سببٌ إضافي/ نجاتي طيّارة
معظم السوريين لديهم أسباب مشروعة وعديدة لتغيير النظام، وأنا بطبيعة الحال أشاركهم في كثير منها، لكنني أعتقد أن لدي سببًا إضافيًا، وخاصًا جدًا، في هذه المسألة.
ذلك أنني أعاني عذابًا وشقاءً مميزًا، عندما أضطر، وأنا في هذا العمر الأرذل، الذي بلغ حولًا لا أبا لك يسأم، إلى تعلّم لغة راسين وموليير، لغة مستعمرنا السابق الحبيب!. وهي لغة أعاني معها شقاء العاشق، الذي يعيش يوميًا مع معشوقته، ويكابد كلّ لواعج الشوق، فيراها مكتوبةً في كل مكان، ويسمعها صباح مساء، لكنه لا يستطيع إلى وصالها سبيلًا. فهي لغة تذوب أواخر كلماتها من شدّة العذوبة، وتختفي أصوات أحرفها القاسية لتصيرَ في معظم الأحوال لينةً. كما أنها لغة حرّة، فيها من الاستثناءات ما هو أكثر من القواعد، ومن التأوهات ما هو أكثر من التصريح. هي لغة إذا أدركتها تملّصت، وإن أمسكت بها كتابةً، ذابت على شفاه الفاتنات القاتلات.
وكلّما تعلمتها نسيتها، وكنت أظنّ أن حياتي في أرجاء بيئتها، ستفيد في ذلك وحدها، لكن الخبراء أفادوني، أن تعلّمها لا يستوي إلا على المخدّة، وأنّى لمثلي سبيل إلى ذلك، وأنا صاحب نزعة معادية للنوم وأمثاله.
في المحصلة، صارت هذه اللغة، على الرغم من كلّ جمالها ورنينها الساحر، سجنًا آخر مضافًا إلى سجن غربتي. وكم أوقعتني شبكة حبالها الصوتية في معانٍ ومطبات محرجة. وبدلًا من أن أزداد بها ألفة مع البيئة حولي، ازدادت هذه البيئة من حولي ممانعة أو دلالًا. زد على ذلك حساسية الفرنسيين، وتعصّبهم للغتهم ونطقها، ردًا على طغيان الانكليزية وحاملها الأميركي على العالم، حيث يقبل الأخيرون أخطاء المتحدث معهم، ويمررونها، كونهم عمليين، يهتمّون بالإنجاز الرابح والهدف الأخير، أكثر من اهتمامهم بوعورة الطريق ومشكلاته.
بينما ينقز الفرنسيون في ذلك تشددًا، وبدرجة أكبر منهم السوريون الفصحاء بها، سواء القدامى منهم، أو الجدد الذين ما زالوا يحبون في تعلّمها. فهم الأسرع إلى المقاطعة، والتصويب، والتبجح برطانتهم إلى آخره. وفي كلّ ذلك شقاء ما بعده شقاء!
بينما كنت قبل كل ذلك، أرتع بسعادة في رحاب لغتنا الجميلة، وازداد مع تقدّم العمر ما أراه شفافيةً في استخدامها، ويرى فيه آخرون فضائحية، على الرغم من كلّ ضرورات التقية والكتم، التي اعتدنا عليها، فكان أولاد سوريتنا يخترعون في إطارها، كوداتهم المحلية العابثة، مثل بيت الخالة، الذي تندرج في إطاره كلّ فروع الأمن غير الآمنة، والعباءة التي تغطي كلّ حديث منفلت، وقتما يقترب منهم الغرباء أو ذوو العيون البصّاصة، أو مصطلح الزعبرة المحدود الانتشار ضمن مريدي مانديلا سورية (ابن العم أبو هشام).
وكان يعني به النشرات السرية، كما يوسعه، أحيانًا، لتخزين كلّ ضرورات الحياة اليومية، عندما ينتقد كلّ علنية جارية، ولا يطمئن إلا لعودته الآمنة تحت الأرض، على طريقة شيخه الأكبر في سالف العصر والأوان. ومنها كود الألمان، في إشارة غزلية تمسّ إخوة العيش المشترك، المعروف بعضهم بالبشرة البيضاء والعيون الزرقاء كأبناء الشمال!
لكن الأكثر أهمية في كل ذلك، هو معاينتي الواقعية لما كنتُ أسمعه عن الفرق بين لغتنا واللغات الأوروبية، والكامن في أن لغتنا العربية لا تحتاج إلى فعل الكينونة، فهي لغة داخلية، أو شعورية، تستطيع أن تقول فيها جملة مفيدة من اسمين، مثل الإنسان حيوان، بينما في الفرنسية أو الانكليزية، أنت مضطر لأن تقول: الإنسان هو حيوان، أو الإنسان يكون حيوانًا. فضلاً عن أن لتصريف فعل الكينونة أحوالًا عديدة، تتعلّق بالفاعل وأضرابه. وهذا ما يجعل لغتنا العربية محقّقة لشرط البلاغة في الإيجاز، الأمر الذي أوصى به شيوخنا القدامى.
بينما تمتدّ الجملة الأوروبية، وتتمطمط في تكرارٍ رتيب، ومملّ أحيانًا، لدرجة أن النصّ العربي الذي يبلغ صفحة واحدة، يتحوّل إلى صفحة ونصف، أو ربما صفحتين في بعض الأحيان، لكن ذلك ما يجعل كتابّهم أكثر كسبًا من جماعتنا، حيث إنهم يقيسون قيمة الكتابة بطولها أو عرضها في معظم الأحوال!
وهذا وغيره، بعض مما يمكن أن تتّسع له أبواب مصطلحات النقد الأدبي الحديث أيضًا، مثل الحساسية الجديدة، وانزياح المعاني، والأخيرة لعلّها توافق انزياحات حياة السوريين المشهودة!
وبعد، أليس من حقّي أن أعتبر عذابي المذكور سببًا آخر إضافيًا، وأطالب بخلاصي، وبحقّ العودة أيضًا، على طريقة إخواننا من أبناء النكبة الأولى!
فلتلعن روحه الذي أوصلنا إلى هنا، وما كنّا لولا براميله واصلين! آمين ثم آمين.
العربي الجديد