابون وبرزة وسواهما.
والأخطر، ما تقوم به الأجهزة الاستخبارية والعسكرية من مصادرة لممتلكات اللاجئين، بعد أن أصبح أكثر من نصف الشعب السوري إما لاجئاً أو نازحاً، وباتت ممتلكات هؤلاء مستباحة من أزلام النظام والشبيحة والأجهزة الاستخبارية، كأن هؤلاء الفارين من القتل والسجون لم يعودوا سوريين، في نظر النظام، تطبيقاً لما قال الأسد من أن سورية ليست لمن يحمل جنسيتها، بل لمن يدافع عنها، أي أنه في معيار الأسد الفاقد الشرعية والأهلية، لم تعد سورية للسوريين، بل ملكاً للميليشيات الإيرانية وميليشيا «حزب الله» والمرتزقة الأفغان والعراقيين وسواهم، ممن يقاتلون دفاعاً عن النظام، ولا شك في أن سورية وفق هذه المعيارية أيضاً باتت للمحتلين الروس.
واليوم، ليس خافياً أن نظام الأسد وحلفاءه الإيرانيين والروس، يسعون إلى تقسيم سورية إلى كانتونات، ومحاولة إفراغ المدن والبلدات والمناطق من سكانها، المنتمين للأكثرية، وتوطين سواهم من أقلية بعينها، الأمر الذي يفسر إصرار نظام الأسد على عدم السماح لسكان حمص القديمة بالعودة إلى بيوتهم، بعد توقيع الهدنة، والأمر نفسه ينطبق على باقي المناطق التي يرحّل مقاتلوها ومدنيوها إلى سورية الأخرى.
في المقابل، تدعم روسيا قوات حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي عسكرياً، وقامت بفتح ممثلية لهذا الحزب في موسكو، إقراراً منها بدعم مشروع الكانتون الانفصالي في شمال سورية، وفي الوقت نفسه، لا تستهدف غارات مقاتلاتها «تنظيم الدولة»، في شكل جدّي، في حين أن غاراتها على مناطق سيطرته تستهدف المدنيين بالدرجة الأولى، تنفيذاً للسعي الروسي، إلى تمكين «تنظيم الدولة»، كونها تدرك جيداً أنه الوجه الآخر للنظام.
طموح النظام وحلفائه الروس والإيرانيين في سورية المفيدة، لن يتحقق، ليس لأنه لا يمتلك أي مشروعية فقط، بل لأن النظام وحلفاءه ليس همهم الحفاظ على طائفة بعينها، أو الانتصار لها، بل هم يستخدمون الطائفة العلوية وقوداً في حربهم الخاسرة، كما أن أي كيان انقسامي سيعاني من اهتراء داخلي، يفضي إلى هلاكه، في ظل نظام دموي، سقط منذ اليوم الأول للثورة السورية.
وحديث التقسيم تردّد أخيراً على لسان وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، مترافقاً مع التهديد بالخطة «ب»، ولقي صداه في كلام نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف حول اعتماد النظام الفيديرالي للحكم المستقبلي في سورية، الأمر أثار مخاوف وتساؤلات حول التناغم بين التحذير الأميركي من وجود خطة بديلة في حال فشل تطبيق الهدنة في سورية، وبين التفضيل الروسي لسورية كونفيديرالية.
وتنهض مقولة التقسيم على أن مجريات الحرب خلال السنوات الخمس أفرزت واقعاً جديداً، يعكس الجماعات الموجودة على الأرض، بناء على روابط قومية أو دينية مذهبية، وتسيطر قوى عسكرية تمثلها لحمايتها والدفاع عن حقوقها. وهي مقولة تفقد صدقيتها أمام حقيقة أن أياً من القوى العسكرية المسيطرة لا يمثل أي جماعة بعينها في سورية، قوميّة كانت أم دينية، فلا «داعش» يمثل السنّة ولا نظام الأسد يمثل العلويين ولا حزب الاتحاد الديموقراطي يمثل الأكراد السوريين، بل هم يمثلون قوى مغتصبة للأرض، ويسعون إلى سلب إرداة السوريين، بعد تفريقهم إلى جماعات منفصلة ومكونات، فيما ردّت تظاهرات السوريين في الرابع من آذار (مارس) الجاري على دعوات الانفصال برفع شعارات الثورة الأولى، والتي زينها شعار «واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد»، و «لا للتقسيم» و«لا للفيديرالية» و«لا للطائفية».
* كاتب سوري مقيم في تركيا
الحياة
من وراء تقسيم سورية؟/ سامح راشد
تستعد أطراف الأزمة السورية لاستئناف مسار التفاوض، فيما يبدو محاولة لإظهار أن العملية التفاوضية لم تمت بعد، وأن المسار السياسي لا يزال صالحاً ليكون مدخلاً إلى إنهاء الأزمة. وهو أمر يدعو إلى الريبة، أكثر من التفاؤل، فأسباب فشل جولة المفاوضات الأخيرة، قبل أقل من شهرين، لا تزال قائمة، بل ازدادت تعقيداً. وفي حين لم يتحرك أي طرف لتفكيك العقد التي أفشلت التفاوض، طفت على السطح فكرة تقسيم الدولة السورية الموحدة. سواء في شكل دولة فيدرالية، أو بالتقسيم الكامل والرسمي إلى دويلات مستقلة. ليس هذا المستقبل لسورية جديداً في طروحات المحللين والمراقبين، لكنه جديد على المواقف الرسمية، العلنية على الأقل. من هنا، يمكن اعتبار التصريحات الأميركية، والتعليقات الروسية عليها، بمثابة انتقال فكرة التقسيم من الغرف المغلقة، والتداولات البحثية والتشاورية، إلى نطاق التنفيذ الفعلي، وإن استغرق ذلك بضع سنوات. وكما هو معروف في عالم السياسة والدبلوماسية، الإعلان عن فكرة أو مشروع، حتى وإن جاء في سياق التحذير منه أو استباقه بالرفض، يعني أنه لم يعد مستحيلاً، وصار قابلاً للنقاش والأخذ والرد. وما يبدأ برفضٍ أو تحذير، كثيراً ما ينتهي إلى قبول جزئي، بل وأحياناً كلي. وهذا بالضبط ما يمكن استنتاجه من المواقف الأميركية أخيراً، وتصريحات الوزير جون كيري التي حذّر فيها من تقسيم سورية، ما لم ينجح المسار السياسي في تسوية الأزمة. ليبارك ما ذهب إليه، قبل أسابيع، الرئيس السابق للاستخبارات الأميركية، من أن دولاً في الشرق الأوسط لم تعد كما كانت، ولن تعود أبداً، ومنها سورية وليبيا.
تروج الدوائر الرسمية السورية، بمشاركة حكومات عربية، مقولة أن الثورة السورية هي المسؤولة عما آلت إليه الأوضاع هناك، باعتبارها عملاً تآمرياً مخططاً مسبقاً. ما يعني أن الشعب السوري هو من يتحمل مسؤولية التقسيم المتوقع، بل وكذلك التشريد والتقتيل والدمار الذي أصاب هذا الشعب نفسه. بينما يذهب النظام (الذي يتهم الغرب وواشنطن خصوصاً بمعاداته والتآمر عليه) للتفاوض برعاية وتنسيق روسي أميركي مباشر وحصري. وهو المنطق نفسه الذي تتبناه دول وأطراف عربية وإقليمية، بادعاء الاستنفار لصد المؤامرة والوقوف في وجه المؤامرة. فيما هي تشارك فعلياً في تجيير مصير الدولة السورية باتجاه التقسيم. بدعم نظامٍ لا يفعل شيئاً سوى تقتيل شعبه، بحجتي الحفاظ على الدولة ومواجهة “الإرهاب”. فيما الحاصل، منذ خمس سنوات، أن النظام هو الباقي، فيما الدولة تنهار ثم تتفكك، وها هي توشك على التقسُّم. بينما الإرهاب المزعومة مواجهته يستفحل، ويثبت أقدامه، ويوسع نطاق سيطرته وانتشاره.
وعلى الرغم من أن المعارضة السورية تعاني، بشدة، حالياً من ضيق الخيارات وصعوبة البدائل المتاحة أمامها، إلا أنها تتحمل شقاً من مسؤولية انهيار سورية، وذلك بالاختلاف والتشتت والتنازع الذي ساد فصائلها منذ الأشهر الأولى للثورة. حتى وصل الحال إلى أن الالتئام بين صفوفها لم يعد كافياً لتحقيق انتصارات عسكرية، أو انتزاع مكاسب واحتلال مساحات سياسية.
لكن، تظل تلك مسؤولية ثانوية، تالية لمسؤولية الأطراف الأقوى الأكثر تأثيراً وقدرة على تحريك الأحداث، والتحكم في وتيرتها ووجهتها، أي الولايات المتحدة وروسيا. بل إن الدول والأطراف صاحبة المسؤولية الفرعية لم تكن لتتبنى موقفاً كهذا، ما لم تكن مطمئنة تماماً لجهة رد الفعل الأميركي والروسي، وأنه لا فيتو عملياً على دعم نظام بشار الأسد في مواجهة شعبه.
كالعادة، يسبق العالم العرب دائماً حتى في الشر، فقد بدأت تتوالى إشارات الاعتراف بتقسيم سورية، أو بالأحرى التبشير به، بينما لا يزال العرب يلوكون حديث الدولة والاستقرار، وهم يعلمون يقيناً أنه حديث زور ومخاتلة.
العربي الجديد
الخطة الروسية لتقسيم سوريا/ تسفي برئيل
سرغي ريفكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، ألقى في هذا الاسبوع قنبلة سياسية عندما قال «اذا قرر السوريين أن تكون سوريا دولة فيدرالية، فلا أحد يمكنه منع ذلك… آمل أن الاطراف المشاركة في المفاوضات تقوم بفحص فكرة الفيدرالية».
فجأة الجميع يتحدثون عن الفكرة الروسية الجديدة ـ تقسيم سوريا إلى كانتونات على نمط سويسرا واقامة حكم فيدرالي مع مقاطعات فيها حكم ذاتي، كحل محتمل للازمة السورية. التقديرات التي لم يتم نفيها حتى الآن هي أن الادارة الأمريكية ايضا، في ظل غياب خطط عمل بديلة، لن تعارض. هذا رغم تأييد الأمريكيين حتى الآن لاقامة حكومة سورية تسيطر على سوريا موحدة مثل العراق. المغزى الفعلي للاقتراح الروسي اذا تحقق، هو أنه ليس الأكراد في سوريا فقط يمكنهم السيطرة على مقاطعة فيها حكم ذاتي والتي أعلن عنها ـ بل ايضا تكون للعلويين مقاطعة خاصة بهم. والمقصود كما يبدو مقاطعة اللاذقية التي فيها ايضا المعسكرات البحرية واغلبية المعسكرات الجوية لروسيا. ويبدو أن مقاطعة درعا ايضا في الجنوب ستحظى بحكم ذاتي.
إن ميزة هذه الخطة، حسب مؤيديها في سوريا، هي أن صلاحيات الاسد ستقلص وتقتصر سيطرته على السياسة الخارجية والدفاع عن الدولة في مواجهة الاعداء الخارجيين. في المقابل، خوف المعارضة، كما عبر عنه جورج صبرا وهو احد الاشخاص البارزين، هو أن «اهداف روسيا تلتقي مع اهداف اعداء سوريا، من اسرائيل وحتى طهران». روسيا في حينه يمكنها البقاء في سوريا بشكل دائم وبشكل رسمي تقريبا، أما إيران فستستمر في فرض الاجراءات السياسية داخل الدولة عن طريق الاسد.
الامر الطبيعي أن الاكراد في سوريا الذين يحظون في الايام الاخيرة بالهدوء من هجمات الجيش السوري ويظهرون كمتعاونين مع النظام، يؤيدون الفكرة. وحدات الدفاع الشعبي للاكراد نجحت في هذا الاسبوع في السيطرة على أحد الطرق المهمة التي تربط بين حلب المحاصرة وبين ادلب التي كانت تحت سيطرة المتمردين. وبهذا يستكمل الاكراد الحصار الذي فرضه الجيش السوري على حلب، هذه السيطرة لا تساعد الجيش السوري فقط بل تعطي الاكراد مناطق جغرافية تربط بين مناطق الحدود مع تركيا التي يسيطرون عليها وبين الجزء المركزي لسوريا. هذا التطور يعتبر في نظر تركيا تهديدا حقيقيا لاستراتيجيتها التي تقضي بمنع سيطرة الاكراد على منطقة الحدود بين تركيا وسوريا. هدف الاتراك هو منع الاكراد من انشاء تواصل يجد الارضية لمنطقة كردية ذات حكم ذاتي مثل المنطقة الكردية في العراق.
تجد تركيا نفسها الآن في صراع ثلاثي. أهمه ضد الاكراد وضد تعزيز العلاقات بين واشنطن والاكراد. حيث يحصل الاكراد على مساعدات مالية وسياسية من الولايات المتحدة على أمل أن يكون الاكراد هم القوة الحربية الاساسية ضد داعش في سوريا، ولا سيما طرد داعش من الرقة. الصراع الثالث لتركيا موجه إلى روسيا التي تدهورت العلاقة معها في اعقاب اسقاط الطائرة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر.
في أنقرة يعتبرون أن الفكرة الروسية لاقامة فيدرالية في سوريا تهدف إلى الحاق الضرر بمصالحها الاستراتيجية والتأثير على الحرب ضد المنظمات الإرهابية الكردية وتقليص تأثير تركيا في الخطوات السياسية لحل الازمة السورية.
إلا أن الفكرة الفيدرالية ما زالت عالقة في الاطار النظري. ومن اجل تحقيقها، ليس فقط المليشيات المتمردية يجب أن توافق عليها، بل ايضا الاسد الذي لا يسارع إلى التنازل عن طموحه في السيطرة على جميع الدولة، ايضا بعد اقامة الحكومة المؤقتة.
وفي الوقت الحالي تزداد التقارير حول خرق وقف اطلاق النار من قبل النظام والمليشيات. وما زال غير واضحا اذا ومتى ستتوفر الكتلة الضخمة للاخلالات التي ستحسم اذا كان وقف اطلاق النار سيستمر أو سيتم استئناف النار بكامل قوتها، كما يهدد المتمردون اذا استمر النظام في اطلاق النار نحوهم.
روسيا والولايات المتحدة تنسقان فيما بينهما عملية الرقابة على وقف اطلاق النار. وقد تبادلتا في هذا الاسبوع الخرائط التي وضعت عليها مواقع «المليشيات القانونية» والمواقع المسموح فيها اطلاق النار والتي يسيطر عليها داعش وجبهة النصرة. هناك ايضا خط ساخن أمريكي يُمكن المنظمات السورية من تقديم التقارير حول خروقات وقف اطلاق النار، لكن تبين في هذا الاسبوع أنه لم يكن في الايام الاخيرة من يتلقى الاتصالات بسبب النقص في متحدثي اللغة العربية.
فرنسا بالتحديد ناشطة جدا في الرقابة على خروقات وقف اطلاق النار. وبمبادرة منها اجتمع في يوم الاثنين في جنيف ممثلو الدول ذات الصلة بالمفاوضات من اجل النقاش في ادعاءات المعارضة حول خروقات وقف اطلاق النار. النشاط الفرنسي غير منفصل عن الصلة السياسية الآخذة في الازدياد بين فرنسا والسعودية، الدولتين اللتين تشكان في اهداف روسيا الحقيقية في سوريا. فالسعودية على يقين أن سوريا قد تجد نفسها تحت سيطرة روسية ـ إيرانية تمنع تأثير المملكة ـ ليس فقط في سوريا بل في لبنان ايضا. ولصلات فرنسا مع السعودية توجد مصلحة اخرى مهمة هي أنها تطمح لتكون ماكينة التنفس لعملية السلام بين اسرائيل والفلسطينيين.
يتوقع أن يكون اليوم لقاء بين ولي العهد ووزير الداخلية السعودي، الامير محمد بن نايف، وبين الرئيس الفرنسي فرانسوا اولاند. الاثنان سيلتقيان لنقاش امكانية تأييد السعودية لمبادرة السلام الفرنسية كونها صاحبة المبادرة العربية من 2002. وفي سياق الاسبوع سيلتقي وزير الخارجية الفرنسي جان مارك آيرو مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مصر. آيرو سيحاول اقناع السيسي بالانضمام إلى المبادرة الفرنسية التي تخطط لعقد مؤتمر سلام في نيسان حيث سيتم دعوة ممثلو اسرائيل والفلسطينيين. اسرائيل، كما هو معروف، تعارض هذه المبادرة. وفي المقابل، الرئيس الفلسطيني محمود عباس باركها، خلافا لحماس التي قالت أمس إنها تعارضها لأن هدفها المعلن هو اجراء نقاش سياسي مع اسرائيل.
وليس واضحا ما الذي سينتج عن هذه المبادرة. ولكن كي تنجح فرنسا في حياكة هذه الخطوة تحتاج إلى تأييد السعودية. والسعودية لا تقدم نفسها بدون مقابل. فالسعودية تتوقع من فرنسا أن تتعاون في الموضوع السوري واللبناني وأن تعارض الخطوات السياسية لروسيا وإيران. هذه الدائرة السياسية التي تربط بين فرنسا والسعودية ومصر وسوريا، توضح إلى أي حد اسرائيل غير قادرة على أن تقف غير مبالية تجاه الخطوات العسكرية في سوريا. وأكثر من ذلك، التعامل مع الحركات السياسية التي تعقد تحالفات مرتبطة بالمصالح في سوريا وبين العملية السياسية الاسرائيلية الفلسطينية.
هذه الخطوات بعيدة عن اهتمام سكان حلب وقراها الذين يقعون تحت حصار الجيش السوري. فهم يعانون من النقص في مياه الشرب والكهرباء التي انقطعت وعدم وجود الادوية الحيوية. ويضطر السكان لشراء المياه المعدنية للشرب وباسعار باهظة ومن اجل الاستحمام التنظيف يستخدمون المياه الملوثة بعد غليها. احدى المهن الجديدة التي نشأت في حلب هي «حارس الدور»، شباب يحصلون على عدد من الليرات السورية من اجل أخذ دور في الطوابير الطويلة على خزانات المياه. وبدون المياه في حلب، اذا استمرت القوات السورية بمنع دخول الغذاء والدواء إلى المدينة، فان مليشيات المتمردين قد تعمل على افشال استمرار العملية السياسية، حيث أن رفع الحصار هو أحد شروط موافقتها على المفاوضات. وفي يوم الاربعاء القادم سيكون مؤتمر آخر في جنيف، والسؤال هو كم من المياه ستتدفق حتى ذلك الوقت في انابيب حلب.
هآرتس 6/3/2016
القدس العربي
الحسم الميداني قبل البحث في نظام سوريا السياسي؟/ د. عصام نعمان
■ لغط كثير أثاره تصريحٌ حول خيار الفدرالية منسوب إلى نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف.
التصريح جاء رداً على سؤال متبوعاً بتأكيد أن الفدرالية او أي خيار آخر سيكون نتيجةً لمحادثات ومناقشات بين السوريين أنفسهم، حول شكل نظام الدولة السورية في المستقبل، مع الحرص على وحدة البلاد واستقلالها وعلمانية دولتها.
بعض الأوساط الكردية في محافظة الحسكة السورية، كما في كردستان العراق، بَنَت على تصريح المسؤول الروسي توقعات ومخططات فيها الكثير من الخيال. بعضها الآخر كان أكثر رصانة، بتأكيده على أن أكراد سوريا جزء من الشعب السوري الذي يؤمن بوحدة سوريا ومركزية دولتها وتحصين حال التعايش بين مختلف فئات شعبها.
إزاء اتساع اللغط حول تصريح ريابكوف، أوضحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، «أن بناء الدولة السورية يقرره السوريون انفسهم من خلال الحوار». هذا التوضيح يؤكد موقفاً قديماً لموسكو حرصت على ترجمته دائماً في قرارات مجلس الامن الدولي، بأن مستقبل سوريا يقرره السوريون أنفسهم. دمشق بدَت متأكدة من ثبات موقف روسيا في هذا المجال. فصحيفة «الأخبار» نسبت إلى مصدر سوري رفيع قوله «إن تحليلات ما بعد تصريح ريابكوف هي محاولات لتخريب العلاقات السورية – الروسية، وأن لا حل خارج الحفاظ على كامل الأراضي السورية».
حتى لو كان الروس جادين في طرح الفدرالية في الوقت الحاضر، فإن أي بحث جدّي في شكل نظام الدولة في المستقبل لا يعقل أن يبدأ قبل حسم الصراع في الميدان. ذلك أن تنظيميّ «داعش» و»النصرة» ما زالا يسيطران على مساحات شاسعة من البلاد ولا سبيل، تالياً، إلى تنفيذ ما قد يتفق عليه السوريون في ما بينهم قبل تحريرها من محتليها. كما لا يغيب عن أذهان أطراف الصراع جميعاً أن قرار مجلس الامن الدولي 2268 والاتفاق الثنائي الامريكي- الروسي ينصّان على استثناء «داعش» و»النصرة» من قرار وقف الأعمال العدائية.
سوريا،اذن، مستمرة في حربها الدفاعية على جميع تنظيمات الإرهاب في أراضيها ايّاً كانت الأطراف الدولية أو الإقليمية التي تمولها وتسلحها وتؤازرها. ولا سبيل، تالياً، إلى انخراط حكومتها في محادثات جدية حول شكل نظام الدولة قبل انتهاء الحرب، أي قبل هزيمة التنظيمات الإرهابية وتحرير جميع المناطق التي تسيطر عليها.غير أن أولوية الحسم الميداني لا تحجب حقيقة بازغة هي صعوبة نجاح الجيش السوري في استئصال «داعش» و»النصرة» وأمثالهما من دون دعم عسكري وازن من روسيا، وتنسيق فاعل مع العراق الذي يواجه مع سوريا عدواً مشتركاً. فهل ثمة تحفظ روسي في توفير الدعم المطلوب للجيش السوري؟
ظاهرُ الحال يشير إلى أن موسكو جادة في توفير الدعم السياسي والعسكري لدمشق، ولاسيما في مجلس الأمن الدولي وفي السلاح والعتاد والقصف الجوي لمواقع الإرهابيين. مع ذلك، ثمة مصالح واعتبارات مهمة تضعها موسكو في الحسبان ومن الطبيعي أن تراعيها في تعاونها مع سوريا ضد الاعداء المشتركين. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فإن لروسيا مصالح واعتبارات تحرص على مراعاتها مع الولايات المتحدة ومن شأنها أن تترك هي الاخرى تأثيراً في تحديد اشكال الدعم العسكري الروسي على الارض.
لذلك، يُستحسن في هذه الآونة طرح اسئلة استيضاحية:
هل ثمة اتفاق ضمني امريكي- روسي على إقامة كيان حكم ذاتي للاكراد السوريين في شمال شرق سوريا؟
اذا كان الجواب ايجابياً، هـــل ينطوي الاتفاق على الحؤول دون وصول «وحدات حماية الشعب» الكردية السورية إلى المناطق الحدودية في غرب سوريا، أي إلى منطقة عفرين؟
هل ثمة ضغوط امريكية على روسيا للحؤول دون قيام الجيش السوري بعمليات عسكرية شرق نهر الفرات، أي في محافظتيّ الرقة ودير الزور، ضد تنظيم «داعش» الذي تستخدمه الولايات المتحدة ظرفياً في إطار مخططها الرامي إلى إقامة كيان حكم ذاتي للعراقيين من اهل السنّة في محافظتيّ نينوى والأنبار المحاذيتين لمحافظتيّ الرقة ودير الزور السوريتين؟
هل تستأخر دمشق تحرير محافظتيّ الرقة ودير الزور إلى ما بعد تحرير محافظة ادلب من «النصرة» ومن ثم تركّز على مقاتلة «داعش» شرق نهـــــر الفرات بالتنسيق مع العراق وبالتزامن مع هجوم جيشه المرتقب لتحرير مدينة الموصل؟
هل تسعى تركيا إلى مشاغلة الجيش السوري على حدود محافظة ادلب، ومشاغلة «وحدات حماية الشعب» الكردية في مناطق اعزاز وجرابلس الحدودية إلى حين الانتهاء من الانتخابات الرئاسية الامريكية املاً في فوز الجمهوريين بالرئاسة وما يمكن أن يجرّه ذلك من تغيير في سياسة الولايات المتحدة يجعلها أكثر تشدداً مع سوريا وايران؟
من الصعب توفير أجوبة مفيدة في الوقت الحاضر عن كل هذه الاسئلة، لأن حكومات الدول المعنية، ولاسيما إدارة أوباما، حريصة على عدم كشف أوراقها قبل أشهر معدودة من اجراء انتخابات الرئاسة واحتمال انتقال السلطة في الولايات المتحدة إلى الجمهوريين الاكثر تشدداً.
ماذا عن سوريا؟
الأكيد انها حريصة، بالدرجة الاولى، على تحرير كامل اراضيها المحتلة من «داعش» وأمثاله قبل الخوض في اي بحث حول شكل نظام الدولة في المستقبل.
٭ كاتب لبناني
القدس العربي
الأكراد والأمريكيون يؤيدون مقترحا روسيا لتقسيم سوريا لمناطق حكم ذاتي/ تسفي برئيل
سيرغي ريفكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، ألقى في هذا الاسبوع قنبلة سياسية عندما قال “اذا قرر السوريين أن تكون سوريا دولة فيدرالية، فلا أحد يمكنه منع ذلك… آمل أن الاطراف المشاركة في المفاوضات تقوم بفحص فكرة الفيدرالية”.
فجأة الجميع يتحدثون عن الفكرة الروسية الجديدة – تقسيم سوريا الى كانتونات على نمط سويسرا واقامة حكم فيدرالي مع مقاطعات فيها حكم ذاتي، كحل محتمل للازمة السورية. التقديرات التي لم يتم نفيها حتى الآن هي أن الادارة الامريكية ايضا، في ظل غياب خطط عمل بديلة، لن تعارض. هذا رغم تأييد الامريكيين حتى الآن لاقامة حكومة سورية تسيطر على سوريا موحدة مثل العراق.
المغزى الفعلي للاقتراح الروسي اذا تحقق، هو أنه ليس الاكراد في سوريا فقط يمكنهم السيطرة على مقاطعة فيها حكم ذاتي والتي أعلن عنها – بل ايضا تكون للعلويين مقاطعة خاصة بهم. والمقصود كما يبدو مقاطعة اللاذقية التي فيها ايضا المعسكرات البحرية واغلبية المعسكرات الجوية لروسيا. ويبدو أن مقاطعة درعا ايضا في الجنوب ستحظى بحكم ذاتي.
إن ميزة هذه الخطة، حسب مؤيديها في سوريا، هي أن صلاحيات الاسد ستقلص وتقتصر سيطرته على السياسة الخارجية والدفاع عن الدولة في مواجهة الاعداء الخارجيين. في المقابل، خوف المعارضة، كما عبر عنه جورج صبرا وهو احد الاشخاص البارزين، هو أن “أهداف روسيا تلتقي مع اهداف أعداء سوريا، من إسرائيل وحتى طهران”. روسيا في حينه يمكنها البقاء في سوريا بشكل دائم وبشكل رسمي تقريبا، أما ايران فستستمر في فرض الاجراءات السياسية داخل الدولة عن طريق الاسد.
الامر الطبيعي أن الاكراد في سوريا الذين يحظون في الايام الاخيرة بالهدوء من هجمات الجيش السوري ويظهرون كمتعاونين مع النظام، يؤيدون الفكرة. وحدات الدفاع الشعبي للاكراد نجحت في هذا الاسبوع في السيطرة على أحد الطرق المهمة التي تربط بين حلب المحاصرة وبين ادلب التي توجد تحت سيطرة المتمردين.
وبهذا يستكمل الاكراد الحصار الذي فرضه الجيش السوري على حلب، هذه السيطرة لا تساعد الجيش السوري فقط بل تعطي الاكراد مناطق جغرافية تربط بين مناطق الحدود مع تركيا التي يسيطرون عليها وبين الجزء المركزي لسوريا. هذا التطور يعتبر في نظر تركيا تهديدا حقيقيا لاستراتيجيتها التي تقضي بمنع سيطرة الاكراد على منطقة الحدود بين تركيا وسوريا.
هدف الاتراك هو منع الاكراد من انشاء تواصل يجد الارضية لمنطقة كردية ذات حكم ذاتي مثل المنطقة الكردية في العراق.
تجد تركيا نفسها الآن في صراع ثلاثي. أهمه ضد الاكراد وضد تعزيز العلاقات بين واشنطن والاكراد. حيث يحصل الاكراد على مساعدات مالية وسياسية من الولايات المتحدة على أمل أن يكون الاكراد هم القوة الحربية الاساسية ضد داعش في سوريا، ولا سيما طرد داعش من الرقة.
الصراع الثالث لتركيا موجه الى روسيا التي تدهورت العلاقة معها في اعقاب اسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. في أنقرة يعتبرون أن الفكرة الروسية لاقامة فيدرالية في سوريا تهدف الى الحاق الضرر بمصالحها الاستراتيجية والتأثير على الحرب ضد المنظمات الارهابية الكردية وتقليص تأثير تركيا في الخطوات السياسية لحل الازمة السورية.
إلا أن الفكرة الفيدرالية ما زالت عالقة في الاطار النظري. ومن اجل تحقيقها، ليس فقط المليشيات المتمردية يجب أن توافق عليها، بل ايضا الاسد الذي لا يسارع الى التنازل عن طموحه في السيطرة على جميع الدولة، ايضا بعد اقامة الحكومة المؤقتة. وفي الوقت الحالي تزداد التقارير حول خرق وقف اطلاق النار من قبل النظام والمليشيات. وما زال غير واضحا اذا ومتى ستتوفر الكتلة الضخمة للاخلالات التي ستحسم اذا كان وقف اطلاق النار سيستمر أو سيتم استئناف النار بكامل قوتها، كما يهدد المتمردون اذا استمر النظام في اطلاق النار نحوهم.
روسيا والولايات المتحدة تنسقان فيما بينهما عملية الرقابة على وقف اطلاق النار. وقد تبادلتا في هذا الاسبوع الخرائط التي وضعت عليها مواقع “المليشيات القانونية” والمواقع المسموح فيها اطلاق النار والتي يسيطر عليها داعش وجبهة النصرة. هناك ايضا خط ساخن امريكي يمكن المنظمات السورية من تقديم التقارير حول خروقات وقف اطلاق النار، لكن تبين في هذا الاسبوع أنه لم يكن في الايام الاخيرة من يتلقى الاتصالات بسبب النقص في متحدثي اللغة العربية.
فرنسا بالتحديد ناشطة جدا في الرقابة على خروقات وقف اطلاق النار. وبمبادرة منها اجتمع في يوم الاثنين في جنيف ممثلو الدول ذات الصلة بالمفاوضات من اجل النقاش في ادعاءات المعارضة حول خروقات وقف اطلاق النار. النشاط الفرنسي غير منفصل عن الصلة السياسية الآخذة في الازدياد بين فرنسا والسعودية، الدولتين اللتين تشكان في اهداف روسيا الحقيقية في سوريا.
فالسعودية على يقين أن سوريا قد تجد نفسها تحت سيطرة روسية – ايرانية تمنع تأثير المملكة – ليس فقط في سوريا بل في لبنان ايضا. ولصلات فرنسا مع السعودية توجد مصلحة اخرى مهمة هي أنها تطمح لتكون ماكينة التنفس لعملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين.
يتوقع أن يكون اليوم لقاء بين ولي العهد ووزير الداخلية السعودي، الامير محمد بن نايف، وبين الرئيس الفرنسي فرانسوا اولاند. الاثنان سيلتقيان لنقاش امكانية تأييد السعودية لمبادرة السلام الفرنسية كونها صاحبة المبادرة العربية من 2002.
وفي سياق الاسبوع سيلتقي وزير الخارجية الفرنسي جان مارك آيرو مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في مصر. آيرو سيحاول اقناع السيسي بالانضمام الى المبادرة الفرنسية التي تخطط لعقد مؤتمر سلام في نيسان حيث سيتم دعوة ممثلو إسرائيل والفلسطينيين. إسرائيل، كما هو معروف، تعارض هذه المبادرة. وفي المقابل، الرئيس الفلسطيني محمود عباس باركها، خلافا لحماس التي قالت أمس إنها تعارضها لأن هدفها المعلن هو اجراء نقاش سياسي مع إسرائيل.
وليس واضحا ما الذي سينتج عن هذه المبادرة. ولكن كي تنجح فرنسا في حياكة هذه الخطوة تحتاج الى تأييد السعودية. والسعودية لا تقدم نفسها بدون مقابل. فالسعودية تتوقع من فرنسا أن تتعاون في الموضوع السوري واللبناني وأن تعارض الخطوات السياسية لروسيا وايران. هذه الدائرة السياسية التي تربط بين فرنسا والسعودية ومصر وسوريا، توضح الى أي حد إسرائيل غير قادرة على أن تقف غير مبالية تجاه الخطوات العسكرية في سوريا. وأكثر من ذلك، التعامل مع الحركات السياسية التي تعقد تحالفات مرتبطة بالمصالح في سوريا وبين العملية السياسية الإسرائيلية الفلسطينية.
هذه الخطوات بعيدة عن اهتمام سكان حلب وقراها الذين يقعون تحت حصار الجيش السوري. فهم يعانون من النقص في مياه الشرب والكهرباء التي انقطعت وعدم وجود الادوية الحيوية. ويضطر السكان لشراء المياه المعدنية للشرب وباسعار باهظة ومن اجل الاستحمام التنظيف يستخدمون المياه الملوثة بعد غليها. احدى المهن الجديدة التي نشأت في حلب هي “حارس الدور”، شباب يحصلون على عدد من الليرات السورية من اجل أخذ دور في الطوابير الطويلة على خزانات المياه.
بدون المياه في حلب، اذا استمرت القوات السورية بمنع دخول الغذاء والدواء الى المدينة، فان مليشيات المتمردين قد تعمل على افشال استمرار العملية السياسية، حيث أن رفع الحصار هو أحد شروط موافقتها على المفاوضات. وفي يوم الاربعاء القادم سيكون مؤتمر آخر في جنيف، والسؤال هو كم من المياه ستتدفق حتى ذلك الوقت في انابيب حلب.
هآرتس العبرية
الرد السوري: عام 2016 ليس سايكس بيكو 1916/ كمال ديب
يتحفنا الإعلام العربي والغربي المعادي لسوريا من حين لآخر بتصريحات وإعلانات مذهلة ليست سوى جزء من حرب البروباغندا القائمة منذ سنوات. فواكب هذا الإعلام مثلاً ظهور تنظيم داعش الإرهابي في صيف 2014 بحملة مبالغة على أنّه «ألغى خريطة سايكس بيكو».
وهو كلام كشفت الأيام أنّه ينتمي إلى الكوميديا الهزلية أكثر منه إلى علم الاستراتيجيا. وهناك تصريح تافه لمايكل هايدن، الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية في مقابلة مع محطة CNN عربية في 26 شباط 2016، يقول فيه إنّ «الذي نراه هو… انهيار في الحدود التي تم ترسيمها في معاهدات فرساي وسايكس بيكو». ويضيف: «ويمكنني القول بأنّ سوريا لم تعد موجودة والعراق لم يعد موجوداً ولن يعود كلاهما أبداً، ولبنان يفقد الترابط وليبيا ذهبت منذ مدة». وأقل ما يمكن قوله في تصريحات كهذه انّها هراء من بنات خيال هوليودي خصب كما سنبيّن في هذه المقالة.
فسوريا والعراق دولتان موجودتان، ولبنان بخير نسبياً، كما ليس ثمّة دلائل بأنّ ليبيا قد «ذهبت». وثمّة فرق بين ما يتمناه الإعلام المعادي وما هي الحقيقة على الأرض.
هل هناك سايكس بيكو جديد؟
أهداف الحرب الحالية على سوريا هي أولاً القضاء على سوريا كنموذج نادر من الدول التي تحافظ على سيادتها الوطنية في زمن العولمة الجارف والنيوليبرالية الزاحفة. وثانياً القضاء على سوريا آخر معاقل العروبة العلمانية الأفضل إشراقاً في تاريخ العرب المعاصر. وثالثاً حسم الصراع العربي الإسرائيلي لمصلحة إسرائيل وإنهاء القضية الفلسطينية. ورابعاً، شقلبة خرائط سايكس بيكو التي قسّمت المنطقة عام 1916.
ولكن السؤال هنا هو: هل ترقى جهود أميركا وحلفائها في سوريا والعراق إلى مستوى تغيير خرائط وإسقاط دول؟
ثمّة أموال طائلة أنفقت لضرب سوريا منذ 2005 وتُحسب بمئات المليارات. وبعض هذه الأموال أنفق لشراء ذمم سوريين في ائتلافات ومجالس خارجية قدّمت مدافع إعلامية يومية لا غير، عبر فضائيات وصحافة وإذاعة، للدسّ والتحريض ضد سوريا. ومعها مئات وسائل الإعلام العربية والأجنبية تضخ ضد سوريا، وتصريحات دائمة لزعماء عرب وغربيين عن ضرورة تنحّي الرئيس السوري واحتمال تقسيم سوريا و«صعوبة» إنهاء تنظيم «داعش» (لأنّه وليدهم)، الخ.
المجموعات المسلحة والحملات الدبلوماسية والإعلامية هي كلّها وسائل حرب، لكنّها غير كافية لتغيير خرائط، بل تشبه كثيراً محاولة إسرائيل «تغيير وجه المنطقة» عام 1982 بمجرّد اجتياحها للبنان، ليتبيّن لها ضخامة هدفها وضآلة ما وظّفته من إمكانات عسكرية وإعلامية ودبلوماسية. وغني عن القول إنّ المشروع الإسرائيلي فشل بعد شهرين من انطلاقه، بدءاً من تراجع إسرائيل عن بيروت في أيلول 1982 ثم بعودة المقاومة الفلسطينية واللبنانية بدعم سوري إلى ضاحية بيروت في أيلول 1983. ومنذ ذلك الوقت، أثبت لبنان الصغير مرّة بعد مرّة مناعته تجاه إسرائيل ومَن وراءها من عرب وغربيين، كما كان عصيّاً على التقسيم رغم 15 عاماً من الحرب على أرضه. فإذا كانت هذه تجربة لبنان، فكيف بسوريا القويّة وتحالفاتها الإقليمية والدولية؟
الهدنة خدعة حرب
تباكى المعسكر المعادي لسوريا على مصير منطقة حلب بعد الإنجازات التي حقّقها الجيش السوري وحلفاؤه هناك، كما تباكى عام 2012 خلال معركة مدينة حمص. ولئن كانت معركة حلب حاسمة للحرب، فثمّة «يوفوريا» تريد إبطاء عجلة الجيش السوري عبر جزرة وقف القتال والعودة إلى جنيف. ونمطية الكرّ والفرّ هذه رسمت الحرب السورية منذ 2013، وباتت معروفة ومتوقعة: يرسل أعداء سوريا جحافل طازجة كل عام بعد تسليحها وتدريبها ــ من «جيش حر» ثم «جبهة نصرة» ثم «داعش» ــ فتهزم سوريا وحلفاؤها الموجة الأولى فيُكثر الأعداء الكلام المعسول عن حل سلمي وعن تهدئة وما إلى هنالك ويقبلون عقد الاجتماعات واللقاءات والمؤتمرات في جنيف وميونيخ. ثم يتبيّن لاحقاً أنّها فترة استراحة تفصل سوريا عن هجوم عسكري جديد يحضرون له ويرسلون جحافل جديدة، وعندها يتراجعون عن الكلام السلمي ويعودون إلى منطق الحرب وضرورة تنحي الرئيس السوري وتسليم البلاد للجحافل القاتلة.
وقرار مجلس الأمن 2268 بوقف القتال في 27 شباط 2016 هو فصل من هذا السياق الكاذب: هو هدنة لأعداء سوريا لالتقاط أنفاسهم ولتحضير مجموعات جديدة، جاء في وقت كاد الجيش السوري وحلفاؤه يصلون الحدود التركية ويقفلون مصدر الشرور. وتهيّئ الإدارة الأميركية بصراحة للخطوة التالية من العدوان، إذ أرفقت قرار مجلس الأمن بتصريحات مريبة وسلبية أنّ عدم نجاح وقف القتال سيجعل أميركا تتخذ خطوات بديلة. وهذه رسالة إلى جحافل الغزاة ووراءها تركيا والسعودية، أن تبذل جهدها لإفشال القرار الأممي على الأرض تمهيداً لمرحلة جديدة.
سوريا 2016 ليست سوريا 1916
في المواجهة السورية الإسرائيلية في لبنان من نيسان 1981 إلى شباط 1984 اكتشف الرئيس السوري حافظ الأسد بعداً استراتيجياً عزّز مناعة سوريا حتى اليوم، ذكره بالتفصيل لكاتب مذكراته باتريك سيل: «أنّه يمكن لدولة صغيرة من دول العالم الثالث كسوريا أن تصمد بوجه الولايات المتحدة وتنتصر».
ثمّة
حقائق تاريخية تظهر
أنّ
الاستعمار ليس
قدراً لا يردّ
ذلك أنّ قوات الحلف الأطلسي والجيش الإسرائيلي كانوا في لبنان عام 1982 تواجههم سوريا وحيدة إلى جانب فصائل فلسطينية ولبنانية صغيرة. وما حدث أنّ سوريا صمدت في البقاع ودعمت هذه الفصائل في بيروت والجبل حتى دفعت أميركا إلى الفرار من لبنان وأجبرت الرئيس أمين الجميّل على أن يحضر صاغراً إلى دمشق في شباط 1984 ويلغي اتفاق 17 أيار مع إسرائيل. وسوريا بعد مواجهة إسرائيل في لبنان باتت أقوى بكثير ودولة محورية إقليمية يحسب لها ألف حساب. واليوم صمدت خمس سنوات من الحرب الكونية عليها، فبقي الرئيس بشار الأسد وبقيت دولتها وحكومتها وأجهزتها وجيشها وجهازها الدبلوماسي وبرامجها الاجتماعية وحضورها العربي والدولي. وليس من المنطق مطلقاً الكلام عن تغيير خريطة اتفاق سايكس بيكو وعن تقسيم سوريا.
نعم، كان زمن الحرب العالمية الأولى مناسباً لمعاهدة سايكس بيكو (عام 1916) التي قسّمت سوريا عام 1920. ولكن ثمّة حقائق عن تلك الأيام تظهر أنّ الاستعمار ليس قدراً لا يردّ. ففرنسا آنذاك جزّأت منطقة نفوذها إلى ستة أقاليم: دويلة درزية في الجنوب ودويلة علوية على الساحل ودولة لبنان الكبير بأغلبية مسيحية، ودويلة سنيّة في الشمال (حلب) ودويلة سنيّة في الوسط (دمشق) ومنطقة نفوذ اقتصادي في الجزيرة (القامشلي) ولواء في الإسكندرون وأعطت كيليكيا لتركيا. ولكن الشعب السوري رفض التجزئة فانتفض وخاض ثورة كبرى في العشرينيات انطلقت من «الدويلة الدرزية» ودامت بضعة أعوام ومنعت فرنسا بالقوة من تنفيذ مشروعها حتى أنهت الدويلات وولدت جمهورية سورية موحّدة إلى جانب الجمهورية اللبنانية. الحقيقة كانت أنّ شعباً اعتبرته فرنسا مغلوباً على أمره لأنّه خارج من 400 عام من الحكم التركي ولا حول ولا قوة له، منع تنفيذ مؤامرة سايكس بيكو إلى حد كبير.
لن ينجح سايكس بيكو جديد
على أعداء سوريا أن يراجعوا كتب التاريخ ليعرفوا أنّ فرنسا في عشرينيات القرن العشرين احتاجت إلى مئات آلاف الجنود (بدأت بـ 160 ألف جندي ووصلت إلى 300 ألف) واستثمارات ضخمة لتثبيت احتلالها وتنفيذ سايكس بيكو في سوريا الضعيفة التي لم يزد عدد سكانها على بضعة ملايين. ولذلك، فالأكيد أنّ إعادة رسم الخرائط اليوم لا يعدو كونه أضغاث أحلام. فسوريا اليوم دولة مركزية ــ رغم أزمتها ــ وجيشها منتشر في كل أنحائها وحكومتها نشطة وأسلحتها استراتيجية وجاهزة.
وثانياً، أثبتت الحرب السورية بهتان حدود سايكس بيكو لمصلحة سوريا. فكان من الطبيعي أن يقف إلى جانب سوريا ولبنان والعراق وفلسطين، في وجه سلسلة من الأعداء ــ تركيا وإسرائيل وممالك النفط جنوباً. وهذا العمق الجغرافي يمكّنها لو احتاج الأمر من رفد الساحات بمئات ألوف الجنود والمقاتلين لمواجهة أي غزو أجنبي شبيه بغزو العراق. وإنّها لمفارقة أن لا يجد أعداء سوريا قوات محلية أصيلة من شعوب العراق ولبنان وفلسطين لضرب سوريا فيستجلبون مرتزقة عرباً وأجانب من 80 دولة.
وثالثاً، سوريا تتمتّع دوليّاً بدعم روسيا وإيران، وهو ما لم يكن متوفراً للعراق عام 2003، والأكيد لم يكن متوفراً لبلاد الشام عام 1918.
إنّ أي مسّ بخرائط المشرق العربي لا يحتاج إلى أقل من حرب عالمية وحضور عسكري دائم لقوى كبرى. وهو غير متوفّر أو لا يلوح في الأفق، ولا تستطيع أي دولة إقليمية أو مجموعة دول إقليمية تطبيقه. ويبقى الحراك الأميركي وحده إذا قرّر أن يرسل قوة عسكرية يجب أن تكون أضخم بكثير مما أرسله إلى العراق، لا أن يدير حرباً بالوكالة عبر قطر وتركيا وإسرائيل والسعودية. وأميركا ليست فاعلة هذا، فهي منذ نيسان 2009 أعلنت بلسان رئيسها الجديد باراك أوباما أنّ زمن خوض أميركا حروباً بجنودها مباشرة على الأرض قد انتهى. وهي تحاول تطبيق سياستها بالدبلوماسية وبليّ ذراع حلفائها الأوروبيين والعرب والآسيويين لتنفيذ مآربها.
الحرب خدعة، وحرب سوريا ليست استثناءً، وإحدى خدع الحرب ادّعاء العدو الجنوح نحو التهدئة والسلم، بينما تكون النيات أكثر شرّاً بالنسبة إلى المرحلة المقبلة من سابقتها. وربّما كانت المرحلة المقبلة المزيد من المعارك، إلا أنّها لن ترقى إلى مستوى تغيير خرائط. ولذلك، يأملُ كثيرون أن تعود إلى البيت الأبيض في كانون الثاني 2017 إدارة مغامِرة تجدّد زمن الحملات الكبرى.
* أستاذ جامعي
الأحبار
الأسد لن يسيطر فماذا عن ديكتاتور آخر؟/ روزانا بومنصف
صدرت في الأيام الماضية مجموعة مواقف أبرزت أهمية وحدة سوريا ومعارضة تقسيمها. ورد ذلك في بيان وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي الذين أكدوا مواقفهم الثابتة في الحفاظ على وحدة سوريا واستقرارها وسلامتها الاقليمية، فيما أعلن رئيس الحكومة التركية أحمد داود اوغلو اثر زيارة لطهران ان تركيا وايران ضد تقسيم سوريا. وكان الرئيس الايراني حسن روحاني أعلن نهاية الاسبوع الماضي ان بلاده تدافع كما قال عن وحدة سوريا وسيادة الدولة على كامل أراضيها، معبرا عن وجود خلاف مع روسيا حول فدرلة سوريا. هذه المواقف تعاقبت على أثر موقف نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف “ان موسكو تأمل أن يتوصل المشاركون في المفاوضات السورية الى فكرة انشاء جمهورية فيديرالية، معتبرا ان على السوريين وضع معايير محددة للهيكلية السياسية في سوريا مستقبلا تعتمد على الحفاظ على وحدة اراضي البلاد بما في ذلك امكان انشاء جمهورية فيديرالية”. أوحت الردود ان الاقتراح الروسي قد يكون ممكنا او جديا او بالون اختبار. والفكرة كما تقول مصادر معنية ليست بعيدة من بعض دوائر القرار في عدد من العواصم المؤثرة والمعنية بالوضع في سوريا، انطلاقا من ان الفدرلة أحد السيناريوات الذي يستمر يرد من ضمن الحلول المفترضة للوضع السوري، وهو سيناريو لا يعني التقسيم في ظل أشكال متعددة للفيديرالية ونماذجها متعددة في انحاء العالم. فالمقاربة للحل في سوريا في رأي هذه المصادر مبنية في أحد جوانبها على انه قد يكون مستحيلا إعادة السيطرة على كل الاراضي السورية، حتى بعد التخلص من “داعش”، نظرا الى مسؤولية بشار الاسد عن مجموعة من الجرائم ارتكبها من موقعه رئيسا للبلاد، والتي لن تقبل طوائف أساسية ومرجحة كالطائفة السنية أن تندرج تحت حكمه مجددا، كما انه سيستحيل على دول العالم حتى لو تغيرت اداراتها وفقا لانتخاباتها الديموقراطية ان تقبل التعامل مع الاسد تبعا للاتهامات التي اطلقتها ضده، ومن بينها مسؤوليته عن جرائم حرب ارتكبها ضد شعبه، ولكونه لن يكون قادرا على ان يوحد سوريا بطوائفها ومجموعاتها المتعددة، وهو الأمر الذي كان دافعا للسكوت عنه دوليا طيلة أعوام، على رغم أن دولا عدة تتهم نظام الاسد الاب ثم الابن بمجموعة جرائم آخرها اتهام محكمة اميركية نظام بشار الاسد بمسؤوليته عن تفجير إرهابي حصل في الاردن عام 2005. أما رحيل الاسد، فيبدو أن دولا عدة اقتنعت بأنه لن يحل مشكلة الحرب الاهلية في سوريا، وان يكن هو سببا مباشرا في اندلاعها. وما حصل في ليبيا والعراق لجهة التخلص من معمر القذافي وصدام حسين لم يساعد هذين البلدين، لكن ما حصل ايضا في مصر حيث استعين بقائد عسكري مكان حكم “الاخوان المسلمين” يجعل الناس تترحم على حكم الرئيس حسني مبارك، وفق بعض المواقف الغربية، انطلاقا من أن التخلص من ديكتاتور أفضى الى ديكتاتور آخر وفق ما ترى دول عدة الوضع في مصر مع حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، والسكوت عن ذلك هو من اجل منع ذهاب مصر الى الفوضى المماثلة لما هي حال ليبيا والعراق، وعدم حاجة الغرب الى مشكلة اضافية خصوصا في بلد أساسي ومحوري على غرار مصر. وهذا يعني ان البديل من بشار الاسد ربما يكون ديكتاتورا آخر قد يعيد توحيد سوريا وتقبل به المجموعات الطائفية والاثنية السورية، مع بعض التغييرات الاساسية في التركيبة السورية تعطي هذه المجموعات حصة في الحكم. فالمسار التفاوضي الذي يتحدث عن حكومة جديدة ثم دستور جديد قبل الذهاب الى انتخابات جديدة يتقرر على اساسها بقاء الاسد أو رحيله، هو محاولة كسب وقت سياسي في ظل تهدئة للحرب وتداعياتها التي أخافت الغرب بقوة، ولا سيما منها الدول الاوروبية. ومع التسليم الطوعي الغربي لروسيا بقيادة الحل في سوريا في ظل تراجع ملموس للولايات المتحدة، أقله في السياق الراهن وما لم تطرأ متغيرات على الموقف الاميركي مع الادارة المقبلة، فإن هدوء الجبهات وتراجع وتيرة الحرب سيترك المجال واسعا لروسيا دفع الامور في الاتجاه الذي تريد تماما كما كان تعب الغرب والعرب من لبنان زمن الحرب وتركوا لسوريا ان تحدد حيثيات تنفيذ اتفاق الطائف وفق ما تريد. ومعلوم أنها حققت ما تريد في تدخلها العسكري، أي مساعدة النظام على استرجاع مناطق، بما سمح بتعديل التوازنات على الارض لمصلحته، ثم الدفع في اتجاه وقف الاعمال العدائية، ثم مفاوضات سياسية على أساس الواقع الجديد وفي ظل موقع أضعف للمعارضة في ظل التخلي الغربي عنها وتعبه من موضوعي الارهاب واللاجئين.
من هذه الزاوية ينظر البعض بجدية الى الاقتراح الروسي، وإن كان يهدف الى إبقاء الاسد لإدراك سوريا انه سيستحيل عليه اعادة توحيد سوريا تحت سلطته، وسيبقى البلد مضطربا على نحو دائم، فيما لا تستطيع روسيا ان تبقى مستنفرة للدفاع عنه. وكان انطلاق التظاهرات السلمية في حلب بعد وقف القصف، الدليل الابرز على أن لا عودة الى الوراء بالنسبة الى الشعب السوري. ولذلك ربما تجد فكرة الفيديرالية ميدانا خصبا.
النهار