ستون عاماً من الذل… أربعون من الطوارئ
منى فياض
الخوف والخطر ليسا مرتبطين دائما. توصل الشعب السوري الى الفصل بينهما. فلم يعد الخطر يخيفه. لقد تم تخطي الخوف المكتسب.
إلى روح الطفل حمزة الذي أخاف بموته أكثر مما خاف في حياته
على بعد آلاف الاميال من لبنان وسوريا معاً، التقى أخيراً وبعد بدء الانتفاضة السورية، شابان واحد لبناني وآخر سوري. سأل اللبناني السوري عما يحدث في سوريا، وهو في الأصل متحمس جداً لما يحصل، سأله عن رأيه بالأحداث الجارية هناك؟ أبدى الشاب السوري تعاطفه مع التحرك، ثم انتبه فجأة وسأل الشاب اللبناني خائفاً: هل ستبلغ عني الآن؟ لطمأنته قام اللبناني باحتضانه وأكد له دعمه الصريح والتام للثورة السورية التي طال انتظارها.
هذا الشاب السوري ابن لأب تركي من أم سورية ولديه جوازا سفر سوري وتركي؛ وأسرته تعيش في الخليج، يعني أنه عاش هناك وأهله لا يزالون هناك وليس في سوريا!! ومع ذلك يستبطن الخوف الذي يلامس الرعب من ان يبدي اي انتقاد للنظام السوري “الممانع والمحبوب” ليس من شعبه فقط بل ومن الشعب المقاوم!!!
ظلت صديقتي التي انتقلت في السنوات الأخيرة إلى خطوط الممانعة قبل أن تعتدل بعد أحداث 7 أيار المجيدة، لأنها ديموقراطية حقيقية، تنقل لي أحاديثها مع من تلتقيهم من السوريين وهم حرفيون في معظمهم، وكيف أنها تجري معهم أحاديث معمقة لكي تستنتج أنهم لا يريدون تغيير النظام بل فقط إصلاحه. وأقول لها يا عزيزتي، صدقيني إنه الخوف وعدم الثقة بك، فمن أنت بالنسبة لهم؟ ولماذا سوف يجاهرون لك بحقيقة موقفهم طالما أن مجرد اجتماع لدعم الشعب السوري يُمنع في قلب بيروت وعند كل بادرة تعاطف مع السوريين ينبع لك ألف جهة متعاطفة مع هذا النظام بالذات؟
مع ذلك يعرف الشعب السوري الحر أن غالبية الشعب اللبناني مع ثورته لسبب بسيط، أنه بتحرره سوف يحررهم هم أيضاً؛ وأنه سوف ينزع ما تبقى من أوهام المقاومة عند الجميع.
لا يصدق أحد إلى أي مدى بلغ خوف السوريين ورهبتهم من نظامهم الدموي. أعرف صديقاً سورياً في المنفى منذ 35 سنة ولم يستطع أن يكتب بحرية في عقر الديموقراطية الغربية؛ وعندما قارب بخجل هذه الحرية ذات مرة منذ حوالى ثلاث سنوات أُفهم وهُدّد في قلب الديموقراطية البريطانية العريقة ومن طريق القانون، لأن باستطاعتهم ملاحقته وإفلاسه لأنه يبث أخباراً كاذبة وبواسطة القانون البريطاني مع محاميه. لذا كتبت حينها منتقدة الديموقراطيات الغربية التي تسمح بوعي باستخدام قوانينها المتعلقة بالشفافية وباسم الديموقراطية!!
كان بوريس سيرولنيك أول من تكلم عن القدرة على المقاومة للتغلب على التروما وسمّاها Resilience. وهي موهبة الشفاء من التروما المعوّقة والهدامة التي قد نتعرض لها وهي تنطبق على مختلف الفئات والاعمار ووضعيات الحياة الاجتماعية عامة. وهذا ما يحصل في سوريا.
عادة ما تخزن المشاكل المسببة للتروما بعيداً عن متناول الوعي أو الحديث ويتم تجنب الاشارة اليها. لكن عند حصول هذا النوع من المقاومة يتم الكشف عن المشاكل ويسلط عليها الضوء. ويكفي لذلك وقوع حادث بسيط، أي شيء مثل إحراق بوعزيزي جسده، لكي يستعيد الميت نفسياً الأمل ويستعيد حيويته للشفاء. وهذا ما حصل للشعوب العربية.
ان ما يخيفنا عادة هو الفكرة التي لدينا عن الأشياء، أكثر من إدراكنا لها هي نفسها كمخيفة. لكن ما هو الخوف في العمق؟ ما هو الخوف الذي تلبس طويلاً الشعب السوري، وقبله اللبناني ولو بدرجات أقل؟
بدايةً الخوف هو إشارة من غريزتنا الحيوانية أمام خطر ما. هذا النوع من الخوف يحفظ لنا حياتنا. الخوف إذاً هو نجاح في القدرة على التكيف يسمح لبعض الأنواع بالبقاء أمام المخاطر التي قد تتعرض لها وتهدد حياتها. فبعد أحداث حمص وحماة خاف السوريون ليحموا أنفسهم من القتل. لكن هناك أنواع أخرى من المخاطر التي لا يدركها الكائن الحي لأنها لا تثير الخوف لديه. الكثير من أنواع الرياضة يمكن أن تكون خطرة لكنها لا تثير الخوف وممارستها شائعة. ثم هناك الخوف المكتسب كالخوف من العتمة وهي لا تحمل خطراً. الخوف والخطر ليسا مرتبطين دائماً بالضرورة. لقد توصل الشعب السوري الى الفصل بينهما، لم يعد الخطر يخيفه. التظاهر يمثل أقصى حالات الخطر للسوري أو السورية اللذين “يخاطران” حرفياً بالنزول الى الشارع، لكن من دون خوف بعد الآن. تم تخطي الخوف المكتسب الذي تسببت به ممارسات القمع والقتل لأكثر من30 عاماً.
المشكلة مع الإنسان ان لديه مخيلة واسعة. والبشر يعيشون في عالم التمثلات أكثر من عالم المدركات. خوفنا هو من نتاج فكرنا الخاص. وحقل دلالة الخوف واسع، يبدأ من عدم الاطمئنان الذي يفسد السلام الداخلي ويتسبب بالشعور باللااستقرار، وهي حالة انفعالية غير مستحبة الى الشعور بالخوف الذي تصعب السيطرة عليه. تتكثف التعابير تدريجاً فيبدأ من مجرد التوجس بشكل متصاعد إلى الحذر والحيطة والخشية والريب والوجل والجزع والفزع والفرق (الخوف من الافتراق عن الجماعة) وصولاً إلى إنفعال متسلط يصعب التخلص منه و ضبطه وهو الارتياع والرعب. الرعب الذي يمكن أن يقودنا إلى القلق العميق وغير القابل للسيطرة. وهذا الشعور المزعزع يفقد الانسان قدراته وسيطرته على نفسه. وعندها تصبح حالة يصعب التخلص منها فتقود الى القلق والحصر الدائم الخفيض الذي يتسبب بفقدان القدرات وانعدام السيطرة على الذات فنكون وصلنا الى حالة الموات. حالة شعوبنا العربية قبل ثوراتها.
والخوف يأتي منذ اللحظة التي نكون فيها قادرين على تمثّل الصور انطلاقاً من الكلمات، يصبح الخوف هوامياً ومثل سيناريو سينمائي نخلقه في داخلنا، ونضيف فوقة كعلاوة القلق أي الخوف من دون شكل؛ بينما الخوف له شكل لأنه من المفروض لشيء مدرك وله مظهر. في القلق لا وجود لصورة على شاكلة حيوان مخيف مثلاً. إنه فارغ؛ والخوف من الموت هو نموذج القلق الكامل، أي الفراغ، المطلق، اللانهائي والدوار. ومع الوقت يتم ملء النقص ببديل آني لمن فُقد بالموت وهكذا يتولد الرمز. أي تمثل شيء غير موجود. وعندما نخاف نذهب الى الرمز أو البديل وهذا ما يهدئ الخوف. تكون هذه أول آلية دفاع ضد الخوف. فليس الخوف هو الذي يشكلنا، بل الانتصارات الصغيرة على الاعتداءات. والدفاع عن أنفسنا لا يكون بقيامنا بالاعتداءات، لكن بتعلم التغلب على الاعتداءات التي لا مهرب منها.
هذا ما تعلمته الشعوب العربية ان افضل دفاع عن حقوقهم ليس في استخدام العنف ضد مهاجميهم بل بالتغلب على تكتيكات هؤلاء ووسائلهم سلمياً.
وعندما يجتاح الخوف مجموعة ما فهو يربط بينها ويقربها. فالخوف والكره، مثل الحب، لهما تأثيرهما. والجماعات يجمعها الخوف، ويمكن للمجتمع عندما يكون خائفاً أن يوحده القلق. وهذا ما يؤدي إلى الصمت. كانت جمهورياتنا جمهوريات الصمت الذي استخدمته الشعوب كوسيلة للدفاع عن وجودها تجاه آلات القمع الجهنمية التي طورتها أنظمة الحزب الواحد والرئاسة مدى الحياة المورثة. الصمت والامتثال هما خطّا دفاع الجمهور الخائف. والشعوب العربية التي أماتتها الديكتاتوريات اكتشفت أن ليس عليها الخوف بعد الآن، فهل يخاف الميت الموت؟
النظام السوري وضع نفسه في مأزق لن يحسد عليه ولن يجد له مخرجاً. أراد تخويف السوريين عبر القتل وأراد ترويع الأطفال عبر أمثولة الطفل حمزة، أي المزيد من الشيء نفسه الذي أثبت فشله وسبق أن تغلبت عليه غالبيتهم. لا خوف بعد الآن عند المواطن العربي، لا خوف عند الشعب السوري الذي كان يعلم سلفاً ما الذي ينتظره ومع ذلك نزل إلى ميادين الحرية.
خبر العرب 60 عاما من الذل و40 عاما من قوانين الطوارئ وتعلموا كلفة الحرب الاهلية من لبنان.
وفي ما عدا ذلك؟ مم سوف يخافون بعد الآن؟
( أستاذة جامعية)