ساحات الكراهية/ فوّاز حداد
يبدو عالم وسائل التواصل الاجتماعي عالماً من المساواة، يحقّ لأي فرد فيه الإدلاء برأيه، دون النظر إن كان سديداً أو مأفوناً، رائعاً أو سخيفاً، ولا تحفّظ عليه من ناحية صحّته وكذبه، أو خفّته وثقله… إنه عالم بلا ضوابط سوى الحرية.
البشر عصيون على الانضباط، وربما تأهيل هذا العالم ليصبح عن عمد ساحة افتراضية للتحرّر، مهمة جديرة بالعمل عليها لئلا تعود بنا عشوائية الحرية إلى الاستبداد، وذلك بتخليصها من الشوائب، ولا غرابة، فهي لا تُحصى؛ فالآراء البلهاء، والأحكام الخرقاء، والانتقادات المسفّة، تنمّ عن ضحالة في التفكير، غير أن الحرية الطليقة لا تسمح بالمنع والحظر، لئلا تؤثر في هذا التسيّب المرغوب فيه.
المؤسف أن دعاة الحرية برهنوا على أنهم ورثة الطغيان والرأي الأحادي والواحد. ومن دلائله مسارعتهم إلى التخوين والتشهير والتجريص. فعدم السماح بالاختلاف ولو في التفاصيل الصغيرة، بالادعاء بأنها جوهرية، يسمح بأن تطاول حتى الضمائر، وإرسال المختلف إلى درك العمالة. أليس هذا هو الطغيان، ولو كان افتراضياً، لا سيما وقد ينسحب إلى الواقع؟
يبدو هذا الأمر عادياً، فالناس محتقنون، يصبّون غضبهم كيفما اتفق، لذلك يأخذ مجراه غالباً في غير موقعه، لنزداد فُرقة على فرقة.
وما يؤلم أننا، نحن السوريين، في الخندق نفسه، نعاني من المأساة ذاتها، والطبيعي أن يتسع صدر أحدنا للآخر. فهؤلاء الذين خرجوا من بلدهم قسراً أو خوفاً مما قد يصيبهم، غادروا الوطن ليظفروا بقدر معقول من الأمان والاطمئنان، لن يكونا البديل عن حرية لا تمارس إلا في الوطن. وما دام الملايين مضهدين في الداخل، فليست الحرية خارجه، سوى أنها مجتزأة، ومبتذلة، فهي متوافرة، لا نضال من أجلها سوى ركوب مخاطر الطريق.
ما نتمتع به على مواقع التواصل الاجتماعي حرية هشة، وهي مادة للتدرّب عليها، تنحو إلى تواصل يحقّق نوعاً ما من تبادل الكثير من الهموم. إنها حرية متوهّمة، وإذا أردناها أن تكون حقيقية، فيجب أن تنعكس علينا، لا بالشقاق، وإنما بالحوار، وتعلّم كيف نتفاهم؟ إلا إذا كان الهدف الثرثرة للثرثرة، والتخوين للتخوين، والشتائم للشتائم.
يقال إن السوريين أكثر الشعوب صراخاً من الألم، في هذا القول قدر كبير من الصحة، مع أن الأكثرية ما زالت تكابد صامتة. فالنظام الذي أطبق على أنفاسنا، أصابنا بالبكم. أما متى نتعلّم الكلام، فسوف نحتاج إلى العقل أكثر من الوقت.
الملاحظ أن التخوين عملة رائجة أيضاً في المنطقة العربية، وليس اختصاصاً سورياً. منذ زمن غير بعيد شكا السيميولوجي الإيطالي أومبرتو إيكو من انحطاط التواصل إلى هذر صفيق، ما يشير إلى أنها ظاهرة عالمية، وربما كانت طبيعة إنسانية، كأننا إذا اتهمنا الآخر بالخيانة، نؤكد على وطنيّتنا وإنسانيتنا، فلا يرقى إليهما الشك، خاصة إذا كنّا نتقصى الشبهات. هل هذا ما استدعى انقلاب مواقع التواصل إلى ساحات للكراهية؟
العربي الجديد