سقوط أنظمة… وتعقيدات “اليوم التالي”!
عبد الوهاب بدرخان
الخوف مستشرٍ من الانتفاضات الشعبية وعليها، نسمع باستمرار اتهامات وشكاوى من “سرقة الثورات” أو مصادرتها أو صرفها عن أهدافها والالتفاف عليها، فضلاً عن “خيانة دم الشهداء”. كان الجميع أبدى الإعجاب الأكبر بظاهرة “الثورات بلا زعامات”، واعتبرها ظاهرة غير اعتيادية في تاريخ الحركات الشعبية، إلى حد استشكال تصنيفها وفقاً للأنماط المعروفة، ولأنها تجاوزت الأحزاب والمعارضات التقليدية، في سياق تجاوزها للأنظمة المطلوب إسقاطها، فقد بدت واعدة باستحداث أنماط غير مسبوقة للعمل السياسي.
غير أن “اليوم التالي” لسقوط أي نظام شكّل ويشكل تحدياً لـ”شباب الثورة”، إذ تطلب الانتقال إلى بناء النظام الجديد، ما هو أبعد أثراً من التيار الذي نشأ عبر تواصل عشرات أو مئات الألوف على شبكتي “تويتر” و”فيسبوك”. كان الرصيد الكبير من النظافة والطهارة والعفوية قد مكّن الشباب من صنع الحالات التي أفضت إلى الثورات، لكنهم افتقدوا إلى جهوزية التعامل مع الوضع الانتقالي، ولا يُلامون على ذلك، فلا العسكر الذين تولوا ضبط الانفلاتات ولا محترفو السياسة كانوا جاهزين أيضاً. ظل الشباب قادرين على التأثير في المسار أو تصحيحه أو إعادته إلى “أجندة” الثورة” كلما ابتعد عنها، إلا أنهم اضطروا هنا وهناك للرضوخ لحقائق المجتمع ومكوّناته.
وعلى رغم أن الأنظمة المتهاوية استبعدت دوماً إمكان سقوطها، إلا أن إدارتها للبلاد على مدى عقود طويلة جعلتها أيضاً تتحكم بأي وضع ينشأ على أنقاضها، إذ كانت لها أدوار خطيرة سواء لتغيير حقائق المجتمع أو للعبث بها أو حتى لتقوية نزعات كانت تقصّدت إنهاءها وإبادتها.
ينسى العرب أن نهاية النظام العراقي السابق كان يفترض أن تعطي صورة شاملة لما يمكن توقعه من السقوط وما بعده. قد يُقال إن هذا النظام أسقط بغزو أميركي، لكن العلاقة بينه وبين شعبه، كما بين النظام الليبي وشعبه، كانت انتهت إلى اعتباره بمثابة “احتلال داخلي” يجب التخلص منه.
ومن هنا فإن المنطق الذي يرتسم غداة كل سقوط، هو ذاك الذي ساهم النظام السابق في صنعه من خلال محاربته ومن دون أن يقدم النموذج البديل الأمثل، فالنظام العراقي الذي اعتبر أنه دفن التمايزات والنزاعات الطائفية والمذهبية، بفضل الفكر البعثي العلماني، ساهم بالقمع والقهر والقتل في إذكاء كل الأمراض الاجتماعية التي ما لبثت أن انبعثت فور انهياره. وكذلك الأمر بالنسبة إلى القبلية والجهوية التي برزت أخيراً في ليبيا، والتي ستكون محوراً للصراعات المقبلة في اليمن، وستتفاقم على نحو أخطر في سوريا حيث تجمع التركيبة الاجتماعية رزمة من إشكالات النماذج المذكورة كلها.
أما في مصر وتونس، حيث يتميز المجتمع بنسبة كبيرة من التجانس، فقد ارتسم المنطق البسيط الذي يقضي بأن زوال الضد يفسح المجال لصعود الضد الآخر، أي أن إطاحة الجلاد وسلطته لابد أن تعطي السلطة للضحية المعترف لها بأنها أكثر من تعرض لاضطهاده. وعلى رغم أن النظام السابق استند إلى حزب واحد واختصّ الإسلاميين بسطوته وسوطه إلا أنه مارس صنوفاً متدرجة لترهيب الفئات والأحزاب الأخرى. ولعل نظرة عاجلة إلى نتيجة الانتخابات التونسية، الأولى بعد نظام بن علي، تظهر أنها تعكس التصنيف الشعبي لترتيب الضحايا، بمعزل عن أطروحاتهم السياسية، فالتصنيف السياسي سيأتي لاحقاً، بعد أن يكون النقاش حول الدستور الجديد قد كشف الوجوه والأفكار والنيات وما ظهر منها وما أغفل عمداً.
كانت أحوال المجتمعات في ظل الأنظمة السابقة دفعت الناس إلى الكفر بأي “مبادئ” أو “مرجعيات فكرية” انتسبت إليها تلك الأنظمة، أو بالأحرى نُسبت إليها كذباً واعتباطاً. كانت لنظام بن علي مثلاً أجهزة مختصة بتظهير إنجازاته في مجال حقوق الإنسان. لذلك رفع الإسلاميون حيثما استطاعوا شعار “الإسلام هو الحل”، فهو بسيط وعام لكنه لا يقل تعقيداً عن شعار “وحدة حرية اشتراكية” الذي لم يطبق منه سوى الاشتراكية التي غدت صنواً للإفقار المنهجي للشعب. وليس مؤكداً أن الشعوب ثارت للمطالبة بأنظمة إسلامية، وإنما بما افتقدته مع الأنظمة السابقة وهو النهج الحداثي الذي يحترم الحرية والعدل والكرامة ويطبق القانون على الجميع. وهذه مسؤولية خطيرة لم تختبر الأحزاب الإسلامية في تحمّلها، وليس في تجاربها الداخلية أو في تطبيقاتها المعروفة، ما ينبئ بأنها تملك خيارات لمختلف التحديات. ولذلك فإن النفاذ من صناديق الاقتراع قد يكون ممكناً -بحكم الظروف- أما النفاذ من الوعي الكبير الذي أبدته المجتمعات فقد يكون صعباً بل إن مجرد التذاكي فيه قد يؤدي إلى خيبات أمل كبيرة.
الاتحاد