صفحات الرأي

سقوط غرناطة: احتفال بالنصر أم بمحاكم التفتيش؟/ أحمد عبد اللطيف

 

 

لم تكن مجرد “تغريدة” بريئة كتبتها المسؤولة في “الحزب الشعبي” اليميني الإسباني والرئيسة السابقة لمقاطعة مدريد، إذ إن تاريخها (2 يناير) ومناسبتها (ذكرى سقوط غرناطة) ومضمونها “اليوم منذ 525 سنة استرد الملكان الكاثوليكيان غرناطة. إنه ليوم مجيد للإسبانيات، فمع الإسلام ما كان ممكنًا أن ننال حريتنا”، خطاب في ظاهره إسلاموفوبيا، وباطنه إجابة لسؤال مسكوت عنه يتعلق في حقيقته بالقضية الموريسكية. سؤال ظل يدور في الخفاء كثيرًا، وظلت الإجابة عنه تجاهلًا يراهن على الزمن كعامل وحيد على منح النسيان وتجاوز التروما. هو خطاب موجه أيضًا إلى المهاجر، ولسنا في حاجة لإضافة “عربي”، إذ إن كلمة “مهاجر” اكتسبت دلالة جديدة لتشير إلى المهاجر العربي وحده، ولن تجد لها استخدامًا مع المهاجر الصيني مثلًا. خطاب يمثل خطورة على التعايش وقيم المواطنة حين يأتي من مسؤولة في الحزب الحاكم، لأنه يعكس، بوضوح غير قابل للشك، السياسة الخفية للحزب اليميني تجاه جالية تمثل عصبًا في المجتمع الإسباني، وتجاه دين هو الثاني في البلد الأوروبي، والأخطر من ذلك خطاب يعتدي في حقيقته على تاريخ إسبانيا نفسه، تاريخ قام على أكتاف العرب، وشاهد أمجاده في ظل الحضارة الإسلامية، وكانت الأندلس، حضارة الثمانية قرون، نقطة الالتقاء بين حضارتي شمال البحر المتوسط وجنوبه.

لن تحتاج إسبيرانثا أجيري، المسؤولة في الحزب الحاكم، إلى كثير من الوقت لتعرف تاريخ بلدها. فالمسؤولة الإسبانية التي تعيش في مدريد لا بد أنها تعرف أن الاسم الحقيقي لمدينتها هو “مجريد” وأنها العاصمة الأوروبية التي بناها المسلمون. لا يفصل بيتها عن مدينة طليطلة إلا نصف ساعة بالقطار يمكن بعدها أن تشاهد الآثار التي خلّفها المسلمون في المدينة القديمة، ويمكنها أن تزور بوابة “قوس الدم” لتتذكر دماء المسلمين التي سالت فوقه في عصور محاكم التفتيش التي تراها “مجيدة”، وعلى بعد خطوات، وقد يساعدها أي دليل سياحي ليشرح لها، ستجد ساحة “سوق البعير” التي صارت “ثوكودوبير”، ولو اتجهت يسارًا ستمر ببوابة “بيساجرا” تحريف اسم “باب الشجرة”. لن تحتاج إلى وقت كثير لترد الأشياء إلى أصولها، سيساعدها ذلك بالطبع على معرفة أن هويتها مختلطة، وأن تاريخ بلدها مختلط، وأن هذا المزيج هو ما منح لإسبانيا جمالها الخاص، وجاذبية الاختلاف.

لا بد أن المسؤولة الإسبانية تعرف أن أهم أثر في بلدها هو قصر الحمراء، وأن أجمل مدينة إسبانية هي غرناطة، ولا بد أنها تعرف، بما أنها تصف دينًا بأنه ضد الحرية وتدعو للاحتفال بيوم المجد، أن تبعات هذا اليوم كانت محاكم تفتيش امتدت لأكثر من مائتي عام، واستلاب بيوت وأراضٍ وحقوق مواطنين لم يرتكبوا ذنبًا غير تمسكهم بدينهم، حتى عندما تنصّروا لم ينجوا من العقاب والتعذيب والخصي والطرد والغرق في مياه المتوسط أو التشريد في أرض لا يعرفونها. وهنا لا أتكلم عن الرواية العربية، بل الرواية الإسبانية نفسها، من أراشيف محاكم التفتيش بالعديد من المدن، والتي تحتفظ بالمحاكمات، أسبابها والأحكام الصادرة بحق المسلمين، وهي رواية باتت حقيقية بعد أن وردت كذلك في كتب مثل “المسلمون والموريسكيون والأتراك عند ثيربانتس” و”بحث حول الموريسكيين في إسبانيا” و”تاريخ تمرد وعقاب الموريسكيين”، وعشرات الكتب غيرها.

قضية قديمة تتجدد

في عام 2009 نشر الكاتب الإسباني الشهير خوان غويتيسولو مقالًا في جريدة “الباييس” تحت عنوان “الفضيحة الإسبانية”. المقال جاء بمناسبة مرور 400 عام على طرد المسلمين عام 1609، وهو الطرد الذي وصفه بـ “التهجير”، وهو نفس اللفظ المستخدم مع الفلسطينيين المهجّرين من أرضهم، وهو نفس المعنى الذي التقطته الروائية المصرية رضوى عاشور لتعقد مقارنة بين الحالتين في روايتها “ثلاثية غرناطة”. غويتيسولو تعجّب من صمت المؤسسات الإسبانية الرسمية والأكاديمية على هذا الحدث، ومرور اليوم كأن شيئًا لم يكن، رغم أنه “من الأحداث المخجلة في تاريخ إسبانيا”. ورغم أن هناك الكثير من المؤرخين أمثال أمريكو كاسترو ولويس دي مارامول وكاراباخال وفرنثيسكو جارثيا بييانويبا ومرثيدس جارثيا ارينال، وكلها أصوات عادلة اعتمدت في أبحاثها على منهجية أكاديمية، قد أعادت للعرب والمسلمين الاعتبار في كتب لا يمكن لأحد أن يشكك فيها، إلا أن تجاهل هذا التاريخ من المؤسسة الرسمية بات عرفًا لا يخالفه أحد. لم تعتذر الحكومات الإسبانية في أي وقت عن الطرد، وبينما أعطت لليهود حق العودة منذ التسعينيات، لم تمنح نفس الحق للموريسكيين، رغم أن المذابح التي شهدها المسلمون أشد عنفًا من أي مذابح أخرى، ورغم أن اليد التي شيدت لم تجد في النهاية غير بترها.

مقال غويتيسولو جاء تفاعلًا أيضًا مع مطالب للموريسكيين المغاربة بنيل حقهم المهدور، ليظل سؤال العودة مطروحًا في الساحة الرسمية والأكاديمية، دون أن يجد جوابًا شافيًا، حتى بات السؤال المسكوت عنه، سكوتًا لا يعني إلا الرفض، لا لسبب غير لأنهم مسلمون.

في مقال غويتيسولو يلتقط من ثيربانتس عدة عبارات تمثل المأساة الموريسكية، ولا شيء غير حسن الطالع هو من أفلتها من يد الرقيب. يقول ثيربانتس في الجزء الثاني من “دون كيخوتيه” على لسان موريسكي: “عبرت لإيطاليا ووصلت لألمانيا، وهناك بدا لي أني أستطيع أن أعيش بحرية أكبر، إذ إن أهلها لا ينظرون إلينا باستعلاء كبير، كل منا يعيش كما يشاء، ففي أغلب أرضها يعيشون بحرية ضمير”. حرية الضمير، أي حرية العقيدة، هو ما لم تعتذر عن انتهاكها الحكومات الإسبانية المتتالية، بما فيها حكومة راخوي التي تمثلها إسبيرانثا أجيري، وتدعو اليوم بـ “تغريدة” إلى الفخر بالخزي القديم.

تعبير عن جهل

في مقال له تعليقًا على ما كتبته المسؤولة الإسبانية إسبيرانثا أجيري، كتب فرناندو أجيلار ريجاود أن الاحتفال بالاستقلال يحدث كل عام، “لكن الأزمة أن يستخدمه اليمين من أجل النفخ القومي ونشر الإسلاموفوبيا”، الأزمة أيضًا “ظهور أعلام الفلانج الفرانكي وأعلام ما قبل الدستورية والسلام الروماني”، وهي كلها علامات ردة في الديمقراطية الإسبانية، ردة سببها الرئيسي الحزب اليميني.

وفي تحليله للتغريدة، رأى أجيلار أنها تحتوي على عنصرين خطيرين، الأول “خطاب الأربعينيات والخمسينيات” ما يذكر بفترة فرانكو، “والخطاب العنصري”. استغراب الكاتب الإسباني جاء من مقارنة المسؤولة الإسبانية لحقبة تاريخية مر عليها أكثر من خمسمائة عام بالألفية الجديدة، مذكّرًا أن المرأة الإسبانية لم تعرف الحرية بعد الخروج العربي، بل إنها لم تعرفها خلال سنوات ديكتاتورية فرانكو القريبة.

وفي مقال آخر بعنوان “إسلاموفوبيا وجهل رجعي خطير جدًا”، علّق خوسيه كارلوس جارثيا بأنه “بالإضافة لعنصرية الطرح، فإن المسألة تتعلق في أحيان كثيرة بالجهل الذي يؤدي إلى قتل الأخوة بدموية”، مقترحًا أن “تعيد إسبانيا اكتشاف جزئها الإسلامي المتمثل في اللغة والمعمار والطعام والزراعة والفنون اليدوية والموسيقى، بل وفي المكونات الإسبانية”. والحقيقة أن مسألة “إعادة الاكتشاف” مطروحة ومثبتة منذ قرون خلت، ولا يجب على اليمين الإسباني إلا أن يقرأ ما قدمه المؤرخون والباحثون في التاريخ الأندلسي ليدرك أن القضية، إن افترضنا حسن النية، تنحصر في الجهل. وإن افترضنا سوءها فهي خطاب عدواني لا يمس المسلمين وحدهم، بقدر ما يمس الثقافة الإسبانية نفسها، إذ هي الخاسر الأكبر إن أنكرت الثقافة الإسلامية كمكوّن ثقافي رئيسي وإحدى علامات الهوية.

جارثيا يلتفت أيضًا إلى نقطة أخرى في مقاله، نقطة غائبة دومًا في الخطاب اليميني، وهي “أننا نعرّف المسلمين دائمًا بالأصوليين الأفغان، بالإيرانيين، بالسعوديين، بالجهاديين المجانين الذين لا علاقة لهم بالإسلام الحقيقي. ونحن في هذه الحالة كمن يعرّف المسيحيين بالحروب الصليبية ومحاكم التفتيش…”. من أجل هذا الخلط في المفاهيم اجتهدت الأكاديمية لوث جوميث في إصدار كتاب/قاموس تعريفي بالفرق الإسلامية يهدف إلى توضيح الفروقات بين المسلمين في عمومهم والجماعات الدينية والجماعات ذات الأهداف السياسية والجهاديين. لكن الحقيقة أن جهد المستعربين في بناء جسور والبحث عن الحقيقة دون أي ميول سياسية يروح سدى مع الساسة الذين يفقدون توازنهم بخطابات عنصرية.

يختم كارلوس جارثيا مقاله بأننا “يجب أن ننسى كلمة “تسامح”، موضحًا بأنه ليس من حق أحد أن يتسامح مع أحد، لأن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، وأن ما علينا أن نفعله أن نتعايش معًا باختلافاتنا، دون أن يتصور أحد أنه الأعلى ويمنح “التسامح”.

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى