سان جون بيرس –مقالان وقصائد-
سان جون بيرس… الباحث عن ينابيع الماءفوق قشرة العالم/ أحلام الطاهر
باريس | صانع الضوء ألكسي ليجي (31 أيار /مايو 1887 ــــ 20 أيلول/ سبتمبر 1975) المعروف في الأوساط الشعرية والثقافية باسم الشهرة سان جون بيرس، كان عليه أن يأتي من هناك، من الطفولة الحقيقية، تحديداً من جزيرة «بوانت آ. بيتر» في الغوادلوب، المستعمرة الفرنسية في بحر الكاريبي. يصف إيمي سيزير هذه الجزيرة الرازحة تحت النفوذ الفرنسي بأنها «مسطحة، ممدة، متعثرة في بديهياتها، جامدة، مُصابة بوفود المارّين عليها، متمردة على مصيرها، لا صوت لها، محبَطة في كل الاتجاهات، لا تستطيع أن تأكل من ثمار أرضها، مُحرَجة، ممنوعة، مقطوعة من الرفاهية والازدهار».
يتماسّ هذا الوصف مع الأفق الشعري الوعر لسان جون بيرس الممسوس بهويته الكريولية، كان له صوت متفرّد يُخْصب مفرداته في عبوره مياه جزر الأنتيل الدافئة وسماواتِها وأقمارها، لكن يروق له أن يبني نصّاً متماسكاً كـ «داون تاون»، مزيجٌ فريد من التضمينات المعقّدة والتجريب الطليعي والسيطرة على الشكل والمعمار:«كروزو! في هذا المساء، بالقرب من جزيرتك، ستأتي السّماء لتلقي مدائحها للبحر، والصمت، سيضاعف من تعجبات النجوم المتوحّدة. أنزل الستائر، ولا تشعل الضوء: إنه المساء فوق جزيرتك ومن حولها، هنا وهناك، في كل مكان حيث يستدير إناء البحر استدارة تامة، إنه المساء لون الأجفان، فوق الدروب المنسوجة من سماء وبحر. الكل مالح، الكل لزج وثقيل كدم حي»
التحق بجامعة مدينة «بوردو» لدراسة الحقوق. هناك سحرٌ ما في بُعد المسافة، ورجل الجُزر الذاهب الى فرنسا يخلق حوله هالة مفعمة بكلمات مثل: باريس، مارسيليا، السوربون، بيغال، هذه الكلمات هي مفتاح ذبذبات السحر. يرحل من المرفأ ويهجر إحساسه بالضآلة كلما اقتربت السفينة من وجهته.
بيرس الباحث عن ينابيع الماء فوق قشرة العالم، التقط النبض الحي لروحية الشرق الأقصى العتيق ودمجه في صلب قصيدته الموصولة في الجوهر بخلفية إيمانية مسيحية وثقافية إغريقية – لاتينية، ساعياً إلى إقامة حوار بين الأشكال المجزأة والمتناثرة للحضارات واللغات. أعلن عن لونه في قصيدة «صُوَر إلى كروزويه» التي نشرت في «المجلة الفرنسية الجديدة» عام 1909 وبعدها بسنتين نشر في المجلة ذاتها قصيدته الملحمية الشهيرة «مدائح» التي خلقت حدثاً عير مسبوق في مغامرة الشعر الحديث.
دخل بيرس السلك الدبلوماسي عام 1914، وبدأ مهماته في بكين، ومنها انتقل إلى فرنسا، وعندما جرّده بول رينو وزير الخارجية الفرنسي عام 1940 من مهامه في الوزارة، اعتبر ذلك إهانة له ورفض الوظيفة المقترحة عليه، وقرر أن يأخذ درب المنفى إلى الولايات المتحدة ليصبح مستشاراً أدبياً في «مكتبة الكونغرس» في واشنطن ويحاضر في «جامعة هارفارد».
صاحب نوبل (1960) استتبع اشتغاله على اللغة ووضع انعطافات في منهج القصيدة، لكنه بقي بمعزل عن التأثر بتيارات عصره الشعرية من دادائيّة وسريالية. يُقال دونما مبالغة إن مجموعة القصائد التي تناهز الـ 120 قصيدة طويلة أو متوسطة، التي كتبها إزرا باوند تحت عنوان موحّد هو «الأناشيد» the cantos، هي الإنجاز الوحيد العظيم للغة الإنكليزية في ميدان النوع الملحمي، ربما منذ قصيدة ملتون««الفردوس المفقود» التي تعود إلى القرن السابع عشر. «مدائح» هي الأخرى ثبّتت أرضيتها من أناشيد وتأملات روحية وفلسفية وحفريات ثقافية وتاريخية مدهشة في الحضارة الحديثة، تُعيد إنشاء أكثر من ألفي سنة من التاريخ الغربي، في مونتاج من الأسطورة القديمة والشذرة التاريخية والأغنية والحكاية. وكان مدهشاً أن يحقق هذا النص المعادلة الصعبة بين إحياء الكثير من عناصر التراث، وتجريب أدوات الحداثة.
رغم هذه الأثقال، ظلت نبرته غنائية وتجلت قدرته على تطوير مجموعة كبيرة من الأشكال الشعرية التي تميّزت بمهاراتها الإيقاعية وتمثّلها لآداب آسيوية وشرقية، صينية ويابانية ومصرية وسومرية وكنعانية. كما صاغ عدداً من المفاهيم الأساسية للحداثة الشعرية، لكن قراءته لا تزال تعاني من صعوبات وعتمات، فكل قصيدة ترتبط بنسيج معقد من العلاقات التي يقيمها بين عناصر تاريخية متداخلة (استشهادات، إحالات سياسية، لسانية، فنية) كأنه يريد من القارئ أن يقف مطوّلاً عند دلالة كلماته كما لو كان أمام نص إغريقي أو لاتيني صعب.
كاترين بيدل الشاعرة والناقدة الأدبية الأميركية التي كانت على مدى 30 سنة صديقته وكاتمة أسراره. تؤكد في كتابها «سان جون بيرس من الداخل» أنه طبّق طيلة حياته استراتيجية ترمي إلى صياغة أسطورته بدقة متناهية. لقد كان الشاعر «الرسمي» يرفض التكريم والدعوات، ويشتكي من نشر أشعاره من دون موافقته ويؤكد أنه لم يكن يسعى للحصول على جائزة «نوبل». لكن المؤلفة التي تعرفه معرفة حميمة تؤكّد أنه كان رجلاً «مسكوناً بخدمة مساره الأدبي وشديد الاهتمام بأبسط مقال يُكتب عنه وهدفه كان الشهرة». لقد كان يريد أن يعطي عن نفسه صورة شاعر لا يهمه سوى فنّه، وأنه لا يريد نشر أعماله بينما كان يرسل مخطوطاته سرّاً لناشرين أو لمجلات أدبية مختصّة. «كان يسعى إلى النشر من دون إعطاء الانطباع بذلك». أما حلمه الأكبر فقد كان نشر صورته على الصفحة الأولى من الـ «نيويورك تايمز».
التقط النبض الحي لروحية الشرق الأقصى العتيق ودمجه في صلب قصيدته الموصولة بخلفية إيمانية مسيحية وثقافية إغريقية – لاتينية
وهذا ما حصل عام 1948.
بعد نشر ديوانه العتيد «أناباز» (1924)، تخطى صيت سان جون بيرس النطاق الفرنسي المحدود واخترق صوته الشعري الكثير من الآداب الوطنية الحديثة الأوروبية والأميركية واليابانية والزنوجية-الأفريقية. كما أسبغ حيوية كبيرة على الأدب العربي المعاصر من خلال التحديات التي طرحها نفَسه الملحمي وصياغاته القوية الغامضة واستبداله بحور الشعر الفرنسي التقليدية (مثل السكندري ذي الإيقاعات الإثني عشريةّ) بموسيقاه الخاصة. تعرّف إليه القارئ العربي من خلال ملحمة البحر مترامية الأطراف «منارات» التي نقلها أدونيس إلى العربية – وإن كان أعاد الصياغة بكلماته هو، والتركيب بأسلوبه، والتشكيل على وفق ما يريد، وانحاز له الشعراء التموزيون مثل جبرا إبراهيم جبرا وبدر شاکر السياب ويوسف الخال وجميعهم کانوا من شعراء مجلة «شعر».
مسألة «التناص الأدونيسي» مع سان جون بيرس، اعترف بها أدونيس في مقال في مجلته «مواقف»، ودافع عن نفسه من ناحيتي تماثل المعاني، ومفردات اللغة. نجد من بين نقاده من يذهب إلى أن بيرس هو «الذي علّم أدونيس كيف يكتب قصيدة النثر، كما نقل إليه شيئاً من ملحمتيه، ونظرته الكونية، وجلال أسلوبه، وجرأة صوره» كما كتب ماهر شفيق. وأشار كاظم جهاد إلى أن «هذا الإدغام لمقولات وجمل هائمة في التراث العربي والعالمي يخترق في الواقع، وبلا مبالغة، عمل أدونيس كله، ويكفي أمامه أن يُعمل القارئ ذهنه ويستنفر ذاكرته الثقافية ليقع على العجيب من الأخذ، الذي يخلو أحياناً من كبير تمعّن بالقول المأخوذ».
«أناباز» كتاب ألفه إكسينفون اليوناني تلميذ سقراط، يروي فيه انسحاب جيش المرتزقة اليوناني، الذي كان يقوده في وقائع مشهورة إلى داخل اليونان. والكلمة في اليونانية تعني الغزو الداخلي بعيداً من البحر. من هنا جاءت تسمية هذه القصيدة التي كتبها سان جون بيرس عندما كان موظفاً في السلك الدبلوماسي في بكين إثر رحلة في صحراء جوبي. تحكي قصة أمير بلا مملكة، يظهر في الحملة بلا انتصار ولا بداية أو نهاية، مثل عوليس بلا إيثاكا. جاء صوت أناباز موسَّعاً، ممدداً في الطبيعة والفضاء والموت وأدخل إليها ت. س. إليوت عناوين جديدة بعد ترجمتها إلى الإنكليزية.
عند مدخل القصيدة ثمة أغنية تأتي لتدق نداء البعيد «آه! ما أكثر الراحة في طرقاتنا! آه ما أكثر حكايات العالم! والغريب على هواه يضرب في مسالك الأرض كلها». مثل سندباد، بين غزوة وأخرى يحثّ الأمير فضولٌ لاهف للرحلة. وبين مدّ وجزر، يتشكّل جسد مدينة بعيدة المنال، مثل المدن التي صوّرها الرحالة الفلورنسي ماركو بولو لقبلاي خان في «مدن لا مرئية» لإيتالو كالفينو، تبقى منفى الروح الدائم ونقطة البحث عن شيء مُفتقد. يستدير بيرس نحو غربته، ليرى مدينة مغسولة بالتيارات الحارة، منسوجة من حكايات مربيات زنجيات وبحارة وجنود وبائعي توابل. تعوم على مهمل في طفولة بعيدة: «دهون/ ورائحة رجال مستعجلين، ماسخة كرائحة مجزر/حموضة أجساد النساء تحت التنورات/ يا لك من مدينة فوق السماء».
قبل وفاته بثلاث سنوات، نشرت دار «غاليمار» ضمن سلسلة البلياد، أعماله الشعرية الكاملة التي راجعها الشاعر بنفسه. من القصائد الطويلة التي تتضمّنها هذه الأعمال الكاملة إضافة إلى ما سبق ذكره «منفى» (1942)، «أمطار» (1942)، «ثلوج» (1944)، «رياح» (1946)، «منارات» (1957).
ملحق “كلمات”
ستُّ قَصائدَ للأُوقْيانوس/ سان-جون برس
ترجمة: رشيد وحتي *
1ــ مَكْتُوبٌ عَلَى الْبَابِ
لِي إِهَابٌ بِلَوْنِ التَّبْغِ الْأَحْمَرِ أَوِ الْبَغْلِ،
لِي قُبَّعَةٌ مِنْ نُخَاعِ الْبَيْلَسَانِ كَاسِيًا بِقُمَاشٍ أَبْيَضَ.
أَنَفَتِي تَتَجَلَّى فِي كَوْنِ ابْنَتِي بَالِغَةَ الْجَمَالِ عِنْدَمَا تَأْمُرُ النِّسْوَةَ الزِّنْجِيَّاتِ،
بَهْجَتِي، فِي أَنْ تَكْتَشِفَ ذِرَاعًا بَالِغَ الْبَيَاضِ بَيْنَ دَجَاجَاتِهَا الْبِيضِ؛
وَفِي أَنْ لَا تَخَجَلَ أَبَدًا مِنْ وَجْنَتِي الْخَشِنَةِ تَحْتَ الزَّغَبِ، عِنْدَمَا أَدْخُلُ مُتَوَحِّلًا
2
فَأَنَا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ أَمُدُّ لَهَا كِرْبَاجِي، قِرْبَتِي وَقُبَّعَتِي.
وَهْيَ تَبْتَسِمُ، تُبْرِئُنِي مِنْ مُحَيَّايَ الرَّقْرَاقِ؛ وَتَأْخُذُ نَحْوَ وَجْهِهَا يَدَيَّ الْمُدَسَّمَتَيْنِ لِأَنِّي تَحَسَّسْتُ لَوْزَةَ الْكَاكَاوِ، حَبَّةَ الْقَهْوَةِ.
ثُمَّ تَأْتِينِي بِمِنْدِيلٍ ضَاجٍّ أَعْتَمِرُهُ قُبَّعَةً؛ بِفُسْتَانِي الصُّوفِ؛ بِمَاءٍ نَقِيٍّ لِغَسْلِ أَسْنَانِي وَأَنَا صَامِتٌ:
وَمَاءُ طَشْتِي هَا هُنَا؛ وَأَنَا أُصْغِي لِمَاءِ الْحَوْضِ فِي خَزَّانِ الْمَاءِ.
*
الرَّجُلُ صُلْبٌ، ابْنَتُهُ رَقِيقَةٌ. فَلْتَكُنْ مُنْتَصِبَةً دَوْمًا
عِنْدَ عَوْدَتِهِ فَوْقَ أَعْلَى دَرَجٍ مِنَ الْبَيْتِ الْأَبْيَضِ،
وَهِيَ تُبْهِي حِصَانَهُ بِاحْتِضَانِ الرُّكَبْتَيْنِ،
سَيَنْسَى الْحُمَّى الَّتِي تُمَطِّطُ إِهَابَ الْوَجْهِ مِنَ الدَّاخِلِ.
*
مَا زِلْتُ أُحِبُّ كِلَابِي، نِدَاءَ حِصَانِي الضَّامِرِ،
وَرُؤْيَةَ قِطِّي فِي طَرَفِ الْمَمْشَى الْأَيْمَنِ خَارِجًا مِنَ الْبَيْتِ صُحْبَةَ الْقِرْدَةِ..
كُلَّ الْأَشْيَاءِ الْكَافِيَةِ لِكَيْلَا أَغَارَ مِنْ أَشْرِعَةِ السُّفُنِ الشِّرَاعِيَّةِ
الَّتِي أَرَاهَا عِنْدَ ارْتِفَاعِ السَّقْفِ الصَّفِيحِ كَسَمَاءٍ.
- بَبَّغَاءٌ
إِنَّهُ آخَرٌ.
كَانَ قَدْ وَهَبَهُ بَحَّارٌ تَأْتَاءٌ لِلْعَجُوزِ الَّتِي بَاعَتْهُ. هُوَ عَلَى صَحْنِ الدَّرَجِ قُرْبَ الْكُوَّةِ، هُنَاكَ حَيْثُ تَمْتَزِجُ بِالسَّوَادِ غَيْمَةُ النَّهَارِ الْقَذِرَةُ بِلَوْنِ الْأَزِقَّةِ.
بِصَرْخَةٍ مُزْدَوَجَةٍ، لَيْلًا، يُحَيِّيكَ، كْرْيزُوِي، عِنْدَمَا — وَأَنْتَ صَاعِدٌ مِنْ خَنَادِقِ الْبَاحَةِ — تَدْفَعُ بَابَ الْمَمَرِّ وَتَرْفَعُ قُدَّامَكَ النَّجْمَ الزَّائِلَ لِقِنْدِيلِكَ. يُشِيحُ بِوَجْهْهْ لِيُشِيحَ بِنَظْرَتِهِ. أَيُّهَا الرَّجُلُ ذُو الْقِنْدِيلِ! مَا شَأْنُكَ وَشَأْنُهُ؟ .. تَرْمَقُ الْعَيْنَ الْمُسْتَدِيرَةَ تَحْتَ اللُّقَاحِ الْمُتْلَفِ لِلْجَفْنِ؛ تَرْمَقُ الدَّائِرَةَ الثَّانِيَةَ كَخَاتَمٍ مِنْ نُسْغٍ مَيِّتٍ. فَتَنْغَمِسُ الْيَرَاعَةُ الْعَلِيلَةُ فِي مَاءِ الرَّوْثِ.
يَا لَلْمَأْسَاةِ! انْفُخِ فِي قِنْدِيلِكَ. الطَّيْرُ يُطْلِقُ صَرْخَتَهُ.
- شَمْسِيَّةُ فَرْوِ الْعَنْزَةِ
إِنَّهاَ فيِ راَئِحَةِ الْغُباَرِ الرَّماَدِيَّةِ، فيِ مَطْموُرَةِ الْحُبوُبِ. إِنَّهاَ تَحْتَ ماَئِدَةٍ بِأَرْبَعِ أَرْجُلٍ؛ ثَمَّةَ بَيْنَ الصُّنْدوُقِ حَيْثُ يوُجَدُ رَمْلٌ مِنْ أَجْلِ الْقِطَّةِ وَالدِّنِّ الَّذيِ نُزِعَتْ عَنْهُ الْأَطْواَقُ حَيْثُ يَتَكَدَّسُ الريِّشُ.
- اَلْقَوْسُ
أَماَمَ تَصْفيِراَتِ الْمِدْفَأَةِ، مُرْتَعِداً مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَأَنْتَ مُشْتَمِلٌ فيِ كِساَئِكَ الْفَضْفاَضِ الْمُزَرْكَشِ بِالْأَزاَهيِرِ، تَنْظُرُ إِلَى زَعاَنِفِ اللَّهَبِ اللَّطيِفَةِ. – لَكِنَّ طَقْطَقَةً تُشَقِّقُ الظِّلَّ الشاَّدِيَ: إِنَّهُ قَوْسُكَ، عِنْدَ عُقاَفَتِهِ، إِذْ يُفَرْقِعُ. وَيَنْفَتِحُ عَلىَ طوُلِ وَتَرِهِ السِّرِّيِّ، كَالْفَصِّ الْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيِ الشَّجَرَةِ الْمُقاَتِلَةِ.
- اَلْبَذْرَةُ
فيِ أَصيِصٍ طَمَرْتَهاَ، الْبَذْرَةَ الْأُرْجُواَنَ الْعاَلِقَةَ بِكِساَئِكَ الْعَنْزِيِّ.
لَمْ تُنْبِتْ أَبَداً.
من «مَداَئِحُ» [1911]
- أُغْنِيَةٌ
حِصَانِي مُتَوَقِّفٌ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الْمُتْرَعَةِ بِالْيَمَامَاتِ، أُصَفِّرُ صَفِيرًا فِي غَايَةِ النَّقَاءِ، بِحَيْثُ لَا تَفِي هَذِهِ الْأَنْهَارِ بِأَيِّ وَعْدٍ لِضِفَافِهَا. (الْأَوْرَاقُ الْحَيَّةُ فِي الصَّبَاحِ عَلَى صُورَةِ الظَّفَرِ)..
*
فَلْيْسَ أَبَدًا لِأَنَّ رَجُلًا لَيْسَ حَزِينًا، بَلْ مُسْتَيْقِظًا قَبْلَ طُلُوعِ النَّهَارِ وَمُنْتَصِبًا بِحَذَرٍ مُخَالِطًا شَجَرَةً عَتِيقَةً، مُسْتَنِدًا بِذَقَنِهِ لِلنَّجْمَةِ الْأَخِيرَةِ، يَرَى فِي كَبِدِ السَّمَاءِ الْصَّائِمَةِ أَشْيَاءَ كَبِيرَةً نَقِيَّةً تَدُورُ مُتَلَذِّذَةً..
*
حِصَانِي مُتَوَقِّفٌ تَحْتَ الشَّجَرَةِ يُهَدْهِدُ، أُصَفِّرُ صَفِيرًا فِي غَايَةِ النَّقَاءِ.. وَسَلَامًا لِلَّذِينَ — إِنْ كَانُوا سَيَمُوتُونَ — لَمْ يَرَوْا قَطُّ هَذَا النَّهَارَ. وَلَكِنْ عَنْ أَخِي الشَّاعِرِ وَصَلَتْنَا أَخْبَارٌ. كَتَبَ مَرَّةً أُخْرَى شَيْئًا بَالِغَ الرِّقَّةِ. وَتَعَرَّفَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ..
من «أَنَابَازْ» [1924]
*شاعر ومترجم من المغرب
ملحق “كلمات”
سان جون.. جردته فرنسا من الجنسية فأهداها نوبل/ الصحبي العلاني
لم يكن الفرنسي الأول الذي يحصل على جائزة نوبل للآداب، وما هو بالأخير في قائمتها الطويلة التي تمتد إلى قرن ونيف، فقد نالها قبله وبعده كثيرون، منهم من طواه النسيان وصار مجرد اسم يذكر في سجل الجائزة وفي تاريخ الأدب، ومنهم من ظلت آثاره علامة راسخة في الأذهان ومتداولة بين القراء.
وبين هؤلاء وأولئك لم يمثل الشاعر الفرنسي سان جون بيرس (1887-1975)، الذي يُحتفى هذه الأيام بمرور أربعين سنة على وفاته، علامة فقط، بل “علامة مسجلة” واستثنائية بكل المقاييس، فقد كانت حياته ونصوصه أعظم من أي جائزة، وهو الذي اختار أن يسكن رحابة الكون ولانهائية معناه.
في قلب اللغة
في سياق من الغرابة والغربة، فتح سان جون بيرس عينيه على الدنيا سنة 1887. أما الغرابة فمنطلقها الاسم الذي اختارته له عائلته وسجلته به في دفاتر قيد النفوس “ماري رينيه أوغيست ألكسيس سان ليجيه”، اسم في غاية الطول والتركيب سيُضطر الشاعر إلى اختزاله وتحويره أكثر من مرة قبل أن يُقدم في نهاية المطاف على اختيار “سان جون بيرس” اسما يوقع به نصوصه وإصداراته.
وأما الغربة، فقد كانت بالنسبة إليه قدرا بين الاضطرار والاختيار. فبيرس الذي يحمل الجنسية الفرنسية لم ينشأ في وطنه الأم فرنسا، وإنما في مستعمرة من مستعمراتها، وتحديدا في “أرخبيل غوادلوب” الواقع في البحر الكاريبي بين قارتي أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية.
وعن هذا السياق المزدوج، سياق غرابة الاسم حامل الهوية إلى درجة الإقدام على استبداله والانفصال عنه، وسياق الغربة عن الوطن الأم إلى درجة الاقتصار على تمثله ككينونة لغوية تنبع من الداخل لا من الخارج، انبثقت شاعرية سان جون بيرس التي لا نظير لها ولا صوت يشبهها في الأدب الفرنسي الحديث والمعاصر.
صحيح أن بيرس سيغادر مع عائلته أرخبيل غوادلوب سنة 1899 ليعانق الوطن الأم. ولكن، بدا من الواضح أن العناق لم يكن حارا ولا حماسيا، لأنه من المستحيل على صبي في الثانية عشرة من عمره أن ينفصل عن المكان الذي انفتحت فيه عيناه أول مرة وفيه تشكل وعيه بالعالم وبالأشياء.
شحن كل أفراد العائلة أغراضهم الشخصية في السفينة التي قادتهم إلى الوطن الأم وتركوا وراءهم الغوادلوب وجزر بحر الكاريبي، ولكن الفتى سان جون بيرس، وفي غفلة من الجميع، حمل معه الأرخبيل كله وأغلق باب قلبه عليه بحساسية تتجاوز دون شك النظرة الساذجة والموقف الرومانسي المبسط إلى ما سيبدو أكثر تجذرا وأصالة.
الكون وطن الشاعر
بعد استقرار عائلته في فرنسا، اختتم سان جون بيرس دراسته الثانوية بحصوله على شهادة الباكالوريا (1904). وفي تلك السنة بالذات، شرع في كتابة قصيدته “صُور إلى كروزو”، وهي قصيدة استلهمت مناخات رواية الإنجليزي دانيل ديفو (1660-1731) “حياة روبنسون كروزو ومغامراته العجيبة المفاجئة”، وفيها تخيل بيرس أن بطل الرواية الشهير قد عاد من جزيرته إلى عالم المدينة والحضارة ليطرح سؤاله عن الكون.
لا يتعلق الأمر طبعا بسيرة ذاتية أو بما يقرب منها أو يشبهها، فكل ذلك لم يكن من هواجس سان جون بيرس ولا من مراميه، وإنما هي تأملات في الكون وعناصره الظاهرة والخفية، الحية والميتة، الصامتة والناطقة.. تأملات سيغذيها الشاعر لاحقا بدراساته لعلوم الأنثروبولوجيا والأساطير والملاحم إلى جانب دراسته للحقوق، هذه الدراسة التي سيقطعها عقب وفاة والده (1907) واضطراره إلى رعاية شؤون العائلة.
وعلى نفس النهج، نهج استرجاع الطفولة استرجاعا يتجاوز الحنين والأنين، سيكتب بيرس مجموعة قصائد تحت عنوان “احتفاء بطفولة، ومدائح، وقصائد أخرى” (1910)، قبل أن يتقدم لإجراء مناظرة ستتيح له الالتحاق بالدبلوماسية الفرنسية وسيشكل دخوله إليها منعرجا سيطبع حياته وشعره.
فعلى إثر تعيينه في وزارة الخارجية، سيضطر بيرس إلى الانفصال مجددا عن الوطن الأم (وطن لم ينغمس فيه كل الانغماس بل عاش تقريبا على هامشه دون مخالطة فعلية لشعراء باريس ومثقفيها رغم كثرتهم) من أجل معانقة العالم، كل العالم، في رحلة لا تنتهي قادته إلى بكين وكوريا ولندن وألمانيا.
والأهم من ذلك أن واجب التحفظ الدبلوماسي قد أجبره على إمضاء نصوصه بأسماء مستعارة، وكأنما حكم عليه أن يعيش في صميم الغربة عن اسمه وعن نصه وعن فرنسا التي عاد إليها ليشغل مناصب رفيعة في وزارة الخارجية، ولكن الأزمات التي سبقت الحرب العالمية الثانية وصاحبتها ومواقفه المعادية لألمانيا وسياساتها ستدفع به إلى تقديم استقالته التي رُفضت، قبل أن يتم عزله من منصبه في العام 1939 وتجريده من الجنسية الفرنسية ومصادرة جميع أملاكه عام 1941، مما سيضطره إلى الإقامة في نيويورك والعمل بها كمستشار في مكتبة الكونغرس.
وفي هذه المرحلة الأميركية، سيكتب سان جون بيرس أروع نصوصه “منفى” (عام 1941) و”أمطار” (عام 1942) و”قصيدة للغريبة” (عام 1943) و”ثلوج” (عام 1944) و”رياح” (عام 1946)، متنقلا بين كارولينا الجنوبية وتكساس وأريزونا.
وحتى بعد استرجاعه لجنسيته، فإن بيرس سيفضل معانقة الكون، مواصلا الرحلة عبر العالم إلى مواطن الصبا الأول باتجاه بحر الكاريبي وجزر الباهاما ثم الأرجنتين وجزر الأنتيل والبلدان الإسكندنافية.
ومع عوداته المتقطعة إلى فرنسا، سيقيم في شبه جزيرة جيان المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وكأنما جعل البحر قدرا له.
نصوص بطعم البحر
على امتداد قصائده التي يسكنها البحر ويحيط بها من كل جانب، وتضطرب فيها عناصر الطبيعة وتضطرم، ويتراوح فيها الإنسان بين التسامي الملحمي الخالد والسقوط الدرامي المفجع، يبدو شعر سان جون بيرس -كما يقول الشاعر والناقد والمترجم التونسي علي اللواتي- “كمعْلم متفرد منعزل عن التقاليد الشعرية الحديثة، يلفه ضباب من الغموض وتزداد كثافته كلما اختلفت حوله التفسيرات والتأويلات، مما دعا أغلب النقاد إلى الاعتقاد بانعدام السبب بينه وبين الإبداع الشعري في الغرب، معتبرين إياه خلقا محضا وظاهرة بلا أصول ولا وشائج”.
واللافت للانتباه أن هذه السمات التي ميزت شعر بيرس هي التي فتحت له الطريق إلى نوبل (عام 1960) وجعلت المترجمين يقبلون على نصوصه.
ورغم إجماعهم على عسر ترجمتها، فإنها قد نُقلت إلى سائر اللغات الأوروبية كالإنجليزية والإيطالية والإسبانية والألمانية والسويدية، نقلا لم يكتف فيه المترجمون بالنص في ذاته، بل اضطروا إلى تذييله بالملاحظات والتدقيقات التي تيسر قراءته وفهم أبعاده وخفيّ دلالاته.
ولم يكن حال العرب مع نص بيرس ببعيد عن حال بقية الأمم، بل لعل الاختلاف فيه بينهم كان أشد وأظهر.
فمنذ أوائل السبعينيات (1973)، عرّب المغربي مصطفى القصري نصا مطولا من نصوص بيرس نشره في تونس تحت عنوان “الفُلك ضيقة”، عيب عليه فيه أنه اقترب بنص بيرس من الأسلوب القرآني فطمس خصوصيته وأكسبه أبعادا ليست فيه.
وبعده بسنتين، قام الأديب اللواتي بتعريب قصيدة “آناباز” التي أعاد ترجمتها العراقي عبد الكريم كاصد (1976)، إلى أن أقدم الشاعر أدونيس على نشر “أعمال سان جون بيرس الكاملة” (1978) لتندلع في أعقاب نشرها خصومة أدبية نقدية أوقد شرارتها علي اللواتي في مقال له تحت عنوان “إعدام خطاب شعري، أو جناية أدونيس على سان جون بيرس” (1980)، وهو مقال تقصى فيه صاحبه ما اعتبره “هفوات” أدونيس و”خياناته” للنص الأصلي سهوا أو عمدا.
ومهما يكن من أمر، فالثابت لدينا أن بيرس بمنجزه الشعري قد جاء ليحرك السواكن، لا سواكن المترجمين والنقاد ودارسي الأدب في الجامعات عبر العالم فقط، بل سواكن القراء أيا تكن اللغة التي يطالعون فيها نصوصه، هذه التي يسكنها البحر والرعد والصاعقة ويعيد فيها الكون مع كل حرف خلق نفسه من جديد، وإلى ما لا نهاية.
الجزيرة نت