ســوريـــا بـخــيــر!
هيفاء بيطار
أشـبّه ما يحـدث في سوريا بمـسرحية ثـورة الموتـى لهـنري إبسن. أذهلـتني تلك المـسرحية حين قرأتها منذ سنوات، وهي من مسـرح اللامعـقول، حيث يرفض الجنود الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية أن يُدفنوا، وثاروا ضد هؤلاء الذين زجّوهم في حرب وشعارات وأهداف، ورفضوا أن يُدفنوا بل طالبوا أن يعودوا إلى أسرهم وأحبائهم…
مسرح اللامعقول عند هنري إبسن هو الواقع السوري، هو المعقول الذي يجعلنا نتأرجح بين العقل والجنون، المجازر المتلاحقة والقتل والتدمير هو الواقع السوري.
لو أن إبسن يعيش في سوريا الآن، لما احتاج أن يتخــيل «ثورة الموتى»، ولا اضـطر إلى اللــجوء إلى الخيال، ومـسرح اللامعـقول، كان بإمــكانه أن يشـهد كل الأطراف التي تـتاجر بالدم الســوري، لا أعرف بأي حق يتنطح أحد المـعارضين البارزين في الخارج، ويطل علينا باستمرار على شاشة الفضائيات مؤكداً للعالم أنه – ومعارضته التي ينتمي إليها – يسخو بالدم السوري… فمَن فوّضه ليسخو بالدم السوري حتى آخر نقطة؟
والمتحدثون باسم النظام يؤكدون لنا أنهم جاهزون لتقديم الشهداء مهما بلغ عددهم، حتى يتم القضاء على العصابات الإرهابية…
ومَن قال لهؤلاء إن الشـعب السـوري يريد أن يموت؟ من فوّضهم بالتحدث نيابة عن الشعب السـوري… ما الغاية أن يمـوت آلاف الـشبان في عمر الورود؟ هل من غاية للحياة أروع من الحياة ذاتها…
لو أن هؤلاء الذين يسخون بالدم السوري حتى آخر نقطة – يتوقفون لبرهة وينظرون بعين الرأفة والمحبة للواقع السوري وللمعاناة التي تفوق الخيال ومسرح اللامعقول للشعب السوري، لاستحوا من كلامهم ومنطقهم…
ويكفي أن أصف بحياد مجرد ما شهدته في عودتي من بيروت إلى اللاذقية بعد غياب لأكثر من شهر عن وطني.
عصر يوم السبت 26/1 عدت من بيروت إلى اللاذقية، وعند حـدود العريضـة صعـقتُ بمـشهد لم أتوقعه، أكثر من عشرين ميكروباص، ناءت بحمولة على ظهرها، حقائب عتيقة، وأكياس منتفـخة بأغراض، جاطـات من البلاسـتيك، ودراجة مهترئة لطفل نزح ويبدو أنه أصرّ أن يحمل دراجته معه، آلاف النازحين هائمين على الحدود… تأمّلتهم. ترى من أية مدينـة هـؤلاء؟ من أية قرية؟ ولِـمَ ينـزح كل هـؤلاء؟ وما الذي يدفع الآلاف ليـنزحوا بتلك الطريقة، أية حمم من نار تدفعهم ليهجوا من بيوتهم التي يفترض أن تكـون آمـنة؟ وكي يصل ألمي إلى ذروته فإن أحـد الركـاب الذي كان معي في السيارة، وهو سوري يعمل في لبنان، سخر من هؤلاء البائسين وقال إنهم سينامون في الشوارع ليلة أو ليلتين في بيروت ثم سيعودون إلى سوريا.
سألته كيف بإمكانه أن يفسر نزوح الآلاف في صقيع كانون الثاني حاملين صررهم ليناموا في شوارع بيروت ليلة أو ليلتين؟ أهي نزهة أم رحلة ترفيهية؟ ورد عليّ بسخرية لا تُخفى، بأن كل ما حصل في تونس وليبيا ومصر واليمن، ليس سوى مخطط للوصول إلى سوريا.
هؤلاء البلهاء يصعقونني، ليس لبؤس تفكيرهم فقط، بل لانعدام الحس الإنساني لديهم… كيف يمكن لإنسان سويّ، يملك قلباً وليس مضخة للدم، ألا يتأثر لمنظر آلاف النازحين؟ كيف يمكن لهذا المسافر السوري أن يسخر من آلاف النازحين وأن يعتبرهم خارجين في نزهة. والمؤلم أن الكثير من الناس يفكرون مثله.
عند حدود العريضة، تفجّرت جراح اعتقدتُ أنني شفيتُ منها، استعدتُ ما قاله لي صديق عزيز، وهو طبيب نزح من حلب إلى بيروت، ويعيش مع أسرته في بيروت منذ أشهر، ولم يوفق بعمل، قال لي، خلال ستة أشهر في بيروت صرفت مليوني ليرة سورية، لكني أعزي نفسي وأقول: أليس أفضل من أن أدفعها لخاطفين؟
وفي مقاهي شارع الحمرا، التقيت بعشرات السوريين، من مخرجين وممثلين وأطباء، يجلسون في المقاهي يتحدثون عن وطن يُدمّر بدم بارد… وكلهم مهزومون وتائهون، وكلهم، مهما اختلفت قراءتهم لما يحصل في سوريا، حزينون حتى الثمالة، وقد تحوّل وجودهم إلى كلام، وتحوّل الوطن إلى كلام، كما أبدع مصطفى حجازي في وصف أعلى درجة من الهدر الوجودي، وهي الكلام… السوريون الذين نزحوا تحولوا إلى كلام، يجترون الأحاديث عن ذكريات في وطن نازف، كي يشعروا أنهم لا زالوا هناك، في بيت قبل أن يتحول إلى أنقاض، ومع أقارب وجيران قبل أن يصيروا جثثاً أو نتفاً من لحم…
عبرتُ الحدود، وصور آلاف النازحين مرتسمة كالوشم في خيالي … ولم أفهم لماذا هناك أكثر من عشرة حواجز أمنية ولجان شعبية بين حدود العريضة واللاذقية! ألا يكفي حاجز أو حاجزان؟ لماذا عشرة حواجز؟ وعند مدخل اللاذقية توقفنا لأكثر من ساعة عند حاجز التفتيش، كانت هذه الساعة كافية لأستعيد فيلم إيليا سليمان الرائع «يد إلهية»، ولأتأمل عشرات المواطنين الذين آثروا النزول من الباصات والمشي كما لو أنهم في مسيرة أو مظاهرة ليعبروا الحواجز مشياً.
كنتُ أتأمل رتل السيارات الطويل، والضوء الأزرق للافتة جامعة تشرين وأنظر في ساعتي… لأقدر الوقت المتبقي لوصولي إلى حاجز التفتيش… ولأتمنى أمنية وحيدة متواضعة أن أصل بيتي قبل موعد انقطاع الكهرباء… كي أتمكن من استعمال المصعد ووضع حقائبي فيه…
الحمد لله، عبرتُ الحاجز بعد أن سألوني ماذا يوجد في حقائبي، ولا أعرف لِمَ ضحك المُجند من كل قلبه حين فتح إحدى حقائبي ووجدها ممتلئة بالكتب.
أظنّه محق، فهل من مكان لكتاب في ساحة الوغى، في وطن تحوّل لأنقاض ومواطنين يسخو الكل بدمائهم؟
وأول لافتة قرأتها بعد عبوري الحاجز: سوريا بخير.
السفير