صفحات الرأي

سعد زغلول الكواكبي تنويري علماني أباً عن جدّ/ جان داية

انتقل منذ أيام الى جوار جدّه، القاضي والأديب الحلبي سعد زغلول الكواكبي، وفي حين يؤكد أطباء الأبدان أن رحيل حفيد عبد الرحمن الكواكبي ناجم عن أمراض فيزيولوجية أقعدته وأطفأت نور عينيه، يردّ أطباء البلدان بأن القاضي ورئيس جمعية العاديات الذي أمضى حياته وهو يصارع تنين الفساد والاستبداد وأمراء التكفير الديني، قد صرعه التنين في الجولة الأخيرة كما فعل مع جدّه.

كان رئيساً لمجلس ادارة جمعية العاديات أو الآثار، حين أخبرته العصفورة بصوت خافت ان جرافات المحافظ على وشك إعدام أسواق حلب القديمة بفتوى مدنية لـ”تحديثها”. بعد ربع ساعة وقف أمام الجرافة وصاح بسعادته: يمكنكم جرف هذا السوق الأثري ولكن ليس قبل جرفي. سرعان ما توقفت ورشة إزالة ذلك المعلم الأثري الجميل من مدينة الشهباء التي نافست بيروت والاسكندرية في حركة التنوير، حيث دارت دواليبها في القرن التاسع عشر عبر مجموعة روّاد حلبيين نهضويين بقيادة فرنسيس المراش وعبد الرحمن الكواكبي وجبرائيل الدلال.

ثمة آراء ومواقف كثيرة أهّلت الكواكبي الجدّ للتربع على كرسي الصف الأمامي لرواد النهضة في بلاد الشام، منها دعوته عبر كتابه “طبائع الاستبداد”، الحلبيين وعموم الناطقين بالضاد، بهذه العبارة التي تتصدر قاموس العلمانيين: “يا قوم، أدعوكم الى تناسي الاساءات والأحقاد، وما جناه الآباء والأجداد، فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين. فهذه أمم أوستريا وأميركا قد هداها العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي – الاجتماعي – دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الاداري. فما بالنا نحن لا نفتكر في أن نتبع احدى تلك الطرائق أو شبهها؟”.

الحفيد الراحل سعد بعلمانية جده التي علّم عليها معظم الباحثين الكواكبيين. فقد أورد في كتابه “عبد الرحمن الكواكبي – السيرة الذاتية”، وتحديداً في باب “فصل الدين عن الدولة”، كلاماً مماثلاً لما سبق وكتبه الدكتور محمد عماره في كتابه “عبد الرحمن الكواكبي – الاعمال الكاملة” حيث قال في الصفحة 46 ان الكواكبي وصل “الى ذروة الحسم والوضوح في معالجة هذه القضية، قضية العلاقة بين الدولة ونظام الحكم وبين العقيدة الدينية، عندما يعلن في جرأة، يحسده عليها معاصرونا، فضلاً عن معاصريه، ضرورة الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية”. لعل الفرق الكبير بين سعد الكواكبي ومحمد عماره، ان الثاني أنكر في كتاب ثان علمانية الكواكبي وأثرها، في حين بقي الاول ثابتاً على رأيه في علمانية جدّه، ومتخطياً لها في حياته وجهاده. وعلى سبيل الأمثلة التي كنت شاهد عيان لها، لم يتردّد في تتويج كتابي “الامام الكواكبي – فصل الدين عن الدولة” الذي لم أعتبر مضمونه نزهة ربيعية على ضفاف بحيرة سويسرية، بمقدمة قال في مسك ختامها: “لصالح الدين كي لا يفسد بالدنيا، ولصالح الحكم لكي لا يفسد بتسلط رجال الدين على الحكم فيتورطون في قوانين بعيدة عن الدين فيقال – اذا عملوا بموجبها – أنهم غيّروا بها دينهم، ولكي لا ينهار الدين الاسلامي في الدول التي أكثريتها غير مسلمة، والعكس بالعكس، أنادي بفصل الدين عن الدولة طالما كان الدين حراً، وطالما كانت الدولة بقيادة غير مستبدة، مهنئاً أخيراً جان دايه على نجاحه في ما ظنّه مركباً خشناً امتطاه، وفي ما أسمّيه أنا مرقى رفيعاً قد ارتقاه”.

وإذا كان الراحل أقل علمانية وتقدمية من الناحية التنظيرية بالمقارنة مع التقدميين والعلمانيين، فإنه على المستوى العملي الحياتي العائلي مارس “كواكبيته”، في حين عاش بعض غلاة التقدمية والعلمانية من ماركسيين وسعاديين عكس ما دعوا الآخرين اليه. أقول ذلك انطلاقاً من ألف لقاء ولقاء جمعني به في منزله الحلبي، اضافة الى شاليهته في “الرمال الذهبية” شمال طرطوس، ومنزل شقيقة زوجته في فردان بيروت.

دعاني في اللقاء الأول الى نادي حلب العريق، هندسة وعمراً، وكانت تتصدّر المائدة زوجته الأدلبية مليحة الغزّال التي درست في ثانوية صيدا التي أسّسها كورنيليوس فاندايك.

في القرن التاسع عشر، حين بدأ الموسيقي الملتحي بعزف الموسيقى الكلاسيكية على بيانو النادي، وصل تجاوب السيدة الكواكبي مع الالحان حتى التماهي. يعود ذلك الى عاملين، أحدهما أن الموسيقى كانت احدى مواد التدريس في الانجيلية الصيداوية، والثاني ان صهر ادلب لم يكتفِ بالهزء من الرأي الذكوري الحاصر المرأة بالإنجاب والطبخ والنفخ، بل ساوى نفسه بأمّ البنات إلى درجة تغضب جدّه الذي تعجب المعجبون به من آرائه بالجنس اللطيف.

في سياق حوار طويل في الشاليه حيث يكون للجد حضوره الدائم، روى لي باعتزاز معلومة سمعها من الوطني الحلبي سعدالله الجابري، تفيد أن القائد الشيوعي لينين كتب رسالة إلى جده لم تخل من الاعجاب بعدما أطلع على كتابه “طبائع الاستبداد” الذي يتضمن أفكاراً اشتراكية. في المناسبة كانت الشاليه ملتقى المثقفين الحلبيين وبعضهم، بل معظمهم، من “الكفار”.

من منزل “ابنة عمه” في بيروت، توجهنا مرة لزيارة العلاّمة حسن الأمين، وكان قيدومنا شقيق سعد الأكبر، الدكتور عبد الرحمن، الذي تولى وزارة الأوقاف السورية في عهد أمين الحافظ، أو بالأحرى صلاح جديد. بعد السلام، “بشّر” السيد حسن الحفيدين بـ”حقيقة” مفادها أن جدّهما من عظام رقبته. لم يغضب الكواكبيان من محاولة “التشييع”، ربما لاعتقادهما بأن الجد عندما انتقل من المذهب الشيعي إلى المذهب السني، يكون كمن ينتقل من الاسلام إلى الاسلام. في المناسبة، لعل أحد الفروقات بين الكواكبي وجمال الدين الأفغاني اللذين يضعهما معظم المؤرخين في سلة واحدة، ان الأول سني من أصل شيعي، وأن الثاني شيعي إيراني قدّم نفسه لمفتي الديار المصرية محمد عبده على أنه سني أفغاني.

يبقى أن السوق الحلبي القديم الذي حال سعد دون جرفه، قد جُرف بفتوى دينية. وإذا كان من المرجح أن جارفيه كانوا جرفوا الرئيس الأسبق لجمعية العاديات لو تصدّى لهم، فمن المؤكد أن تدمير المعلم الأثري قد عجّل في رحيل حفيد الكواكبي.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى