صفحات سوريةعبدالناصر العايد

سحق السّياسة بين سلطتي الولاء والطاعة/  عبدالناصر العايد

 

لطالما كان العمل السياسي في مجتمعاتنا المشرقية رهينة أحد المحبسين، الولاء أو الطاعة، ولا يظهر إلى العلن سوى للحظة خاطفة، عند منعطف تاريخي ما أو تحول اجتماعي كبير، لا تلبث السياسة بعدها أن تعود أو تُعاد إلى مخدع الحكام وأهل السلطة الذين يحتكرونها، ويمنعون عامة الناس من الدنو منها، ولا يبقى من إطلالتها سوى أثر يتحسَّر عليه الحالمون بها، ويلوح لهم كباقي الوشم في ظاهر اليد، وهو ما يراد اليوم أيضاً للتحولات الموصوفة بالربيع العربي أن تسفر عنه، إذ تبدو قوى الولاء والطاعة في سباق مع الزمن لانتزاع السياسة من العامة وإعادتها إلى الخاصة، وتشييد البنيان السلطوي السابق مع تغيير الواجهات فقط، كأن شيئاً لم يحدث في هذا العالم المشرقي.

والولاء الذي نقصده هو الذي وصفته قواميس اللغة العربية بأنّه الصّلة الحاصلة بين المولى والعبد المحرر بسبب تحرير المولى له، والذي هو عين ما دعت إليه منذ منتصف القرن الماضي الأنظمة العربية التي وصلت إلى الحكم من طريق العنف العسكري، وزعمت أنّها خلَّصت شعوبها من نير التخلف وأخرجتهم إلى فضاء الحداثة، بفضل الخصال الاستثنائية لقادتها وزعمائها.

والولاء علاقة تقوم على الخوف من شخص أو جهة معلومة، تصبح سلطة باستخدام العنف المباشر المستمر الذي يؤتي ثماره مباشرة لأن ميدانه الوعي والحس، ونقيضه الخيانة، وهي تهمة فضفاضة تفضي إلى إعدام من يعارض أو يعترض على سلطة أو سلوك القائد أو الزعيم بالتصفية الماديّة أو الفعليّة أو الرمزيّة.

يمارس الحاكم في نظام الولاء سلطته عبر الأوامر التي تريح المأمور من عناء التفكير، وتعفيه من المسؤوليّة، ويمكنه التملص والتنصل من تنفيذها إذا كان كسولاً أو كانت فوق طاقته، فالتابع ينعم بحماية سيده طالما واظب على إظهار التأييد، وبإمكانه أن يستفيد من منظومة الجماعة الموالية في تيسير سبل العيش والراحة، لكنه لن يشعر بالتفوق، كشريك في السلطة التي يخدمها ما لم يقدم خدمات جليلة، يستحق أن يمنح لأجلها جائزة الثقة، أعلى جوائز نظام الولاء، والتي تعبر بدقّة عن التكامل النفسي الرابط والحافظ استقرار العلاقة واستمرارها، فالقائد مهزوز الثقة ويحشد كل طاقة أتباعه لتحصين نفسه، والعبد يشعر بالخوف، ويلوذ بقوة الزعيم وجماعته، ليشعر أفراد المنظومة كافة بالأمن، وهذا فيما تبنى الطاعة على القلق، والذي هو الخوف من المجهول، وتعني في اللغة الانقياد من دون إكراه مادي، لكنها تستمد عملياً من التهديد باستخدام العنف، وهذا أكثر تأثيراً من استخدامه فعلياً، لأنه يغوص في اللاوعي، عبر الإيحاء والتخيُّل.

والطائع يتلقى الأوامر عبر الرموز، وهو رهن الإشارة التي يصعب تفسيرها، أو تتخذ تأويلات عدة، الأمر الذي يعقد استجابة الطائع، فيلبيها على مستويات عدة من الظاهري إلى الداخلي الباطني، وهو لذلك لا يستطيع التملص أو التنصل من الإشارة، لأنها تسكن اللاوعي وترهقه بالقلق الذي لا يزول، حتى يصبح كلّ هم الطائع الوصول إلى الصلاح الذي يفضي إلى الجائزة الكبرى وهي الرضى، والرضى يُفضي إلى الطمأنينة، أي زوال القلق.

في الأغلب الأعم مورس الحكم في منطقتنا بنوع من التقاسم المضمر بين تينك السلطتين، ودعم كل منهما شرعية الآخر، ومنعا صعود سياسة مستقلة في المجتمع، واستأثر أصحاب الولاء بوعي الجمهور ونشاطاته المتعلقة بعيشه اليومي، فيما هيمن رجال الدين الذين نصبوا أنفسهم جُباة للطاعة وأمناء على صيدلية الطمأنينة على فضاء اللاوعي، فقمعت الأولى التفكير الواعي والنشاط المجتمعي الفعّال، وجفّفت الثانية ينابيع الخيال والإبداع.

بُعيد زلزال الربيع العربي وتزعزع كلا السلطتين، وانتزاع حق العمل السياسي الشعبي والجماهيري، متمثلاً في التظاهرات التي انداحت في الشوارع وأسقطت الأنظمة القائمة، بدأت كما هو معتاد بعد أي تحول اجتماعي عاصف، عملية بناء جديدة للسلطة، لكن في المجتمعات العربية ما بعد الثورة، تتم اليوم إعادة بناء كاملة لهاتين السلطتين جنباً إلى جنب في أكثر من مكان، وربما كانت سورية التي يسيطر نظام الولاء الأسدي على شطر من جغرافيتها، فيما سيطرت قوى الطاعة الإسلامية على الشطر الآخر منها، هي المثل المتعين الأكثر سطوعاً، والذي يمكننا من خلاله اختبار المنحنى البياني لعودة هاتين السلطتين إلى الحياة والعلاقة الوثيقة التي تربطهما، ويمكننا أن نشاهد أمثلة لا تقلّ أهمية في مصر وتونس وليبيا واليمن، مع أنّ بعضها أحادي وبعضها أقل وضوحاً.

إنّ السياسة في الحقل الاجتماعي ليست ترفاً، بل تنشأ من عوامل اجتماعية، على رأسها الاختلاف في النظرة إلى الحياة، وتنوع احتياجات الناس، ومحدودية الموارد المتاحة لهم، وهي نوع من إدارة التنافس الذي ينشأ على خلفية هذه العوامل بين الفئات والأطراف التي تدخل اللعبة، وفق مبدأ التسويات البينية، وتختصر بمقولة فن الممكن، وذلك بهدف استمرار عمل النظام السياسي، وعدم دفعه للانهيار عند استخدام العنف الذي حدث، ويبدو أنَّه سيحدث كثيراً في المجتمعات ما لم يظهر تيار اجتماعي سياسي قوي يتمسك بالقانون الأساسي للعبة السياسية، وهو حصول كل طرف على مساحة في الفضاء العام، وحصّة من القرار السياسي، تكافئ قوته مهما تدنت تلك القوة، بمعنى آخر التمسك بمبدأ النسبية والاعتراف بالآخر، ومناهضة الإطلاقية الإلغائية التي يحاول طالبو الولاء والطاعة من خلالها الاستفراد بالسلطة والسياسة مجدداً.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى