سرديّات التامريّ/ أحمد جاسم الحسين
الشام التي أحببناها “كَنّة”، قدَّمها زكريا تامر “حَمَاة”. فشام سرده غير شام شعرنا، والياسمين الذي يعرّش على الجدران، تمتدُّ جذوره نحو القلوب. يدرك أنَّ شام السفراء غير شام الحدّادين، ووطنه يقبل التكسّر في أيّة لحظة؛ لأنَّه “بُني من فخَّار” بتعبير محمّد الماغوط.
لم يدخلْ التامريّ في لعبة المواقف الضبابيّة يومًا، كانت لديه حساسيّة مبكّرة من الضبابيّين، مع أنَّ الأقدار ساقته ليعيش في أرض الضباب. لم يُعجب به الرماديُّون منذ زمن طويل، بعد أنْ رصد، مُبكّرًا كيف يولد الربيع في الرّماد. لم يخطرْ ببال المتابع لعالمه السرديّ أنْ يتساءل عن موقفه من الثورات، فلا يمكن لكاتب “ربيع في الرماد” إلّا أنْ يكون مرحبًا بربيع الحريّة، حتى لو كان رعدًا، مغمَّساً بالأناشيد الحلوة. ازداد شعوره بضرورة رفض واقع المدينة، الذي يعمّق غربته في وطنه، سيبحث عن الحلّ أينما كان مع أنَّ “سماء المدينة سوداء لا تملك قمرًا وشمسًا ونجومًا”.
تكسَّرت القلوب على القلوب، وبات “تكسير الركب” هيِّناً أمام تكسير قلوب آلاف الأمّهات، هكذا وُلد زكريا مهاجراً مرّتين؛ ذاق هجرة السوريّين ثمانينيات القرن الماضي، وهجرتهم في القرن الواحد والعشرين، وكان عليه الانتظار طويلًا حتى يتحقق حلمه في التغيير. ونحن لا نزال ننتظر تحقيق وعده، إذ قال: “سأحوّل المدينة إلى قرية كبيرة محاطة من كلّ جانب بحقول خضراء ممتدّة إلى ما لا نهاية، وسيكون لهذه القرية مساحة فسيحة جدًّا، سيجتمع فها كل مساء جميع السكان”.
زكريا تامر، مؤلّف معجم الصوت في السَّرد، الذي طوّع كلمات كثيرةً، وربطها باللّسان في قصصه عبر نصف قرن، فأفرز دلالات جديدةً عبر صفات التصقتْ بمعجمه اللّغويّ وبثَّها في السرد، حيث نكتشف أنَّ صوتنا “صوت أجش، وصوت خفيْض، وصوت ممطُوط، وصوت مبحوح، وصوت طويل، وصوت رفيع، وصوت متلجلج، وصوت متملّق، وصوت متهدّج” وها هو صوتنا، الذي وصفه بأنه “صوت صارخ” يتحوَّل إلى “صوت مبتل بالدموع”.
تقرأ سرديّات التامريّ فتتمنَّى أن تصبح إحدى شخصيّات حارته، ربّما حارة السعدي مثلاً، لأنّك واجد أنّ شخصيّاته أليفة، ربّما مررت بها، التقيتها في مقهى، أمام شبّاك مخبز، عندَ فوّال دمشقي، ربّما يتحدّث عنكَ أنت! فحالك مثل حال العصفورين اللذين حطَّا على غصن شجرة محاذية لأحد شوارع دمشق، ولم يغرّدا ترحيباً بشمس الصباح، إنَّما تبادلا النظرات الوجلة الحائرة، كانا يتساءلان معك: أين نطير؟
“سماؤنا احتلَّتها الطائرات!” سنستغيث معه، وقدوتنا في “الاستغاثة” يوسف العظمة، يوم صرخ تمثاله في سماء دمشق يدين الفساد، فكان مصيره مشفى المجانين. أغمض العظمة عينيه، وأحسّ أنّ شرايينه تمتلك آلاف الأجنحة التوَّاقة إلى فضاء رحب، فأطلق استغاثة، التقتْ بالاستغاثة الآتية من أرض يحتلّها الأعداء، وامتزجتا في صراخ مديد تبدّد في ظلمة الليل المهيمن على دمشق النائمة!
مخيّلة زكريا تامر، رغم قسوتها، وشخصيّاتها العنيفة، لكنها، في لحظة ما، ترفض القتل، فقد “باع الشنفرى سيفه قبل سنين، دون أن يلطّخ سيفه بدماء رجل”.
تنبَّه زكريا للتطرّف منذ زمان طويل: التطرّف الدينيّ والسياسيَ والمكانيَ والجغرافيّ والإيديولوجيّ، فنبَّه قرَّاءه إلى سوْءاته، لكنَّ أصحابَ القرار في شامِنا لا يقرؤون، وإنْ قرؤوا لا يريدون أن يفهموا، بل إنَّهم يمعنون في الحفر بأعماق التطرّف، وتغذيتِه بطرقهم، ربَّما قرؤوه ووجدوا أنَّه أحد طُرق إطالة بقائهم!
تنبَّأ زكريا لدمشق، منذ زمان طويل، بطاغية من نوع خاص، نادراً ما يتكرّر في التاريخ، لكنّنا ظنّنا أنّ الأمر لا يتجاوز حكاية تُروى للأطفال قبل نومِهم تشبه ذبح الحمام، أو ربّما قصة تُقرأ في كتاب، ويبدو أنَّه لن يرحل في يوم لا بدّ من مقدمه، قبل أنْ يترك خلفه شامنا مكتظة “بالجيف المتحركة”!
وعلى الرغم من ذلك؛ إلَّا أنّ الشارع، والمقهى، والزنزانة، والغرفة الموحشة، والقبو المظلم، والسينما، والخمارة، والمعمل، والمطعم، والبستان والنهر، تحتاج إلى كائنات تؤثّثُها بالعشق والحياة، فدمشق “كانت في قديم الزمان سيفاً أُرْغم على العيش سجيناً في غمده، وكانت طفلةً تثقل الأصفاد خطوتَها. وكان ياسمينها ينبت خفية في المقابر، مرتدياً أكثر الثياب حلكة، فلمَّا علمَ أعداؤها بأحوالها سارت إليها جيوشهم، وبنت حول أسوارها سوراً من قتلة”.
أيّها الشيخ الحكائيّ! سننتظر، سننتظر طويلاً، طويلاً، مدينتنا دمشق، شامنا، سوريَّتنا، التي حلمت بها وشاركناك الحلم، حيث سيكون صليبها “مقهى وشارعاً”!
العربي الجديد