صفحات سورية

ســـــــوريـــــة : من عدالة الانتقال إلى العدالة الانتقالية


 حبيب عيسى

 ( 1 )

           رغم أن مصطلح “العدالة الانتقالية” قد ظهر حديثاً ، إلا أن التاريخ البشري في جوهره هو تاريخ تطور الإنسان ، وبالتالي تطور المجتمعات البشرية ومقدرتها على الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى أرقى يكون فيها الإنسان أكثر حرية ، ويكون المجتمع أكثر مقدرة على التطور ، والمراحل الانتقالية هي الأكثر حساسية في التاريخ البشري لأن الماضي يكون مازال في الحاضر بهذه النسبة أو تلك بينما المستقبل مازال في مرحلة التبلور لم يستقر بعد ، وبالتالي فأن المراحل الانتقالية قد تحمل معها مخاطر كبيرة تهدد مبدأ الانتقال الإنساني الصاعد إلى الحرية ، وأي خلل  يحّول هذه المرحلة إلى مستنقع من الدماء قد يحتاج المجتمع بعدها إلى عقود زمنية أخرى لاستئناف الانتقال من جديد ، أو إلى مراحل انتقالية أكثر خطورة ، أما تلك المخاطر فتتأتى عادة من تشبث القديم وتوحشه ، ومن إطالة زمن الصراع العنيف وانفلاته في شتى الاتجاهات ، ومن تراكم حجم الضحايا ، ثم ، وهذا هو الأهم ، من افتقاد قوى التغيير الإيجابي للرؤيا الواضحة المتعلقة بالمرحلة الانتقالية ، وبالمرحلة المراد الانتقال إليها ، وفي الوقت ذاته غالباً ما تترافق المراحل الانتقالية مع تهتك كبير في مؤسسات المجتمع والسلطة بحيث تفتقد المقدرة على الضبط والربط …

ونحن عندما نتحدث عن مرحلة انتقالية من ، وإلى … لا بد من الإحاطة بالمرحلة المراد الانتقال منها ، وبالمرحلة المراد الانتقال إليها ، وبعمق الجراح والأضرار التي خلفتها عملية الانتقال ، وما قبلها ، والتي لا بد من معالجتها أثناء الانتقال وبعده ، وُتشير العدالة الانتقالية في العصر الحديث إلى مجموعة التدابير القضائية ، وغير القضائية ، التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ، وتتضمن هذه التدابير الملاحقات القضائية ، ولجان الحقيقة والعدالة والإنصاف ، وبرامج جبر الضرر ، وأشكال متنوعة من  إصلاح المؤسسات ، ثم البحث عن خصوصية الحالة المراد معالجتها وخصوصية الأسلوب المناسب في تلك المعالجة ….

( 2 )

           فالعدالة الانتقالية هي مقاربة موضوعية لتحقيق العدالة في فترات الانتقال من خلال محاولة تحقيق المحاسبة والتعويض عن الضحايا ، حيث تقدم العدالة الانتقالية اعترافاً بحقوق الضحايا ، وتشجّع الثقة المدنية ، وتفتح الطريق لتطبيق سيادة القانون …

          فعلى أثر انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ، يحق للضحايا أن يروا معاقبة المعتدين  والمرتكبين ، ومعرفة الحقيقة ، والحصول على تعويضات …

          ولأن الانتهاكات المنتظمة والمديدة لحقوق الإنسان لا تؤثر على الضحايا المباشرين ، وحسب ، وإنما تترك جروحاً غائرة في عمق المجتمع ككل ، فمن واجب الدول ، بالإضافة إلى الوفاء بالموجبات المتعلقة بالمحاسبة والعقاب والتعويض ، أن تضمن عدم تكرار الانتهاكات ، وبذل جهد خاص يقضي بإصلاح المؤسسات التي إما كان لها يد في الانتهاكات التي ارتكبت ، وإما كانت عاجزة عن تفاديها .

          وعلى الأرجح ، فإن تاريخاً حافلاً بالانتهاكات الجسيمة التي إن لم تُعالج سيؤدي إلى انقسامات اجتماعية حادة ، وسيّؤدي في الوقت ذاته إلى افتقاد الثقة بين المجموعات ، وفي مؤسسات الدولة بالتزامن ، فضلاً عن عرقلة الأمن والأهداف الإنمائية ، أو إبطاء تحقيقهما ، كما أن العجز عن المعالجة الحاسمة والعادلة والسريعة سيطرح تساؤلات بشأن الالتزام بسيادة القانون ، وقد يؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى حلقة مفرغة من العنف عبر أشكال وأساليب شتى قد تكون أكثر خطراً .

( 3 )

            ويجمع الباحثون عن عدالة انتقالية على أن العناصر المكونّة لسياسة العدالة الانتقالية يمكن إجمالها في ما يلي :

    الملاحقات القضائية : وبخاصة تلك التي تطال المرتكبين ، وتنصف المتضررين بتقدير تعويضات عادلة .

    جبر الضرر : بتعويض المتضررين عن الأضرار التي لحقت بهم عبر تعويضات مادية وصحية وتعويضات معنوية رمزية .

    إصلاح المؤسسات : سواء كانت مؤسسات السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية أو مؤسسات المجتمع أحزاباً وجمعيات ونقابات …

    لجان الحقيقة : للكشف عن انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم المرتكبة وأسماء المجرمين والضحايا وتوثيقها والتبليغ عنها …

    كما لا بد من اتباع وسائل أخرى للتحقيق في الانتهاكات والتبليغ عنها ، فتدابير العدالة الانتقالية ترتكز على قواعد قانونية وأخلاقية ، وتعتمد مروحة واسعة من الأساليب والإجراءات …

         ولبحث موضوع العدالة الانتقالية في الوطن العربي عامة ، وفي سورية على وجه الخصوص ، لا بد من الانتباه إلى خصوصية تتعلق بالقواعد الإقليمية والدولية التي تم اعتمادها في تقرير قيام ما عُرف بالدول في الوطن العربي ، سواء ما تم تحت ظلال الاستعمار المباشر الذي تم بوساطة مسميات الانتداب أو الحماية أو الوصاية ، أو ما تم في مرحلة الاستقلالات التي تلت ، وفي المرحلتين المتكاملتين موضوعياً ، حيث أكملت السلطات الاستبدادية ما بدأته الجيوش الاستعمارية ، لم يكتمل بناء الدولة بأركانها الثلاثة ، بالمعنى القانوني : حيث تم تغييب ركني الوطن ، والشعب ، وتم الاكتفاء بتضخيم ركن السلطة لتتغول أجهزتها القمعية على الوطن والشعب معاً ، عوضاً من أن تكون هيئات تمثيلية للوطن والشعب ، مما أدى إلى مفهوم عام مشوّه يكاد لا يفرق بين الدولة والسلطة  ، فقد أضحت السلطة هي الدولة ثم تم اختزال السلطة بشخص فرد واحد وحيد ، فبات هذا الشخص بغض النظر عن مواصفاته هو السلطة وبالتالي هو الدولة : الوطن بثرواته ملكاً له ، والشعب “شعبه” أو رعيته ، وهكذا تمحورت وظائف مؤسسات السلطة : التنفيذية والعسكرية والقضائية والتشريعية والاقتصادية والإعلامية والثقافية والاجتماعية وحتى المؤسسات الدينية لتتناغم في اتجاه واحد هو الإمساك بمقدرات الوطن والشعب وتسخيرها لإرادة الطاغية حيث تستباح كل الحرمات والمحرمات لتستلب إرادة الشعب وتنتهك حريته وكرامته فيغدو عاجزاً عن التطور وأسيراً لأجهزة مرعبة تسّخره وتسيّره في مسّيرات مليونية لتأليه الطغاة داخلياً بمصطلحات هي دون العبودية الأولى للبشرية ، ثم تسّخره خارجياً لخدمة مصالح قوى الهيمنة الدولية تنفيذاً لصفقة بين طغاة الداخل ولصوص الخارج الذين يتمتعون بمواصفات إلهية أيضاً ، فكل هذا العالم ممسوك بقبضة من حديد ، والويل لمن يتمرد ، فالأساطيل والطائرات العابرة للقارات جاهزة لتأديب كل من تسّول له نفسه العصيان  ، هكذا التهم الطاغية في الداخل السلطة التي التهمت بدورها ركني الدولة الأساسيين ، وهما الوطن والشعب ، ليصبح الوطن العربي ، والأمة العربية بقضها وقضيضها وملايينها البشرية ، وملياراتها المادية أضعف من بضع مستوطنات صهيونية تم تركيبها في ليل على جزء من الوطن في فلسطين .

( 4 )

            نحن الآن كشعب عربي بين المحيط والخليج ، وبخاصة كشعب عربي في سورية ، قررنا ، أو على الأصح قرر بالنيابة عنا جيل شاب لم يعد يطيق حالة الاستنقاع والنفاق والخوف والذل ، قرر التمرد والانتقال من أوضاع لا تليق بالبشر ، ولا تحتملها حتى الكثير من الكائنات غير البشرية ، وبالتالي من الطبيعي والضروري أن نعد العدة لمواجهة مرحلة انتقالية بالغة التعقيد نحتاج فيها إلى جرعة بالغة التركيز من الأنسنة الفردية والإنسانية الاجتماعية ، وإلى قدر كبير من التسامح ، والمصالحة مع الذات ، ومع الآخر ، لكن دون تفريط بالحقوق الأساسية التي يجب إحقاقها ، فالجراح غائرة ، والأضرار جسيمة ، والمتضررون من الربيع العربي كثر ويمسكون بمفاصل هذا العالم ، أو ما يسمونه : النظام الدولي ، وهم يعلمون بدقة أن هذا الربيع العربي ، إما أن ينتصر بين المحيط والخليج ، أو يُهزم بينهما ، والامتحان الأصعب لهذا الربيع العربي يتم اليوم على ساحة سورية ، هناك من يريد أن يضع الشعب في سورية بين خيارين : إما الاستنقاع لعقود أخرى تحت نير الاستبداد ، وإما الاحتراب الأهلي بين المواطنين ، وهناك في سورية ، وفي هذا العالم من يريد أن يضع الشعب العربي بين فكي هذه الكماشة حصراً ، ولا خيار آخر ، وبالتالي يتم دفن الربيع العربي في سورية ، لكن في سورية أيضاً رواد وأحرار وثوار ومناضلين يرفضون الخيارين معاً ويريدون النقيض حيث ينشدون الحرية والكرامة والعدالة والمساواة والديمقراطية ، وهم يعرفون أن الثمن سيكون باهظاً لكنهم يعرفون أيضاً أن الهدف أغلى ، ويستحق هذا الثمن ، وأكثر .

( 5 )

            لست هنا في مجال التقليل من المخاطر ، فأنا أعرف أن ما ينتظرنا في المرحلة الانتقالية بالغ الخطورة ، خاصة مع شلال الدم المتدفق ، فكل ما جاء في أدبيات ووثائق الدول والمجتمعات التي سبقتنا ، وكل الدروس التي قدمتها في مجال العدالة الانتقالية قد لا تغطي المخاطر التي يمر بها وطننا ، وتلك التي تنتظرنا ، فنحن حتى الآن لا نعرف المدى الذي ستصل إليه الأحداث قبل الدخول إلى المرحلة الانتقالية ، وما هي الاحتمالات للانتقال ؟ ، خاصة ، وأن استمرار الصراع العنيف قد أدى ، ويؤدي ، ليس إلى تدمير المجتمع ، وحسب ، وإنما إلى فتح المجال واسعاً للتدخلات الخارجية من كل نوع ،  وتحويل سورية إلى ملعب بين لاعبين قد لا نعرف أكثرهم ونجهل أجنداتهم ، لقد قلنا منذ اللحظة الأولى : أن الحل الأمني في حالة استمراره هو الذي سيؤدي إلى تفاقم التدخل الخارجي في الشأن الوطني ، وليس أي احد آخر ، وهذا بدوره سيؤدي إلى مخاطر لا حدود لها في المرحلة الانتقالية ، كما أن قيام أجهزة السلطة على مدى عقود بتدمير مؤسسات المجتمع من أحزاب ومنظمات وجمعيات ومؤسسات مدنية إضافة إلى تدجين أجهزة الدولة التنفيذية ، وتخريب المؤسسة القضائية بخاصة ، هذا كله سيؤدي إلى مواجهة مرحلة انتقالية بدون مؤسسات ذات فاعلية ، إن كان على صعيد المجتمع ، أو كان ذلك على صعيد مؤسسات الدولة ، وبخاصة المؤسسة القضائية التي يتوقف على استعادة الثقة فيها تجاوز آمن للكثير من العقابيل التي خلفتها ، وتخلفها المرحلة الراهنة ، ذلك أن شعور المواطنين بأن القضاء سيقيم العدالة ، وسيؤمن إحقاق الحقوق ، وجبر الضرر سيؤدي إلى حالة من الاطمئنان لدى المواطنين تؤدي بدورها إلى إقامة الدعامة الأولى للمواطنة التي تتمثل بأن إحقاق الحق مسؤولية المؤسسة القضائية حصراً ، وبالتالي إسقاط جميع المبررات لاستيفاء الحق بالذات الذي يعيد المجتمع إلى علاقات الاقتتال العصبوي والثأري المتوحش . وبما أن الأساس في مواجهة المرحلة الانتقالية يتمثل في الطريقة التي سيتم فيها الانتقال ، وبأية وسائل سيتم ، فنحن لسنا في مواجهة مؤجلة حتى نفاجأ بالمرحلة الانتقالية ومشكلاتها ، وإنما بمواجهة المرحلة الراهنة ما قبل الانتقالية ، وهذه المواجهة يجب أن تبدأ الآن ، بل كان يجب أن تبدأ تلك المواجهة منذ اللحظة الأولى التي انطلق فيها هذا الجيل الشاب ينشد الحرية ، فبقدر ما نتمكن من حصر المسؤولية بالمسؤولين عنها فعلاً دون تجاوز إلى الأبرياء ، بقدر ما نتمكن من جبر المظالم ، وتحقيق العدالة في مرحلة الانتقال إلى المرحلة الانتقالية ، وبقدر ما يكون الانتقال آمناً ، وبقدر ما تكون المرحلة الانتقالية أكثر أمناً .

               في هذا السياق وحتى ننتقل بهذا الحديث إلى الساحة العملياتيه فإنني ادعوا إلى توجيه كافة الجهود من الداخل ، وإلى الداخل لشد النسيج الاجتماعي ورفض جميع محاولات الفتن والثأر التي تنقل الصراع من صراع من أجل الحرية إلى صراعات عصبوية داخل المجتمع ، المطلوب الآن تحريم الاقتتال الداخلي ، وتجريم المجرمين ، وحسب ، بذلك  ، وبذلك فقط يمكن تجاوز المرحلة الانتقالية بأقل الخسائر الممكنة ، أما في غياب المواطنة المتساوية لن نكون أمام مرحلة انتقالية إلى مرحلة مختلفة ، وإنما سيغرق المجتمع في مستنقع آثن ينتمي إلى ما كان وإن كان ذلك بمجرمين مختلفين ،  وسنحتاج بالتالي إلى تضحيات جديدة للانتقال إلى مرحلة انتقالية أخرى .

         إن التسامح الذي ندعو إليه لا يعني التفريط بحقوق المتضررين ، أو التساهل مع المجرمين ، كما لا يعني عدم التدقيق في أسس المرحلة التي نستهدف الانتقال إليها ، وإنما يعني عدم التجاوز بإنتاج جرائم جديدة ، وحصر الجرائم والمجرمين بالمرتكبين لها لا أكثر ولا أقل ، بذلك ُتصان قيم المواطنة حيث بغيابها نكون أمام لا حرية ، لا سياسة ، أمام لا وطن ، ولا مواطنين ، ولا مؤسسات وطنية ، وبالتالي ينتفي الحديث عن مرحلة انتقالية بالمعنى التطوري الإنساني من مرحلة إلى مرحلة أرقى ، ففي هذه الحال نكون في مراوحة وتخبط في المكان ، وربما باتجاه نكوص ، راجياً أن تتوحد جهود المخلصين والمناضلين للانتقال الآمن إلى الحرية .

عشتم ، وعاشت سورية وطناً حراً سيداً لجميع مواطنيها .ً

حبيب عيسى

كلنا شركاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى