صفحات العالم

سـوريا: ثورة للحياة والكرامة


الأبطال الحقيقيون، الثورة الحقيقية

ناعومي راميريث دياث

ترجمة: الحدرامي الأميني

“يكفي، يكفي. دعونا نعيش” هذه كلمات أبو ويليام، الرجل المسن المسيحي من حمص (سوريا)، الذي رفض مغادرة منزله وبقي فيه منذ أوائل أيار| مايو، جالساً كل يوم في شرفته، أو بالأحرى، بجانب المكان الذي كان فيما مضى يشغل واجهة منزله ومنه يطل الآن على الشارع بدون صعوبة. بالنسبة إليه، واضح من هو المسؤول عن الدمار الذي يعصف بالمدينة: النظام وجيشه، وإليهم يوجه رسالته.

هذا المثال على المقاومة والصمود يُظهِر أن ما يحدث بسوريا هو أكبر بكثير مما يُناقش في المنتديات الدولية. لا يعبأ هذا الرجل إلا قليلاً جداً برأي الولايات المتحدة أو روسيا، برأي فنزويلا أو إسرائيل، برأي إيران أو الاتحاد الأوروبي، برأي الصين أوتركيا،  برأي كوبا أو العربية السعودية، برأي المجلس الوطني السوري أو هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديموقراطي، برأي اليسار أو اليمين. لا يعتقد الرجل أن هؤلاء هم من يجب أن يقرر مصيره لأن السوريين ثاروا ليقرورا مصيرهم بأنفسهم، ولذلك يتحدث مباشرة إلى المسؤول عن تدهور الوضع، إلى المسؤول عن أن هذه الثورة لا تبني الحياة، وإنما تحصد الضحايا. يريد أبو ويليام أن يعيش، لقد سئم، سئم من وضع طال كثيراً، ليس عاماً ونصف، وإنما أكثر من أربعين عاماً من ديكتاتورية مافيا آل الأسـد العائلية وزمرتهم، التي قادت البلاد إلى البؤس والانحطاط.

شعور أبو ويليام ليس مجرد نتيجة لدمار منزله، ولا بسبب القتلى، وإنما هو شيء يشاركه فيه مئات آلاف السوريين الذين خرجوا، منذ آذار| مارس 2011، يطالبون بما هو حق لهم: الحياة الكريمة، لأنه من دون كرامة ليس هناك حياة. هتافاتهم ما كان يمكن أن تكون أكثر وضوحاً: “الشعب السوري ما بينذل”، “الموت ولا المذلة”، “الله (كرمز لما هو كلي القدرة وفوق الكائن الإنساني، فوق الطغاة)، سوريا، حرية وبس” وقائمة طويلة من الأناشيد والشعارات التي أغرقت الشوارع، الشوارع التي كانت متحدة تحت شعار “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”. ليس عبثاً أن اكتسبت الثورة منذ اليوم الأول اسمها الخاص وستبقى مسجلة به في حوليات التاريخ: “ثورة الكرامة”.

“سنعيش برؤوس مرفوعة أو نموت بصدور عارية” كما قالت واحدة من اللافتات التي أمكن رؤيتها على مدار هذا العام. نعم، الصدر عار، عارٍ لأنه هكذا يتظاهر عشرات آلاف الأشخاص على طول البلاد وعرضها، معلنين عن عدم حملهم للسلاح بصيحتهم “سلمية”. هناك أسلحة طبعاً، وتوجد بطبيعة الحال هيئة قليلة التجانس حتى اللحظة تطلق على نفسها اسم الجيش السوري الحر، وقد تسللت عناصر غريبة على الثورة بالطبع، لكن هذا هو ما هم عليه: “غرباء” و”متسللون” (أو “مندسون”، وهي المفردة التي أطلقها النظام على المتظاهرين في بداية الثورة)، وعن ذلك كله ليس المتظاهرون بمسؤولين، وإنما القمع والفوضى اللذين يحاول النظام نشرهما بمساعدة البلدان الحليفة مثل ورسيا وإيران. الثورة لم يصنعها الجيش السوري الحر، ولم يصنعها المقاتلون الليبيون ولا السعوديون، ولم يصنعها كذلك المجلس الوطني السوري ولاهيئات سياسية أخرى، الثورة صنعها، ومازال، أولئك الذين كانت لديهم، ومازالت لديهم، الشجاعة لتحطيم جدار الخوف، جدار بناه النظام خلال أربعين عاماً لضمان ولاء الشعب.

لكن، مم كان يخاف السوريون؟ ما هو الشيء الذي كان يقدمه النظام وكانوا يخافون فقدانه؟ ما هو ذلك الشيء الذي كان السوريون يتخلون بسببه عن حياتهم وكرامتهم، أو بالأحرى القول، كانوا مضطرين للتخلي عنهما بسببه؟ الجواب بسيط: الاستقرار. انقضت سنوات على النظام السوري وهو يؤكد على أنه الضامن للاستقرار الداخلي (بوجه حرب طائفية كامنة مفترَضة يمكن أن تشتعل لولا حمايته للأقليات، وعلى النقيض من أعوام الاضطراب السياسي السابقة على وصول البعث إلى السلطة عام 1963 ومن بعده حافظ الأسد في عام 1970)، والإقليمي (بالنظر إلى موقع سوريا المركزي وسياسة حافظ الأسـد البارعة في  السير وفق اتجاه الرياح).

باسم هذا الاستقرار الذي كان يتبجَّح به، وما زال، ناطقون رسميون ووزراء والرئيس نفسه (مدعين أن ما يحدث في البلد هو مؤامرة دولية تهدد الاستقرار)، أحاط النظام السوري نفسه بمنظومة كاملة من التجسس والسيطرة الاجتماعية مكرسة لجعل الخوف والولاء يشقان طريقيهما إلى نفوس السكان من أجل المحافظة على استقرار النظام نفسه وضمان استمراره والإعداد للجمهورية الوراثية الأولى (والأخيرة كما يبدو) في العالم العربي. مع هذه الشبكة، كان المواطن السوري يخاف من الكلمة، وحيث أن الخوف يولَّد الخوف، فقد أصبح الخوف من الكلام يقتضي الخوف من الانتقام: السوري العادي لم يكن قادراً على التعبير عن نفسه، لم يكن يسيطر على حياته، كما لو أنه كائن عاجز، كائن لا يُعتدُّ به يحتاج إلى الإذن حتى من أجل الزواج. الكل كان لا يثق بالكل، ولم يكن أحد يعلم من كان يتعاون مع أجهزة الأمن السرية.

لكن، على وجه التحديد، لأن السوريين كانوا متحدين في ولائهم، الذي كان، قبل كل شيء، ولاء للبلد وليس للنظام (باستثناء الحقيقة التي لا تُنكر بأن القاعدة الاجتماعية للنظام كانت واسعة مع مظهر الحداثة والاعتدال الذي لا أساس له حقيقةّ)، فإن سقوط جدار الخوف لم يستلزم انقساماً اجتماعيا أو حرباً أهلية. صحيح أنه توجد توترات مع أولئك الذين يؤيدون النظام، لكن كما تقول فدوى سليمان في مقابلة أجريتها معها :”كونوا في الجانب الذي ترغبون فيه، لكن كونوا ضد القتلة والقتل”.

رغم هذه الانقسامات، التي يجب عدم التغاضي عنها، فإن الحراك في سوريا حراك وطني، ليس إسلاموياً، ولا آتياً من “المساجد”، ليس ريفياً، وليس ثورة خبز، ولا يسعى لتدمير البلد، حتى لو وُجد مثقفون يتحدثون، للأسف الشديد، عن ثورات نموذجية كما لو أنه يوجد نموذج واحد فقط للثورات. هذا الحفاظ على وحدة الحراك يرجع، كما يؤكد المثقف المعارض ميشيل كيلو، إلى أن الثورة تشكل تراثاً جديداً فيه تساند المدن بعضها البعض، وتُفتح البيوت للاجئين من نقاط مختلفة، ويقدم أفراد مجهولون حياتهم من أجل الحرية وكرامة الآخرين. إنه هذا الشعور الجديد فائق النبل الذي قضى النظام شهوراً وهو يحاول تحطيمه، ومذابح الحولة والقبير (قرى سُنية هوجمت من قِبل مجرمين قدموا من قرى علوية مجاورة، موالية للنظام، لكن هوياتهم ماتزال مجهولة) كانت في الاتجاه نفسه: إثارة حرب طائفية لن ينجح في تحقيق اندلاعها، لأنه كما يؤكد ويكتب السوريون أنفسهم في لافتاتهم “اعلموا أن الثورة ضد النظام وليست ضد طائفة أو جماعة دينية محددة”. إنها “ثورة لجميع السوريين” (هكذا سُميت جمعة الثالث عشر من نيسان| أبريل)، الذين لا يواجهون نظامهم فقط، بل معارضته أيضاً، ولعبة المصالح الدولية، والصراعات الإقليمية والجميع، لأنهم تجرأوا على فعل ما لم يكن أحد يتوقع منهم أن يفعلوه.

من كان يمكنه أن يفكر في ترك دراسته في الخارج ومستقبل مشرق من أجل العودة إلى وطنه وتوثيق المذابح والوضع بشكل عام؟ باسل شحادة فعل ذلك. من كان ليواجه الرصاص بالورود؟ غياث مطر فعل ذلك. من كان ليجرؤ على ملء شوارع دمشق بالكتابات والرسوم ضد نظام يرى في المدينة معقل دعمه الأخير؟ نور حاتم زهرا فعل ذلك. من كان ليجرؤ على محاولة تحطيم الحصار على مدينة مثل درعا، الأولى في معاناة هذا النوع من الممارسات، حاملاً الطعام والشراب إلى مواطنيه؟ حمزة الخطيب، ذو الثلاثة عشر عاماً، فعل ذلك. من كان ليجرؤ، لأنه علوي ويعلم أن النظام يحتمي بهذه الطائفة ولا يحميها كما يؤكد، على تحدي النظام والسفر من دمشق إلى حمص ليخرج يداً بيد مع سُني لقيادة المظاهرات؟ فدوى سليمان فعلت ذلك. من كان ليجرؤ على تقديم عمل مسرحي في مركز اعتقال محاكياً النظام بسخرية ومتحدثاً عن الوحدة الوطنية التي يجب الحفاظ عليها للشعب الواحد؟ التوأمان ملص فعلا ذلك. من كان سيستمر في نشر المقالات موقعة باسمه بدون اللجوء إلى أسماء مستعارة رغم أنه مازال داخل سوريا وكان قد اعتُقل في مناسبات متعددة؟ رزان غزاوي فعلت ذلك. من كان ليخسر حريته بالتواري عن الأنظار من أجل الاستمرار في رواية ما يحدث من داخل البلد؟ رزان زيتونة وياسين الحاج صالح فعلا ذلك؟ من كان ليجرؤ على الخروج مقابل البرلمان في دمشق حاملاً لافتة تقول “نريد بناء سوريا من أجل جميع السوريين” عندما كان النظام يحاول التفريق بينهم؟ ريما دالي فعلت ذلك. من كان سيبدع أغنية يؤكد فيها أن شرعية النظام قد سقطت ويصفه فيها بالعميل الأمريكي مؤكداً أن الشعب السوري لن يُذَل؟ إبراهيم قاشوش فعل ذلك. من كان ليجرؤ على العناية بالمصابين في المستشفيات الميدانية؟ إبراهيم عثمان وعدنان وهبة فعلا ذلك. من كان ليجرؤ على الكلام عن والعمل في سبيل وحدة الأكراد والعرب في سوريا للجميع؟ مشعل تمو فعل ذلك. من كان ليجرؤ على الكلام عن وحدة المسلمين والمسيحيين ويظهر في الصور يداً بيد مع علماء مسلمين؟ الأب باولو، ذو الأصول الإيطالية، والجنسية السورية، فعل ذلك. من كان ليجرؤ على الخروج في وسط دمشق التاريخي، بالكاد عندما بدأت المظاهرات في درعا، للهتاف “حرية”؟ مروة الغميان فعلت ذلك. من كان سيملك الشجاعة لتوقيع بيان حول الأطفال المعتقلين في بداية الثورة والذين كانوا القطرة التي أفاضت الكأس ما أدى لاندلاعها النهائي؟ ريما فليحان وآخرون كثيرون فعلوا ذلك.

من هؤلاء جميعاً، البعض قد مات، وآخرون مازالوا متخفين، وآخرون مستمرون في نشاطاتهم، والبقية خرجوا من البلد. إنهم يشكلون مثلاً فقط على أبطال هذه الثورة، الذين هم السوريون العاديون، المنظمون في لجانهم المحلية بشكل فردي أو في مجموعات صغيرة، أشخاص لا يعتقدون أن الثورة المسلحة يمكن أن تكون بديلاً مهما كانت شدة القمع، لأن هذه “أثبتت فشلها في مناسبات تاريخية مختلفة” (كما يقول سلامة كيلة في مقابلة شخصية مع الكاتبة)، أشخاص يريدون أن يتحول الجيش السوري الحر إلى نواة الجيش الوطني ولا يريدون بأي شكل من الأشكال تدخلاً خارجياً. هؤلاء الأشخاص وغيرهم لا يحسبون حساب انتمائهم الطائفي، الأمر الذي يصعب تحديده بنظرة بسيطة، لأنهم يعملون من أجل سوريا “وطائفتهم هي الحرية”، كما أمكن أن يُقرأ أيضاً في العديد من اللافتات و سُمِع حتى في الهتافات في الشوارع.

ليس هناك ثائر في سـوريا لا يعرفهم، ورغم ذلك، تبقى أسماؤهم مجهولة بالنسبة لكثيرين ممن يدلون بآرائهم عن الثورة من الخارج، وأولئك الذين يدلون برأيهم حول شرعية أو عدم شرعية الثورة ذاتها، وأولئك الذين يتحدثون عن حرب أهلية في سوريا (عندما يكون الواقع على الأرض هو أن شعباً يواجه نظاماً ويحتمي، بنجاح قليل أو كثير، بمجموعة مسلحة تفتقر إلى الوسائل للدخول في معركة حقيقية)، وأولئك الذي يدلون برأيهم حول من يؤيدها ومن لا يؤيدها (كما لو أن هذين الطرفين يوجدان حقاً، إذ من المؤكد أن الثورة السورية ثورة يتيمة، وهي لا تتلقى الدعم إلا من بعض الشعوب أو من بعض القطاعات في هذه الشعوب، ولا توجد حكومة واحدة معنية بانتصارها).

فلننس للحظة واحدة الاعتبارات الجيواستراتيجية وتركيبة الهيئات السياسية المعارضة للنظام، ولنركز على المعارضة الحقيقية التي هي ليست طرفاً في أي حرب أهلية، هؤلاء الذين يخرجون يومياً للمخاطرة بحياتهم في سبيل الوصول إلى سوريا ديموقراطية، حرة وتعددية، ويهتفون: “المجلس الوطني السوري لا يمثلني” لأنهم سوف لن يخضعوا للمزيد من الإذلال، لا من الذين يسعون لامتطاء عربة الثورة ولا من نظام حوَّل البلد إلى ملكية خاصة به. هكذا، في ردهم على تهديده “أنا أو الفوضى” يقولون “أنت أو شيء أفضل”، والأمر يستحق عناء المحاولة لأنه ليس هناك بديل عن هذه الثورة، ليس هناك عودة للوراء. ستسقط أرواح كثيرة كما تسقط الآن، وهم يعلمون ذلك، لكنهم لن يتخلوا عن أي واحد من مطالباتهم لأنهم ثاروا من أجل تغيير الوضع الراهن statu quo برمته.

في مقابلة أتيحت لي الفرصة لإجرائها مع سلامة كيلة، قال المفكر الفلسطيني الماركسي (المسيحي، رغم أنه لا يستخدم هذا الوصف للتعريف عن نفسه) الذي عاش في سوريا أكثر من ثلاثين عاماً والذي عانى في بدنه وحشية النظام وشهد المفارقة في أن من عذبه وأذله يعيش في ظروف الفقر والإذلال نفسها التي يعيش فيها مواطنوه الذين يناضلون من أجل استرداد كرامتهم،: “ما يحدث ليس مجرد تمرد -لأن هذا يحدث داخل مؤسسة معينة-، إنها ثورة لأن ما تسعى إليه هو تغيير النظام … . وستحقق ذلك: المرحة الأولى ستؤدي إلى تغيير أولي يفسح المجال أمام النضال السياسي، المرحلة الثانية ستنطوي على تغيير أكثر عمقاً”.

فلننصت إلى أصوات ثوار الداخل، ولنستمع إلى مطالباتهم وشهاداتهم، فلنقرأ مقالاتهم، ولننس السياسة الدولية للحظة، ولنعط الدور الرئيسي لمن يستحقه من أبطال الثورة الحقيقيين، الذين رحلوا والذين مازالوا موجودين حتى الآن.

http://www.rebelion.org/noticia.php?id=151119&titular=los-verdaderos-protagonistas-la-verdadera-revoluci%F3n-

موقع: ريبليون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى