ساحة البازار.. الذاكرة الفولاذية لمدينة إدلب

خطيب بدلة

قد لا يوجد في العالم كله مدينةٌ تضاهي مدينة «إدلب» من حيث الخصوصية والفرادة.. ففيها تتداخلُ مقوماتُ المدينة مع مقومات الريف، على نحو لطيف، ومتناغم.

في ذاكرة مدينة إدلب أماكن مهمة عديدة،.. أهمُّها، بلا أدنى شك.. «البازار».. وهو مكان عجيب، يعبر عن حالة الالتحام القصوى بين الوضع الاقتصادي والوضع الاجتماعي للمدينة.

تطور شكلُ (البازار)، عبر عشرات السنين، حتى أصبح- اليوم- عبارة عن ساحة كبيرة تحيط بها المحلاتُ التجارية المتنوعة من كل الجهات، وتتوسطها حديقةٌ عامة كبيرة، تبتدئ، من جهة الغرب، بنصب حجري عُلقت به، في الأعلى، ساعةٌ توقيت كبيرة.. لذلك فإن بعض الأهالي يسمونها (ساحة الساعة).

بازار الحنفيات

كان بازار إدلب، قديماً، ينقسم إلى عدة (بوازير)، منها، على سبيل المثال، بازار الحنفيات.. (صنابير المياه).

وهنا يجدر بنا أن نشير إلى نقطة مهمة جداً تتعلق بمدينة إدلب، فعلى الرغم من كونها تحمل لقبين رئيسيين يدلان على الخصوبة والاخضرار هما (بلد الزيتون)، و(إدلب الخضراء)، إلا أنها، في الحقيقة، مدينةٌ قاحلة، لا تَعْبُرُها أيةُ أنهار، وأما الينابيع والمياه الجوفية فهي نادرة فيها.

كانت مياهُ الشرب في مدينة إدلب، حتى أواسط الستينيات من القرن العشرين، تُباع بالمال، ولها (بازار) يرتادُه الرجالُ والنساء من أجل تأمين حاجتهم المنزلية إلى الماء، وبالأخص مياه الشرب، وكانت وحدةُ البيع هي الصفيحة التنكية التي تسمى (التنكة) وتتسع لستة عشر ليتراً.

وكان ثمة آلة هي عبارة عن حامل خشبي عرضاني تتصل به سلاسل معدنية يُعَلَّق بكتف الرجل، وتتدلى منه تنكتان، واحدة إلى الأمام، والثانية إلى الخلف، لأجل التوازن.

وكان الشخص الذي يَنْقُلُ الماء إلى البيوت يُدعى (نَقَّال المي)، وقد أرّخ له الأديب والسيناريست السوري الراحل رياض سفلو- فنياً- ضمن تمثيلية تتحدث عن إدلب في الأربعينيات، وفيها يكون (نقال المي) قد اشترك في الثورة ضد الإفرنسيين، وأصبح مطلوباً لسلطات الاحتلال.. وكانت المياه التي يحملها النقال تنطرش أثناء مشيه على الجانبين، فتتبلل الأرض.. فإذا رأيت زقاقاً أرْضُه مبللة تقول: يبدو أن نقال المي مر من هنا!

في وقت لاحق استطاع مجلسُ مدينة إدلب تأمين حاجات المدينة من الماء بالاعتماد على الآبار الارتوازية، ثم بجر مياه نبع قريتي عرّي و«سيجر»، إضافة إلى مشروع العين الزرقا التي تقع في الجبل الوسطاني غربي إدلب.. وبذلك تم القضاء على بازار الحنفيات.. وأزيل من الوجود.. وبقي مكانه مجرد ذكريات حميمة.

بازار القش

كان النسيج الأساسي لمدينة إدلب يتألف من أغلبية إسلامية (سنية) ساحقة، وأقلية مسيحية، وعدد قليل من اليهود كانوا يسكنون في زقاق زهر.. (لم يعد لهم وجود في إدلب منذ زمن طويل).

وهي، في المحصلة العامة، مدينةٌ مُحَافِظة، ذات طابع ذكوري.. إلا أن النساء الإدلبيات ما كن يرضين بأن يعشنَ عالة على الرجال، فلجأن إلى الأشغال اليدوية، مثل شغل (الكنويشا)، وتنجيد اللحف.. وعلى نحو أساسي: «صناعة الحصر».

المادة الخام التي تُستخدم في صناعة الحصر هي القش، أو (ورق الزَّلّ).. وكان التجارُ يستوردونها من منطقة الجزيرة السورية، وبالأخص من نواحي مدينة الحسكة، وربما من العراق، وكان لها في إدلب بازار يعقد في يوم الأربعاء، حيث يأتي تجار القش، فيبيعون القش للنساء، ويشترون منهن الحصر الجاهزة التي أنجزن صناعتها خلال الأسبوع الفائت. ومن باب الاشتقاق فإن بعض الاهالي يطلقون على الأسبوع اسم (البازار)، فلا تعدم من يقول لك:

لم أجتمع بفلان منذ ثلاثة بوازير! (أسابيع).

وصناعة الحصر، يا رعاك الله، كانت لها أدوات خاصة، وثقافة خاصة.. فالعملية تبدأ بنقع القش بقليل من الماء، ثم يجري تفريضه إلى خيوط رفيعة بواسطة آلة بسيطة ذات أسنان كالمشط تدعى (الشاقوقة)، ثم يُجدل القش المفرض على شكل حبال تسمى (خيوط الفَتْل)، ويُنسج، بعدئذ على منوال يقال له (المَدَّادة)، باستخدام عَصَوَيْن تُدعى الواحدةُ منهما (عصا المسديّة)..

وكانت حجوم الحصر تسمى، بحسب حجمها، فيقال هذه حصيرة سِتَّوِيّة أو ثَمَانوية، أو عَشْرَوية، أو اثناعشروية، أو أربعتعشرية، أو ستعشروية.. وبعض النسوة اشتهرن بالمهارة، فكانت حصيرةُ المرأة الماهرة تسمى باسمها (حصيرة أم فلان)، وتُباع بعشرة قروش زيادة عن سائر الحصر الأخرى بسبب متانتها وجمال صنعها.

بوازير الكائنات

وكان ثمة جناح في «البازار» مخصص لبيع وشراء الخيول والبغال والغنم والماعز والحمير، ومن ميزات هذا البازار أنه يُعقد في الصباح الباكر، وينفض قبل أن تبدأ البوازير الأخرى. وانطلاقاً من هذا فإن أهل إدلب، حينما يعاشرون رجلاً قليل الوداد، يقولون عنه:

فلان.. صُحْبَتُهُ مثل بازار الجحاش.. تنفضّ قبل طلوع الشمس!

وكان الشخص الذي يعمل بصفة سمساراً في البازار إذا أراد إقناع زبون ما بشراء دابة ما، فإنه يقفز في الهواء بخفة، ويمتطيها، وينخسها، فتجعلها تغذ السير رهواً، فتسير به وكأنها تكسي الغرام الذي (يقرب البعيد).. على حد تعبير ليلى مراد.

وكان المنظر المألوف أن يجلس (البيطار) في جانب من البازار ويقوم بعملية الحدو.. أي تركيب حدوات نحاسية للدواب.

والأدالبة يطلقون على سمسار الدواب لقب (الجنباز).. وهي كلمة مشتقة – على الأرجح – من لاعب الجنباز الذي يقوم بألعاب خفة بهلوانية.

ومما يُروى من فصول عن بوازير الدواب أن سمساراً (جمبازاً) أراد أن يغش، فيبيع بغلاً شَموساً، شرساً، على أنه أليف، طَيِّع، فقدم له كمية من الحشيش، تناولها البغل فانسطل، وأصبح أليفاً.. اشتراه الزبون، وأخذه إلى منزله، وهنالك صحا من الحشيش، وشرع يرفس كل من يقترب منه!

بوازير الطيور

من أهم البوازير في مدينة إدلب (بازار الحَمام).. فثمة شريحة كبيرة من أهالي المدينة يهوون الحمام، يربونه لأجل الزَّقّ (التكاثر)، أو لأجل (الكَشّ).. وثمة أناس يقومون بتجارب تتعلق بتهجين أنواع من طيور الحمام، فيُساكنُ فحلاً من النوع (البربريسي) مثلاً.. مع حمامة من النوع (البرملي).. وينتظر نتيجة الزق ليرى ما هو منظر الفراخ الذي سينتج عن هذا التهجين.

نشاطات موازية

إن البازار، من جهة أخرى، هو مكان للفرجة.

كان الولد الإدلبي ينام الثلاثاء باكراً إذا وعده أبوه أن يصحبه في اليوم التالي إلى البازار.. فلا شك أن والده سيطعمه حلوى (المُشَبَّك)، وسيشتري له بعض الألعاب، وبما أنه مدلل أكثر من اللازم فسوف يسمح له بالفرجة على القرد الذي يقلد نومة العجوز وعَجن الصبية، وعلى الضبع الكاسر عدو البشرية وزوجته الضبعة التي لا تقل عنه شراسة واستعداداً لافتراس البشر..

ساحة الاعتصام

مرت على بازار إدلب، عبر السنين، ظروف وتطورات متنوعة، ولكنه موجود، وصامد.

قبل سنوات وجه مجلس المدينة ضربة موجعة للبازار حينما أحدث ما يسمى (سوق التسوق)، بالقرب من الحديقة العامة إلى الغرب من إدلب. وقد أطلق جماعة البازار عليه (سوق التسول).. فهو مكان للغش والتدليس والنهب، وفيه تُباع – كما يزعمون – البضائع الكاسدة والمخزونة لأزمان طويلة (ستوك).

المجد للبازار

أثناء الثورة السورية التي انطلقت في أواسط آذار مارس 2011 أثبت البازار أنه، بالإضافة لكل ما تقدم، مكان للأمجاد، فقد حول الثوار (ساحةَ البازار) إلى مكان للاعتصام والاحتجاج والمطالبة بالحرية والكرامة.

(كاتب سوري)

السفير