ستة أشهر على الثورة السورية الحرب هي “أمل” النظام الوحيد
يوسف بزي
بعد انقضاء ستة أشهر على الثورة السورية، المدنية والسلمية، يبدو أن النظام البعثي قد أيقن أن الثورة غير قابلة للإخماد، كما أن الزمن لن يعود الى الوراء. النظام بات مدركاً أن مقولة “سوريا ليست مصر ولا تونس ولا ليبيا ولا اليمن” صحيحة في أمور كثيرة إلا في ظاهرة المد الثوري العربي وأمواجه المتلاحقة.
نظام الأسد أصبح متأكداً، بعد مرور ستة أشهر، أن هناك ثورة شعبية تعمّ البلاد ومن شبه المستحيل إنكارها أو وقفها. لقد انتهت محاولات المكابرة والاستخفاف. فلا هي “مجموعات سلفية” ولا هي “عناصر تخريبية” ولا “عصابات مسلحة” رغم استمرار الإعلام الرسمي بتكرار هذه التوصيفات، التي لا يصدقها أركان النظام نفسه، المتأرجح بين الترويج لنظرية “المؤامرة الخارجية” ونظرية “مسيرة الإصلاح”. وهو التأرجح الذي جعلنا نؤمن أكثر أن الانتباه للإصلاح لا يأتي إلا بفعل مؤامرة!
بعد ستة أشهر مليئة بالفظاعات والوحشية التي ارتكبها رجال النظام ضد السكان، حيث مارست السلطة كل أساليب العقاب الجماعي، والقمع المنظم، والعنف المتّسم بسادية متأصلة عند أجهزة الأمن و”الشبيحة”، يبدو أن طاقم السلطة في سوريا صار متيقناً أن لا سبيل لوقف الثورة من جهة، ولا سبيل للتراجع عن حملة العنف الواسع النطاق وسياسات القتل والاعتقال وقصف المدن ومحاصرتها واجتياح الأرياف والقرى، من جهة ثانية.
النظام استنفد أو بدّد سريعاً كل الخيارات الأخرى التي كان من الممكن أن تجعله أكثر مراوغة وأكثر قدرة على المناورة والاستيعاب. بدّد مثلاً أهم رصيد لديه: خوف المواطنين السوريين على استقرار بلدهم. هذا الخوف كان عند السوريين متأتياً من رفضهم لاحتمالات “العرقنة” أو توقعات “اللبننة”، وهم أبدوا مراراً استعدادهم للمقايضة مع النظام الاستبدادي بين حرية أقل واستقرار أكثر. لكن ما فعله النظام مع أولى بوادر الاحتجاجات المطلبية المتواضعة هو إسقاط الأمن وتعميم الرصاص والخوف، وإطاحة الاستقرار. وبهذا المعنى وجد المواطنون السوريون أن المبرر الوحيد لتسامحهم مع الاستبداد ما عاد موجوداً. لقد انفرط العقد غير المدوّن بين سلطة البعث والشعب. وكأنما رعونة النظام هي التي دفعت وشجّعت الغالبية العظمى من السكان على الانضمام الى التظاهرات الضئيلة والمتفرقة. وتلقّت المعارضة الضعيفة والمترددة أسباب قوة وقدرة على الانتشار من هذه الرعونة بالذات.
بدّد النظام أيضاً واحدة من أهم حيله، وإحدى أكثر خططه مكراً: الحوار. إن الارتباك الذي كاد يتحوّل انشقاقاً خطيراً في صفوف المعارضة إثر مشهد لقاء فندق “سميراميس” في دمشق، والذي جمع بعض رموز المعارضة، لم يدم طويلاً. فالنظام الذي سمح على نحو غير مسبوق لإجراء هكذا لقاءات سياسية علنية، لم “يستثمر” خطوته هذه إلا بحدود مخادعة المطالب الأميركية الدولية في حينها، مع استخفاف ساذج بأثر هذه المخادعة على الرأي العام السوري، عدا عن عدم استثماره للارتباك والخلاف بين أطياف المعارضة حول القبول بعقد لقاء “سميراميس” في حماية السلطة وموافقتها. فالنظام نفسه تبرّع بإنهاء الخلافات والتباينات في صفوف المعارضة، حين أطاح طموحات الحوار التي عبّر عنها لقاء “سميراميس” ثم أطاح كل الانطباعات الإيجابية التي ولّدها لقاء “سميراميس” في الخارج، حين اندفع النظام بحملة عسكرية على جسر الشغور ثم على حمص وحماه، وتوّجها بتحريض غوغائه على مهاجمة سفارات الولايات المتحدة وفرنسا وقطر.
أما مؤتمر فاروق الشرع، فكانت نتائجه أكثر سوءاً، إذ إن سعته المشهدية وأناقته السينوغرافية وكثرة المشاركين فيه ضخّمت كثيراً من التوقعات المأمولة منه، أو تركت انطباعاً عند مشاهديه أن هذا المؤتمر لا بد وأن يكون على سوية “الأزمة”. لكن وقبل أن تقلل المعارضة من شأنه وقبل أن تُختبر نتائجه أو تُقرأ توصياته، كان النظام في استمراره بسياسته الأمنية الشعواء والبالغة العنف هو أول من أسدل الستار سريعاً على مشهد هذا المؤتمر، لدرجة أن أغلب المشاركين فيه عرفوا في لحظة اختتامه أنهم إما جزء من خدعة أو أنهم خُدعوا تماماً.
منذ ذلك الحين انتهت خطط “الحوار”. رمى النظام ورقة “التفاوض” بتهوّر شديد وركن فقط لـ”الحل الأمني”. منذ ذلك الحين لم يفعل النظام سوى التخلي المتسرّع عن الأصدقاء في الخارج والداخل بطيش يقارب طيش نظامي صدام حسين ومعمّر القذافي، وما عاد يبرع سوى بتربية الأعداء وتكثيرهم.
خدم النظام الثورة الناشبة ضده خدمة استراتيجية ما كان اشد المعارضين تفاؤلاً ليحلم بمثلها، فقد أقدم بممارساته الفظيعة على إحراج دول العالم المترددة الى حد انها اضطرت اضطراراً الى مقاطعته، وهي التي ظلت لما يزيد على أربعة أشهر من عمر الثورة لا تصغي الى المعارضة وترفض شعار “اسقاط النظام”. الدولة السورية فرضت على العالم ان يعزلها. وهذا ما كانت المعارضة قادرة على تسويقه او اقناع العالم به. ومن ناحية ثانية، اقدم النظام، عبر سياسة العقاب الجماعي وفرض الرعب والقتل، على تعميم اليأس منه عند أوسع شرائح المجتمع السوري، خصوصا عند “المحايدين” منهم، الذين، حتى الأمس القريب، كانوا مرتابين من المعارضة او غير واثقين من المستقبل او الخائفين من المجهول او الذين ما زالوا يؤمنون بمعادلة الاستقرار مقابل التخلي عن الحريات.
اليأس من النظام، لا قوة دعاية المعارضة وحدها، هي التي توسع الثورة جغرافياً وديموغرافياً. وإضافة الى اليأس من النظام (الذي تسلل ايضا الى قلب حليفته ايران) ثمة يأس النظام نفسه. هذا اليأس صار واضحا بعد ستة اشهر من الثورة، ولذا بات نظاماً شديد الخطورة الآن. انه يميل الى ان يصير عدو سوريا الأول.
الديكتاتور وطاقمه وأجهزته الأمنية وفرقه العسكرية، استنفدوا كل الحيل وكل الأوراق وكل الأرصدة السياسية، اضافة الى استنزافه السريع لكل موارده الاقتصادية، عدا علامات الإنهاك والتعب التي بدأت تظهر في أداء آلته القمعية وظهور اشارات اقوى الى تصدعات في جسمه العسكري والبيروقراطي، وعلى الأرجح فان لحظة التحول النوعي في مسار الصراع بين النظام ومعارضيه باتت قريبة جداً.
انها لحظة خطيرة جداً، النظام يائس وميؤوس منه، ومنسوب عدائه للداخل والخارج ارتفع الى نقطة حرجة. انه لا يجد امامه سوى طوفان الحرب، انه يندفع من غير تردد نحو افتعال حرب ما، اما أهلية أو اقليمية. فهو ليس بوارد التخلي الطوعي عن السلطة، ولا بتقديم الحد الأدنى من التنازلات. فهو يعرف أن يوماً واحداً من دون إطلاق النار يعني عملياً اجتياح التظاهرات المليونية لكل ساحات المدن والقرى، وأن بقاءه بات مقروناً ببقاء الدبابات عند كل تقاطع طرق.
ربما لهذا السبب بالذات فإن التزايد الملحوظ لأعداد السكان المنضوين في الثورة، مردّه أن السوريين باتوا أكثر قناعة بأن التعجيل بإسقاط النظام هو السبيل الوحيد لمنع الحرب. وهي قناعة صارت أيضاً رائجة نسبياً عند دول المنطقة وفي المجتمع الدولي. والنظام السوري الذي لطالما روّج من أجل بقائه أنه “عامل استقرار في الشرق الأوسط” أصبح الآن مصدر خطر على هذا الاستقرار.
إن كل ما يفعله النظام السوري في زواريب القرى وداخل البيوت وفي شوارع التظاهرات، من فظاعات وقسوة وعنف بالغ، هو استدراج متعمّد للسكان للتخلّي عن سلمية الثورة واللجوء الى العنف المضاد والتسلّح. يحاول بإصرار تحويل كذبة “العصابات المسلحة” الى حقيقة واقعة، ويطمح الى أن يصير الشعب السوري كله “جماعات تخريبية”. وهو يتمنى باستمرار سقوط ضحايا من رجال الأمن ووقوع صدامات مسلّحة. إنه يحلم بميليشيا افتراضية ليحاربها.
الحرب هي “أمل” النظام السوري وأفقه. وخطابه، في الآونة الأخيرة، بات أكثر تعويلاً على “الفتنة الطائفية”، وهو على ما يبدو يسعى نحو تسليح جماعات أهلية ومذهبية، و”خبرته” اللبنانية والعراقية في هذا المجال ليست بالهيّنة. لذا، قد تكون مهمة الثورة وواجب العالم إسقاط هذا النظام بأسرع وقت ممكن قبل أن ينجح بإشعال فتيل الحرب
المستقبل