صفحات الثقافة

سرديات ناجية من مجزرة/ عبد السلام الشبلي

 

 

يكاد الراهن السوري، بمفرداته المؤلمة، يكون الحامل الأساسي للّغة والتخييل السردي في مجموعة مصطفى تاج الدين الموسى القصصية، “مزهرية من مجزرة” (بيت المواطن السوري للنشر والتوزيع). صحيح أن الكاتب يخرج أحياناً، في قصصه القصيرة وومضاته السريعة، إلى فضاءات أخرى غير سورية، إلا أنه لا يفعل ذلك إلا بهدف التناصّ أو العثور على إحالات يمكن أن تشكّل طبقة سرديّة أخرى، في نصه، تُرجع إلى واقع بلده الذي يبني سرده على أساسه.

هو واقع صادم بحقائقه، على أي حال، ويتطلب لغة وعدّة سردية واسعة الخيارات، في حال أراد كاتب ما، محاكاته بعيداً عن المباشرة والتوثيقية التي يفرضها. لهذا، فإن صاحب “قبو رطب لثلاثة رسّامين” يسند أسطورية كثير من الأحداث السورية التي يتناولها في مجموعته إلى حكايات عالمية طالما شكّلت حالة دهشة لدى قراءتها، رغم تعدد هذه القراءة. فبائعة الكبريت الدنماركية لم تمت لأن أطفال درعا أرسلوا إليها أعواد ثقاب سراً، وسندريلا أعجزت الأمن بسبب عملها بلصق المنشورات المعارضة على جدران المدن، ما استدعى القبض عليها.

يتنقّل الكاتب بين تقنيات السرد، من وصف إلى حوار إلى مونولوغ، محاولاً توظيف التشكيل السوريالي كفنّ سردي في نصوصه، عبر دمج المعروف والمألوف بتصاوير وفضاءات خيالية وفانتازية. فالعوالم جميعها واحدة في فضاء ما يُكتب، ولا فرق بينها إلا ما يستطيع القارئ تفريقه عند الانتهاء من كل قصة. وهذا ما يبدو أن الكاتب سعى إليه، في محاولته تجسيد الواقع السوري الذي صار، حتى بالنسبة إلى السوريين أنفسهم، غير واقعي.

أدوات سردية كهذه يمكن الوقوع عليها في قصة “أمي عصابة إرهابية”، التي نكتشف في نهايتها أن الكاتب كان يتحدث مع أصدقائه الذين قتلوا، أو في قصة “البيانو” الذي بكى بسبب قسوة خطيب صاحبته، الضابط، وشكا لها ذلك، ما جعلها تفضل البيانو على خطيبها، أو في قصة الطفل الذي حمل، من بين الأشلاء، ذراعاً تفوقه طولاً، وصرخ “لقد كبرت”.

الألم المنتشر في ثنايا القصص لم يكن عائقاً أمام بزوغ لغة كوميدية سوداء في بعض منها. إنها لغة متهكّمة على مصادر الألم، كما في قصة “الفأر” الغبي الذي أكل هوية حزبيّة فمات متسمماً. في هذا السياق، تشكّل مفردة الحب أيضاً عاملاً حقيقياً لإنهاء الخوف من الطغيان، والابتعاد عن الحرب، كما في قصة “مصرع التمثال”.

من بين كل هذا الخراب والخوف، استطاع مصطفى تاج الدين الموسى تكوين توليفة من الحكايا، أو “الأزهار”، لتقديمها إلى القارئ في مزهرية من ألم منحوتة من معدن الحاضر الذي يعيشه بلده.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى