سرطان الفيلسوف الدجال/ صبحي حديدي
بلغ تدهور الفكر السياسي في فرنسا المعاصرة، وانحطاط سوية زاعمي ممارسة التفكير السياسي في مؤسساتها وجامعاتها ومطبوعاتها، تلك الحال التي يصحّ وصفها اهتداء بصيغة فعلية في نحو اللغة الفرنسية: فعل ماضٍ ناقص. ولم يكن ينقص، لكي يتفاقم هبوط المشهد، إلا فضيحة انتخاب “الفيلسوف” ألان فنكلكروت لعضوية الأكاديمية الفرنسية، أرفع مؤسسات فرنسا الثقافية والفكرية.
وربّ صدفة خير من عشرات المواعيد، إذْ يُنتخب صاحبنا في السنة التي تسجّل مرور عقد على فضيحة قانونية، ثمّ فكرية تخصّ حرّية التعبير أيضاً؛ صال فيها فنكلكروت وجال، فتبدّت مظاهر جديدة بشعة من عنصريته الدفينة (تقسيم البشر إلى “متمدنين” و”متوحشين”)، وتكشّفت مضامين أبشع للحدود التي يمكن أن يذهب إليها في تفضيل انحيازه لديانته اليهودية على حساب قِيَم المواطنة المدنية والعلمانية، وبالتالي مساندة دولة إسرائيل على نحو مطلق أعمى. مغزى الصدفة يتجاوز فرنسا، أيضاً، لأنه يصبّ في السجال الدائر حول حرّية التعبير في الديمقراطيات الغربية، وما إذا كان القانون هو الناظم الأوّل في ضبط حدودها.
والحكاية بدأت مع ثلاثة: إدغار موران، فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي بارز، تعود أصوله إلى يهود إسبانيا الـ”سفارديم”؛ وسامي نير، جامعي ومؤلف فرنسي من أصول جزائرية، وزير سابق وعضو سابق في البرلمان الأوروبي عن “حركة المواطن”؛ ودانييل سالناف، المؤلفة والأستاذة في جامعة باريس العاشرة. هؤلاء وقّعوا ـ في صحيفة “لوموند” الفرنسية، يوم 3 حزيران (يونيو) 2002، في ذروة البربرية الفاشية الإسرائيلية ضدّ مخيّم جنين الفلسطيني ـ مقالاً بعنوان “إسرائيل وفلسطين: السرطان”، انتقدوا فيه سياسات أرييل شارون، واعتبروا أنّ طبيعة السرطان ناجمة عن اعتلال سياسي ـ أمني ينهض على الإخضاع والهيمنة.
ولم تمضِ أيام حتى سارعت منظمتان، هما “محامون بلا حدود” و”فرنسا ـ إسرائيل”، إلى رفع دعوى قضائية ضدّ الثلاثة، ومعهم جان ـ ماري كولومباني رئيس تحرير “لوموند” يومذاك، استناداً إلى القانون الفرنسي الذي يحظر التشهير العنصري. واقتبست المنظمتان فقرتين لا غير، لا تزيدان عن 90 كلمة، من أصل مقال يتجاوز 2500 كلمة؛ تقول الأولى مثلاً: “من الصعب أن نتخيّل أمّة من المشرّدين، أسسها شعب تعرّض للاضطهاد أكثر من أيّ شعب آخر في تاريخ الإنسانية، وعانى أسوأ الإهانة والاحتقار، تصبح قادرة على تحويل نفسها خلال جيلين فقط إلى شعب مهيمن مطمئن إلى ذاته، شعب متغطرس لا يشفي غليله إلا الإذلال”.
وفي مطلع مايو (أيار) 2004 ردّت محكمة نانتير الدعوى، معتبرة أنّ الفقرتين “لا يمكن أن يتمّ تقييمها بمعزل عن التأمّل الأعمّ الذي كان المؤلفون قد ابتدأوه”. واعتبر القضاة أنّ ذلك التأمّل جرى في سياق “موقف يحثّ شرعاً على السجال”، والفقرتان موضوع الشكوى تندرجان في “نصّ حامل لرسالة سياسية”. لكن محكمة الاستئناف في فرساي ردّت حكم محكمة نانتير، فتدخّل الرأي العام، وصدرت عريضة تضامن لافتة تماماً، وقّعها 150 من المثقفين الفرنسيين والأوروبيين البارزين؛ من أمثال بول ريكور، ريجيس دوبريه، جان بودريار، جيل مارتينيه، بيير نورا، ماريو شواريس، ألان تورين، جياني فاتيمو، وبيير ـ فيدال ناكيه. وبالطبع، توفّر بعض اليهود في عداد الموقعين. ثمّ أُغلقت القضية حين كسرت محكمة النقض الحكم الأخير، فأبطلت تهمة “التشهير العنصري”، واعتبرت أنّ نصّ المقالة يندرج في باب حرية التعبير.
هنا انبرى الفيلسوف الدجال، فنكلكروت ـ على رأس أقرانه من الحواة، كذبة مدرسة “الفلاسفة الجدد”، أمثال برنار ـ هنري ليفي وأندريه غلوكسمان ـ ليس للدفاع عن تلك الحرّية، التي ثمّنها القضاء في محكمة النقض؛ بل لكي يبلغ بانحيازاته ذروة قصوى تبارك أخبث طرائق وأد حرية التعبير، وتسوّغ تمجيد تلك الطرائق، من جهة أولى؛ كما تتعمد تأثيم المدافعين عن حرّية التعبير، من جهة ثانية. وهكذا، لم يجد فنكلكروت أي حرج في السخرية من الثلاثة موضوع الشكوى القضائية، والتهكم على المثقفين المتضامنين معهم، فاعتبر أنّ قضية موران ونير وسالناف لم تذكّره إلا بقول شارل بودلير: “ما يثير السأم في فرنسا أنّ الجميع يتصرّفون مثل فولتير”!
بالطبع، إذْ كان الأحرى بهم أن يتصرّفوا مثل أرييل شارون!
موقع 24