سعد الله وعمر/ عباس بيضون
الفيلم الذي صنعه عمر أميرالاي عن سعدالله ونوس يدعونا لنستذكر الاثنين اللذين غابا اليوم. الفيلم الآن ذكرى للاثنين معاً، كان سعدالله في مرضه يبدو أقرب إلى الموت من عمر، بل إن الفيلم كان وثيقة تستبق غياباً، لكننا شاهدنا الفيلم بعد أن صار عمر أميرالاي أيضاً في الغياب، الزمن الذي انقضى على لقاء عمر بسعدالله كان شبه عابر فالفيلم صار وثيقة غياب لعمر، الاثنان معاً في الفيلم وكأنما رحلا معاً، رغم أن عمر كان بادي الصحة وسعدالله بادي المرض. رغم ذلك لم يكن الموت حاضراً، سعدالله بطاقيته وسريره لم يبد انه على وشك الرحيل وعمر الذي يلوح لنا الآن من وراء الغياب لم يظهر عليه انه يكلم رجلاً على الحافة، كان الحوار بين اثنين خرجا من نفس المعترك، الزمن الذي مضى على ذلك لم يظهر، لم نشعر به، لم يكن الحديث حديث ذكريات، لم يكن مراجعة، حين أشار سعدالله إلى ان مرضه قد يكون أتاه من هزيمة سياسية لم يكن يمزح، ليست المناسبة للمزح، قال ذلك بقدر من الحسرة لكنه لم يستبعده، جعلنا نحن أيضاً نستبعده. كان المرض موجوداً في صلب الواقع، كان يأتي من الخيبة السياسية، من الهزيمة، سعدالله المريض لم يؤكد ذلك، لكنه أشار عفواً إلى تواقت بين المرض والخسارة السياسية، لم يبعده المرض عن السياسة، لم يجعلنا معزولاً عنها، لم يضعه أمام مصيره وحده، كان لا يزال أمام المستقبل، كان يرى المعركة كأنها لا تزال قائمة، كان لا يزال على نحو ما فيها، لا السرطان، لا وشك الرحيل، لا مقاساة المرض، لا سرير المستشفى، كل ذلك لم يجعله لا مبالياً بالسياسة، كان لا يزال مهموماً بها. كان لا يزال، على نحو ما، في المسيرة.
استذكر الاثنين سعدالله ونوس وعمر أميرالاي، لا أعرف لماذا يردان على فكري، لماذا اجمعهما كما اجتمعا في فيلم، ألأنني غبت عن الأول سنيناً طويلة، ربما هي سنوات مرضه، بعد أن أمضينا معاً، وتقريباً كل يوم بضع أشهر من سنة انتهت مع الاحتلال الإسرائيلي، ألأني كنت ألتقي بالثاني من آن لآن في بيروت التي ظلّ كثير الترداد عليها، وفي آخر لقاء كنت على كرسي مدولب وقد نجوت من الموت ولم يدر لي ولا لأحد أن عمر ذاهب إلى موته وأنها أسابيع ويأتينا خبره. لم نكن معاً في مكان واحد لتنعقد بيننا علاقة منتظمة يجوز أن تسميها آخر الأمر صداقة أو صحبة. كانت هناك انقطاعات كبيرة وغيابات كثيرة، فلا أعرف إذا كان من حقي أن أسمي صداقة هذه الصلة التي لم تنتظم في يوم، إذا كان هذا من حقي أو انها رغبتي تريدها كذلك، إذا كنت بعد أن غاب الاثنان وتراخى الزمن على هذا الغياب، أريد الآن ان أخرج هذه العلاقة من التباسها فأصنفها وأطلق عليها أسماً وأجد لها هكذا مساحة واضحة في حياتي ومكاناً، ليس هناك اثنان نتمنى صداقتهما أكثر من سعدالله ونوس وعمر أميرالاي، لكن هذا التمني لا يسمح لنا بأن ننفض السنوات ونصنع شيئاً من شيء لم نصنعه في حينه، ونسمي ما لم نسمه في أوانه.
حين جاء سعدالله ونوس إلى «السفير» كنا التقينا من قبل مرات في بيوت أصدقاء ولم أكن حتى حينه أعرف ما بيننا، لكني عند ذلك قررت انها صداقة وتصرفت على هذا الأساس، كان هناك من أسرّ لي بأنه، أي سعدالله، يشكو من عارض عصبي، لم أكن غريباً عن العوارض العصبية والحق ان هذا العارض عقد بيننا آصرة تفهم وقوى، كان سعدالله حينذاك هجر الكتابة من زمن، والأرجح ان الكتابة لم تكن تطاوعه في حاله تلك وانه كان يحاول فلا يجد طاقة عليها. كنت احضر إلى الجريدة يومين في الأسبوع. فنتغدى معاً في مطعم قريب منها، ولربما استضافني في غرفته في الفندق التي كان لها ملحق يضم اريكه مريحة. في هذه الأيام تبادلنا أحاديث صريحة، كان سعدالله يقول أشياءه كما هي ولا يتكتم على شيء، كنا الاثنين عصابيين ولا يرجو واحدنا من الآخر إلا ان يكون هو. سمعت من سعدالله وسمع مني ما نتكتم عليه ولم نصنه فقد كنا بحق كاثنين مجروحين ولا نخفي ضجرنا وحيرتنا ومراراتنا. ظللنا هكذا أشهراً ثم عاد سعدالله إلى سوريا، التقينا بعدها في دمشق وفي بيته، ثم جرت بيننا أيام وسنين وسمعت انه أصيب بالسرطان. ظللنا نتواصل عبر أشخاص ثالثين وعبر أجواء مشتركة، لكننا لا نجتهد لنلتقي حقاً، أكانت هذه مسؤوليتي أم انها الأيام، أم أنها الحياة.
كان عمر أميرالاي يحب أن يسمع عن «خبثه»، وليس الخبث هو كما نفهمه في العربية، كانت الكلمة كأنما ترد في لغة أخرى، كانت تعني تقريباً «شيطنته» أو إذا شئنا تعبيراً آخر قلنا «نقديته». عمر كان يحب ان أكون أنا الذي يتكلم عن أفلامه، يقترحني على المحطات التلفزيونية واللقاءات الثقافية للمناسبات التي تناقش أفلامه، لا يعني ذلك انني امتدحها ولكنني أتواصل معها كأعمال فنية ولا اسقط عليها تأويلات اجتماعية أو سياسية. كان يريد نقداً فعلياً ولا يريد لأعماله أن تتعرض لقراءات برانية. علاقة شبه ثقافية ومتقطعة وقد جاء غيابه المفاجئ ليوقظني على ان ما بيننا كان شراكة، واننا قد نكون فعلاً أصدقاء مع أن أياً منا لم يقله للآخر ولم يقله حتى لنفسه.
السفير