سجالات ثقافية في زمن “الثورة”/ سوسن جميل حسن
كتب الفنان التشكيلي السوري “بولس سركو” تحت عنوان: “تكتيك التضليل عند كتّاب العربي الجديد”:
“إن المشروع الإعلامي للعربي الجديد الذي يصدر باللغتين الإنكليزية والعربية هو جزء أساسي من نشاط غرفة عمليات حرب الشائعات إلى جانب قنوات الجزيرة والعربية وفرانس 24 وغيرها، وتقوم الشبكات التابعة للموقع مقام الطابور الخامس لضرب المجتمع السوري من الداخل لصالح العدو الخارجي وحشد الناس لاحتضانه، ويكتب في الموقع إلى جانب عزمي بشارة كل من السوريين الشاعر بشير البكر، وهو نائب رئيس التحرير، وخطيب بدلة وسوسن جميل حسن والمدون رامي سويد والروائية هيفاء بيطار وآخرين وهم جميعًا يطبقون نفس المعايير المزدوجة للثقافة السياسية للعولمة الأميركية ويؤقلمون نظرياتها مع الوقائع والأحداث”.
أعادني هذا الخطاب/ الاتهام إلى الشهور والسنوات القليلة الماضية، التي تعادل دهرًا بالنسبة إلى الشعب السوري بما أحدثته من خراب وما كشفت خلاله من واقعٍ إنساني جدير بالرثاء خاصة لدى شريحة من المثقفين السوريين بعد أن نبشت الحرب السورية ما في صدورهم من عسف طائفي أو قومي كان مخبوءًا تحت عناوين عديدة قبل الأزمة، جلها يحاضر بالتقدمية ومحاربة الرجعية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحرية الرأي والتعبير ودولة المواطنة والقانون والمؤسسات، إلى ما هنالك من قضايا تدغدغ أحلام الشعوب المضطهدة المرهونة لواقع سياسي واجتماعي وديني واقتصادي مستبد. أستعيد منها هذا الرأي:
“المصيبة في التوجيه الأدبي الرسمي في سورية للحركة الأدبية، أنه كان مصمماً مراهقياً لنقد الإسلام المهزوم أمام العسكر، أي “السنة” فكان مسموحاً لكل الكتاب أن يهاجموا الإسلام السني كما يشاؤون، فيعتبرهم الجميع تقدميين، واستطاعوا الوصول إلى النقد، والقارئ المصري “مثلاً” والعربي عموماً على أنهم ثوريون معادون للدين المتكلس …
ولكنّ أحداً لم يسأل: هل تجرأ واحد من الكتاب “الساحليين” على انتقاد المذهب الذي يدين به أهلهم رغم المعرفة الأكيدة أنهم لا يؤمنون به، ولكنهم حين ينتقدون لا يجرؤون على انتقاده، فيوجهون مدافعهم ضد الآخر، الدين الرسمي الذي لا يستطيع دفاعاً عن نفسه خوفاً من العسكر والمخابرات، والإسلام السني هو في الحين نفسه دين الآخر … دين الخصم التاريخي.
وها نحن نرى نتيجة هذه التربية الأسدية والعرسانية في صراع السوريين ضد الطاغية!!”.
هذا الخطاب ليس لشخص عادي أو من عموم المجتمع، بل هو منشور كتبَه الأديب السوري، خيري الذهبي، على صفحته في “فيسبوك” بتاريخ 1/9/2016، وهنا يكمن جوهر القضية، فإذا اعتبرنا خيري الذهبي مثقفاً غير مستقطب سياسياً كما لا ينتمي إلى ثقافة السلاطين، سيكون المنتظر منه خطاباً عقلانياً رصيناً بعيداً كل البعد عن الخطاب التحريضي أو الداعي إلى الفتنة بما يقدم من تساؤل مبني على مقدمات غير دقيقة، خاصة في هذه المرحلة العصيبة والمستعصية التي تمر فيها سورية، التي لا ينقصها من المحرضات لإضرام نيران الفتن كلما خبت، أو تعميق الشروخ وزيادة الانهيارات المجتمعية.
اعتبر الكاتب أن العلويين هم جماعة لها بنية صماء كتيمة يصعب اختراقها. وهذا موقف بعيد عن موضوعية الدراسة والبحث، إن كان يدّعي أن حكمه مبني على دراسة ودراية ويستند إلى أبحاث تاريخية واجتماعية موثقة، فالعلويون جماعة من النسيج المجتمعي السوري، موزعون في أغلب المناطق السورية، وإن كان بنسب متفاوتة، وهو بإطلاقه عليهم تسمية “الساحليين” فقد نفاهم عن باقي أراضي الوطن السوري، واعتمد الأسس التي يعتمدها أصحاب الفكر الإقصائي التقسيمي البعيد عن الوطنية كمفهوم مشتق من المواطنة التي كانت أحد أهم الأهداف التي ثار الشعب السوري لأجلها، وخيري الذهبي يجاهر ويصرّ بالتصاقه بجسد الثورة، ثم ماذا عن الكتاب المتحدرين من الجبال أو المناطق الداخلية؟ لم يختلف خيري الذهبي في اعتبار الطائفة العلوية كياناً صلداً بهوية سياسية تقوم على العقيدة عمّا طرحه إبراهيم الجبين في مقالته بتاريخ 12/4/2014 تحت عنوان: “العلويون النصيريون السوريون أمام خيار العودة إلى التاريخ أو الخروج منه”. والتي خلص فيها إلى أن العلويين لم تستطع عقود الاستبداد التي وصل فيها أحد أبنائهم إلى رأس السلطة في سورية، أن تقدم لهم الطمأنينة اللازمة للعودة إلى المجتمع من جديد، ولكن الثورة السورية بكل أحداثها التراجيدية، ما تزال فرصتهم الكبرى. فهو لم يصنفهم على أساس هوياتي من هذا القبيل فقط، بل اعتبر التاريخ حكماً وأنه يمكن أن يبقيهم في داخله أو يقصيهم خارجه، فكيف يمكن فهم خطاب كهذا إلاّ من خلال نزعة الإقصاء والرفض والتطرف يشبه ما تعلنه الفصائل الجهادية التي شوهت ثورة السوريين واستباحتها مثلما استباحها النظام؟
خيري الذهبي، كاتب سوري معروف، وله عشرات الكتب من قصص وروايات ودراسات، فهل كان خارج نطاق التوجيه الأدبي الرسمي للحركة الأدبية في سورية مثلما قال، وهو العضو في مجلس اتحاد الكتاب لعدة دورات انتخابية “حرّة”، وساهم خلال عضويته في إدارة مجلات الاتحاد، كما توّج مسيرته عشية الثورة بتبوّئه منصب مدير التأليف في وزارة الثقافة، ويعتبر من أكثر الكتاب الذين غنموا فرصة تحويل أعمالهم إلى نصوص تلفزيونية أو سينمائية، فقد نفذت أعمال عديدة له في التلفزيون العربي السوري، أما روايته حسيبة فقد تحوّلت إلى فيلم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما؟
وهل يمكن قبول كل الانتقادات للفكر المتطرف ولفتاوى الفقهاء التحريضية والتي تكرّس إسلاماً مرفوضاً بالنسبة للعالم، من أي طرف جاءت إلاّ أن تصدر من فرد يصنّف على أنه علوي أو درزي أو إسماعيلي أو مسيحي أو أيزيدي أو … حتى لو كان يرفض هذا التصنيف لنفسه؟
وفي الفترة نفسها، أيلول/ سبتمبر 2016 كان سجال شبيه بما يحمل من اتهامات وتشكيك بالوطنية التي بات بعضهم يمتلك صكوك ملكية لها، بين الصحافي السوري، راشد عيسى، والشاعرة السورية، رشا عمران، بعد استضافتها من قبل جيزيل خوري في برنامج المشهد، حيث اعتبر أن المقابلة “تصح لأن تكون نموذجًا للتزوير” وقال: “إن هذا الشريط، المقابلة، هو دليل براءة صريح من المعارضة، بإمكان المرء أن يصطحبه معه إلى أحضان الوطن فيستقبل بكل الحب”. ولقد رد عليه الصحافي جوان سوز: حلو جداً يا راشد، ولكن أختلف معك في أمرين، الأول خاتمة مقالك عن “رشا عمران” لأن المعارضة بالفعل ترى أي علوي/ة موالياً للنظام حتى يثبت/ تبثت العكس بينما ترفض نظرية كل سني داعشي حتى يثبت العكس. الأمر الثاني، ما كان لك أن تنتقد مثل هذا اللقاء لو أن الضيف كان من الضفة الأخرى، أي من جماعة “الثورة مستمرة حتى آخر سوري!”.
لقد قام الشعب السوري بثورة من أجل الحرية والعدل والخير، فحوّلها النظام ومعارضته، المسلحة والسياسية المرتهنة إلى بعض العواصم، إلى حرب أدواتها الشعب وروافعها لغة الكراهية والفرقة والفتنة، والأطراف الضالعة في الصراع السوري كلها ساهمت في شق الصفوف وحرف الثورة وليس النظام بمفرده. فهل مقبول من مثقف الغوص في أوحال الطغيان، بكل أشكاله، واستخدام لغة خطابه؟ بينما مطلوب منه خطاب تنويري والالتفات إلى استحقاقات المرحلة، فهناك فوق ما نحتمل من القضايا التي علينا مواجهتها بشكل إسعافي. يبقى للمثقف دور أرفع بكثير، وللأدب تحديداً، الأدب الذي يقوم على الجمال والقيم. بتنا، نحن أبناء هذا الشعب المهتمين بما ينتج نخبنا، نحلم بسجالات ومعارك ثقافية تدفع بالحراك الثقافي بعيدًا عن الاستنقاع أو ساحات الثأرية، سجالات لا يليق بها أن تكون نسخة عن برنامج كالاتجاه المعاكس.
أهمل بعض المثقفين الإرث الثقافي الذي تركه بعضهم الآخر، المتهم من قبلهم، وراحوا يكيلون الاتهامات ويحتكرون مسطرة القياس الوطنية فيخونون بعضهم ويصنعون من بعضهم الآخر أيقونات، بينما الوطن السوري والشعب السوري متروكان لبازارات السياسة والمساومة الرخيصة، ونسوا في حمى الاستعار المجنون أن للمثقف مكانًا وحيدًا بعيدًا عن الاستقطابات السياسية أو الاصطفافات العصبية، يمكن من خلاله أن يطل على المشهد ويرصد الانحرافات والارتباكات والانزياحات، ويدق ناقوس الخطر كي يحمي البلاد من السقوط المدوي. آن لنا أن نعترف أن حالة المثقفين هي جزء أساسي من “الانتكاسة السورية”.
ضفة ثالثة