ستدركها يوماً.. لكن بعد أن تمرّ/ حكمت الحبّال
وضّبت وطني في حقيبة السفر: بضع قصاصات ورقية وذكريات وأشياء قليلة. فوطني ليس أرضاً ولا حجراً، ليس خطوط عرض وطول أو حفنة تراب. وطني رائحة «الكرمنتينا» العالقة في يدي الصغيرتين وأنا ذاهبة للمدرسة صباحاً، قطرات مطر عنيفة تضرب كتفي، رائحة المغلّف البني الذي خبأت فيه أوراقي الثبوتية في ممرّ المحكمة، خطوات عنيدة مشيتها وحيدة قبل اليوم الأخير في الجامعة، خيالات مزخرفة على الحائط إثر انعكاس أشعة الشمس على الستارة عصر يوم قلق. وطني أنا وأوجاع في الذاكرة أحملها معي أينما ذهبت.
خلعت معطفها. فكّت أول زرين من قميصها الأبيض. أخرجت ثديها ولقّمته لرضيعها في حضنها، وغطّت ما تبقّى منه بسترة زوجها. هي أم سورية حملت الشام بعيونها في مطار بيروت الدولي. أدركت ذلك من جواز سفرها ورائحة المكدوس والثوم من حقيبتها الخشبية..
كل من حولي سوريون. أفكر لثانية أنهم من يشغل المطار..
التقيت صبية أخرى سمراء تبكي. فهمت منها أنها مهاجرة مع أمها إلى أميركا. تبكي كطفلة معاقبة، وتغض عينيها. تقول بإصرار أي غبي يترك بلده، فأقول في نفسي: أنا.
قررت الابتعاد «قليلا»، ليس عن دمشقي بل عني أنا. فدمشق أنا، بعدما بدأ حبها يبتلعني ويشوّه ملامحي.
أتذكر ما قاله لي صديق ذات مرّة: دمشق كالغول تأكل كل من يدخلها ولا تخرجه منها..
البارحة اشتريت طنجرة!
شعرت بغرابة الحدث. هي الطنجرة الأولى في حياتي وأشكّ بأن أستعملها. تذكرت صديقتي في بيروت عندما صدمت قبل أسابيع حين قلت لها إن أمي هي من تشتري لي أغلب ثيابي. حتى مقاس حمّالة الصدر لا أعرفه. استهجنت موقفها. اعتقدت أن الجميع مثلي، أمي تحمل كل همومي وأشيائي، أوكلها بكل تفاصيلي، أرمي بمشاكلي إليها وأنام مرتاحة..
الآن صرت بعيدة.. فقد اخترت طريقاً أسلكه للمحاولة لا أكثر. محاولة ماذا.. لا أدري!
في كل صباح، أطالع وجهي في المرآة لأرى حبّة جديدة! اليوم صرن ثلاث حبّات متموضعات كمثلث تحت عيني اليسرى.. وأخرى في منتصف جبيني.
اعتقدت أن بشرتي لم تألف مكاني الجديد، حتى أخبرتني جدة صديقي أنها حبّات حنين. يختبئ أحدهم في منامي ويترك لي حبة أنزعج منها صباحا.. لا بد أن المختبئ الأخير كان يحبني كثيراً ليترك بصمته في منتصف جبيني!
في الليل، هدوء النمل يكسره صوت عود حزين قادم من نافذة أحدهم. أهرب إلى «يوتيوب» لأسمع ضحكات وأصواتاً ألفتها تعطيني القليل من الدفء. أحيانا أشاهد كرتوني المفضل، «مايا في رحلة الأحلام»، لأحلم معها بحذاء أحمر يطير بي من شجرة إلى أخرى..
يعيدني إلى الواقع صوت جارتي الجديدة عبر الحائط الكرتوني تخبرني عن سعر التفاح وأيهما أفضل للكبسة، الرز الطويل أم القصير، الدجاج أو اللحم..
كل شيء بحاجة لترميم وإعادة هيكلة، خلق عوالم جديدة، بتفاصيل أحبها.. تفاصيل اعتدتها..
غدا سأجلب ألوان شمع صاخبة لأغيّر لون غرفتي الباهت، وأعلق على جدرانها صور ليدي غاغا وفيروز والمهاتما غاندي. ديكور لا أكثر، فأنا لم أؤمن يوماً بمقولة أو شخصية عبدها الآخرون. سأعلق بعض قصاصات الجرائد وعبارات تفاؤلية أكتبها بأقلام حمرتي، ومنها «اسمه».. وسأجلب قليلاً من قطع الاسفنج أضعها على الأبواب والزوايا، فقد أرهقت من أصوات تعبئة «السيفون» وتفريغه، حتى حفظت مواعيد دخول الجارة إلى الحمام..
التفاصيل موجودة في كل مكان: هنا أيضا يحبون الشاي الخمير كما دمشق، وهناك رجل سمين مغبر بطنه المتدلي وأطراف شواربه بالطحين الأبيض يبيع الأرغفة، وعجوز أخرى قوية البدن تبتلع دخانها بشهوانية غريبة، طفلة تصنع من قشور الفستق والصدف أظافر طويلة. هنا تفاصيل وأصوات عليّ أن أعتادها بوجوه غريبة..
قد تقف لثوانٍ كالحلم، فتدور الأرض تحت قدميك لتدرك كل الصخب من حولك.. وكي لا تنسى من أنت أولا وسط ازدحام الوجوه الجديدة.. تخبئها في صندوق ذاكرتك المعطوب في رحلتك المؤقتة.. تشعر أحياناً بأنها أيام فارغة، أو كأنك طبقة ملساء شفافة ملتصقة بالأرض تمشي الدقائق فوقها من دون أن تشعر.. ستدركها يوماً، لكن بعد أن تمرّ.
السفير