سر العقدة الروسية في الشرق الأوسط
محمد الرميحي
هل الموقف الروسي من الأزمة السورية مُحير؟ أظنه كذلك، فكلما قلبت الأمر كي تعرف لماذا هذا الموقف الذي لا يعبأ بالسياسة كما لا يعبأ بالأخلاق، أمام نهر الدم المتدفق والتخريب غير المسبوق في المدن والقرى السورية، تظهر لك الكثير من الاحتمالات التي لم تعد خفية على المحللين.
أردت أن أعرف لماذا هذا الموقف من طريق آخر، قلبت من جديد كتاب يفغيني بريماكوف الرجل الذي عاش في الشرق الأوسط كمراسل صحافي لجريدة «البرافدا» في أهم مرحلة تحول بعد ثورات العسكر العربية، ثم ترقى في الإدارة السوفياتية حتى وصل إلى منصب وزير خارجية ثم رئيس وزراء لفترة قصيرة، جاء من نفس المؤسسة التي ينتمي إليها الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين، وهي جهاز المخابرات السوفياتية، الرجل في فترة الخمسينات أنجز أطروحة دراسية كان عنوانها (نشأة الشركات الغربية في الجزيرة العربية) وهذا دليل على الاهتمام المبكر للرجل الأوكراني بريماكوف لمركزية المصالح الغربية في الصراع على النفوذ والموارد في الشرق الأوسط، لم يكن أحد من العرب المهتمين يزور موسكو في العقد قبل الأخير من انهيار الاتحاد السوفياتي، إلا ويكون اللقاء والحديث مع بريماكوف الخبير مطلوبا وضروريا.
كاتب هذه السطور لم يكن الاستثناء، فأنا أحتفظ في أوراقي بمقابلة طويلة في مكتبه وسط الثمانينات، عندها كان مديرا لمعهد الدراسات الدولية في موسكو، وكانت مقابلة ساخنة، الرجل يتكلم العربية بطلاقة، كما كان التوقيت فترة حرب ضروس بين العراق وإيران، ولم يكن أحد يتصور حتى في أكثر خيالاته جموحا، أن الاتحاد السوفياتي العظيم سوف ينهار إلى شظايا بعد سنوات، كان موقف الدولة السوفياتية هاما.
الحديث وقتها عن مساندة الاتحاد السوفياتي لإيران في حربها التي امتدت وقتها لسنوات، كنا في الخليج نسمع أصوات المدافع ونشعر بحرارة الحرب، قلت للرجل إن موقف الاتحاد السوفياتي من تسليح إيران مُحير، فهي صديقة للنظام العراقي وتسلح عدوه! رأى يفغيني بريماكوف وقتها لم يكن ملتبسا، كان يرى أن إيران أهم كثيرا من العراق بالنسبة للاتحاد السوفياتي، وأن تسليحها يأخذ أولوية عندهم، لسبب مهم جدا من وجهة نظره، وهو أن إيران مضادة جذريا للمصالح الغربية في المنطقة، أما العراق فتحكمه مجموعة برجوازية ضيقة الأفق، يمكن أن تغير رأيها في أي وقت في المستقبل!
يسطر بريماكوف في كتابه الذي صدر عام 2009 وهو بعنوان (روسيا والعرب) من جديد هذا الموقف الذي يملي على روسيا التي ورثت الاتحاد السوفياتي الموقف الاستراتيجي ذاته، فأي موقف لدولة في الشرق الأوسط معاد للغرب، هو فرصة سياسية للروس، عليهم التقاطها وتعظيمها لتوسيع نفوذهم.
في فصل من فصول الكتاب يقول بريماكوف إن (المتشائم هو شخص متفائل ولكنه يعرف أكثر) والمعنى هنا واضح المعالم لا لبس فيه، فالصراع من منظور موسكو هو صراع مصالح بين الشرق والغرب، المتمثل في مطامح روسيا سواء كانت الإمبراطورية أو الشيوعية أو حتى شبه الرأسمالية كما هي اليوم في الوصول إلى المياه الدافئة، وهم يعرفون الكثير عن المصالح الكبرى المحققة، وأن من يقف أمام هذا الطموح، ليس الدول الصغيرة المكونة لأرخبيل الشرق الأوسط، ولكن القوة الغربية التي وصلت في وقت ما إلى طرد الروس حتى من حدودهم الجنوبية ومناطق نفوذهم التقليدية، أفغانستان وما حولها.
من هذا المنظور الاستراتيجي الواسع علينا أن نفهم الموقف الروسي اليوم من مأساة الاقتتال في سوريا ومن إمكانية تفجر المنطقة حول سوريا أيضا، الفوضى تصب في مصلحتهم.
يقابل هذا الموقف الروسي الذي (يعرف أكثر) وهو من صلب قناعة جهاز المخابرات السوفياتي الذي أنتج كلا من بريماكوف وأيضا فلاديمير بوتين، الموقف الأميركي الذي يعتريه خوف مرضي (سندروم) ناتج من التورط السابق في كل من أفغانستان والعراق، كمثل السندروم الذي اعترى السياسة الأميركية لفترة طويلة بعد حرب فيتنام، التي قررت بعدها الولايات المتحدة عدم التدخل النشط في المشكلات العالمية إلا من خلال وكلاء محليين، كما حدث في أفغانستان في بداية حربها للوجود السوفياتي. هذا الخوف المرضي هو الذي يفسر تراجع الموقف الأميركي وتقدم الموقف الروسي في الشرق الأوسط، ويعود الإعلام والصحافة الروسيان من جديد إلى (معايرة) الولايات المتحدة، كما يفعل بريماكوف في كتابه السابق الذكر، غمزا من خلال التذكير بأن كذبة كبرى قد ارتكبت في العراق، عندما أكدت الإدارة الأميركية وقتها أن العراق يملك أسلحة فتاكة وكيماوية ولم يقم الدليل على ذالك بعد تحرير العراق، العقدة التي تجد صدى لدى إدارة باراك أوباما اليوم، إلى درجة أن تأكيد الفرنسيين والبريطانيين ولجنة من الأمم المتحدة من جهة، على استخدام النظام السوري أسلحة كيماوية، يجد أذنا صماء في الإدارة الأميركية، وتريد التحقق والتأكد، ثم التأكد والتحقق!
ليس إذن الموقف الروسي الحالي غير المبالي بالاقتتال البشع والآلاف من الضحايا السوريين وقصف المواطنين السوريين بالطائرات والأسلحة الثقيلة وتدخل قوات منظمة من خارج سوريا، إلا جزءا من التردد الأميركي الذي كان أوضح قول فيه ما صرح به جون كيري وزير الخارجية الأميركي، إننا تأخرنا في التدخل، وما زالوا – رغم ذلك التصريح – يفعلون. إنهم يعرفون (أقل)!
إذا انعقد مؤتمر جنيف، وأرى صعوبات كؤود أمام ذلك – إن انعقد، فهو تتويج للجهد الروسي في إبقاء النظام، وهزيمة للجهد الأميركي دون منازع، فليس هناك كذبة سياسية في عصرنا أكبر من القول (القيادة من الخلف) لم تخترع تلك العربة السياسية بعد التي تقاد من الخلف إلا في ذهن بعض الهواة في البيت الأبيض، أما على الأرض فالخيار إما أن تقود أو لا تقود. الإصرار على التأكد ثم التأكد من استخدام الأسلحة الكيماوية من قبل النظام السوري أصبح نكتة من جهة، ودليلا على السندروم المرضي الذي أصاب الإدارة الأميركية في وجه موجة القتل البشع والتمثيل بالجثث وتدفق اللاجئين وتوسيع مسرح الصراع ليفيض على الجوار السوري من جهة أخرى، كل ذلك يعني انحسار النفوذ الأميركي والغربي وزحف النفوذ الروسي الذي لم يتحقق في مرحلتي الشيوعية والإمبراطورية، نراه يقترب إلى التحقق في عهد ورثة ذلك النظامين.
من السذاجة القول أولا إن هناك حربا بالوكالة، فلم يعد للمعسكر الغربي قدرة على خوض صراع ساخن أو ناعم، من دون الولايات المتحدة، كان ذلك حقيقة منذ زمن بعيد، ربما من أيام الحرب العالمية الأولى وزاد مع مرور الزمن، وثانيا من السذاجة تخيل الوصول إلى حل سياسي مع نظام قتل ثلث شعبه ويحاول في الثلثين الباقيين، هي أضغاث أحلام في واشنطن. ليس المطلوب من الإدارة الأميركية خوض حرب، المطلوب منها فقط قراءة واقعية لمسرح العمليات (حتى تعرف أكثر)، وموازنة عقلية بين الخسائر والأرباح، ثم إظهار رغبة حقيقية وتصميم في منع روسيا القيصر الجديد من التمدد. أما الحديث الدبلوماسي والرسائل المرتبكة فهي التي تزيد من تدفق الدم من عروق العرب السوريين وغيرهم أيضا.
آخر الكلام:
تصر بعض وسائل الإعلام الأميركية على قراءة المشهد السياسي في الشرق الأوسط على أنه صراع طائفي، ذلك يريحهم نفسيا، بإلقاء اللوم على مقولة إن المشكلة تاريخية لا يد لهم فيها، ولكن ذلك ليس الحقيقة؛ الصراع جار بين شرائح اجتماعية تريد العيش في العصر، وشرائح تريد البقاء في العصر القديم، وهو صراع اجتماعي سياسي عابر للطوائف، ويرتدي حللا قومية ومصلحية، امتلاك التحليل الصحيح يقود بالضرورة إلى الحلول الصحيحة.
الشرق الأوسط