سقوط معادلة «الأنظمة والشعوب»
حسام عيتاني
بين الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي انتشرت مقولة إن الأنظمة العربية «أفضل» من الشعوب.
كان مرددو القول هذا يشرحون أن الأنظمة بتحدّرها من أجهزة عسكرية وأمنية، تماسّت مع «الحداثة» ومع أشكال التنظيم الحديثة ومع آلات معقدة (هي الأسلحة) وباتت أكثر تقدماً من الشعوب العربية القابعة في انقسامات لا حصر لها ولا عد.
نقاد هذه الفكرة انقسموا جماعات ثلاثاً. تعتبر الأولى أن الأنظمة ليس سوى إسقاط أو انعكاس لمستوى تطور الشعوب العربية و «كما تكونون يولى عليكم». عليه، لا الأنظمة أفضل ولا الشعوب أسوأ بل يقف الجميع على سوية واحدة من الرقي والتطور الاجتماعيين والسياسيين.
أما الجماعة الثانية، فرأت أن الأنظمة جاء أكثرها نتيجة التقدم المشوه والمبتذل الذي فرضته عقود الاستعمار الغربي وقرون الاحتلال العثماني، وتبعاً للرأي هذا، فإن «النخب» هي التي أصيبت بأكبر قدر من العلل المستوردة فيما بقيت الأصالة المعبرة عن المعدن الحقيقي النقي للشعوب العربية في مأمن… وبعيدة من السلطة.
القول الثالث هو أن المسألة طرحت طرحاً خاطئاً. فالأنظمة ليست في واقع الأمر غير أدوات استمرار الهيمنة الأجنبية على العالم العربي، بأدوات محلية وليس لها أي قيمة في معزل عن دورها المناط بها من الغرب الإمبريالي الذي يمعن في سلب الثروات العربية والتحكم بمصادرها وبمـــستقبل أجيالها. والأنظمة ليست أكثر من بيوت من أوراق اللعب في حال سُحب الدعم الغربي منها.
يتعين القول هنا أن الجدال في شأن ميزات وفضائل كل من الأنظمة والشعوب والاختلافات في ما بينها، لا ينطلق من خلفية تخص متعة الجدال، أو فنه وعلمه، بل تتأسس على أرضية التنازع على السلطة والبحث عن الذرائع والمبررات التي تفترض كل جماعة أنها تحلل لها السيطرة على مقدرات بلادها. بذلك، لا يتعلق السؤال بثنائية إضافية من تلك الثنائيات الأزلية في الثقافة العربي كالأصالة والحداثة أو العقل والنقل… بل بأمر ملموس ومحدد: السلطة ومن يتولاها ولماذا.
ومفهـــوم أن تبريراً كهذا ينطــــوي على درجة عالية من النزعة الإقصائية وإنكار حقوق الجماعات المختلفة، العرقية والدينية والسياسية، في المشاركة في الحكم.
بل يمكن القول إن السجال كله يدور على فكرة «الملك العضود» وهيمنة العصبيات الأقوى على الأضعف، وفق فكر سياسي يعود إلى فترات موغلة في القدم في التاريخ العربي. وينفي «الفكر» هذا مقولات المشاركة والتداول السلمي للسلطة وبناء الإجماعات الوطنية حسب ضرورات البلاد، بل لا يعترف بالبلاد إلا بكونها مراعي إبل ومواشي الجماعة الأقوى. ولا يرى في الناس القائمين عليها سوى ملحقين بالمواشي وتابعين لها. والنظرة هذه تنبع من احتقار أصيل للعمل الزراعي وتقديم الرعي عليه.
بالعودة إلى شؤون أقرب زمنيا إلينا، يجوز الاعتقاد بأن تفضيل الأنظمة على الشعوب استند، بين ما استند إليه من ذرائع، على حالة من الموات السياسي الطويل الذي بدأ أواخر الستينات وقد لا تكون الثورات العربية الحالية سوى مقدمات نهايته وعودة الروح إلى الحياة السياسية والعامة في البلاد العربية. أسباب الموات المذكور تتنوع من سيطرة الجيوش على السلطة في المشرق العربي (في سورية أولاً وفي مصر لاحقاً مع ثورة يوليو 1952)، وفرض أولويات أقل ما يقال فيها إنها غير متوافقة مع مصالح الشعوب العربية، في وقت كانت دول الخليج تكتشف أهمية الثروة النفطية والأدوار الضخمة التي تتيحها لها.
اكتسب السؤال عن أيهما أفضل الأنظمة أم الشعوب، بعداً وطنياً بعد دخول الخطاب الأيديولوجي القومي واليساري إلى الساحة. فلم يعد المطلوب من الحاكم البحث عن شجرة نسب تربطه بآل البيت فقط، على ما سعى الملكان فؤاد وفاروق إلى إثباته، بل بات مطلوباً منها تأكيد الالتزام بالقضايا القومية والمصيرية وإعلان السير على خطى الشهداء والعداء للاستعمار والإمبريالية والسعي إلى بناء الاشتراكية… وغني عن البيان أن التأمل في معاني وتعريفات هذه الكلمات ومدى تطابقها على ظروف العالم العربي لم تنل اهتماماً يذكر سوى بعد هزيمة عام 1967.
مهما يكن من أمر، تسمح التغيرات الحالية العاصفة في البلدان العربية بالخروج من الإجابات الأحادية والمسطحة والبحث في معانٍ جديدة لعبارات من نوع «النظام» و «الشعب» و «السلطة». وتلقي الثورات أضواء جديدة على الأسئلة المطروحة.
كان السؤال عن أيهما أفضل الشعوب أم الأنظمة، يبدو آتياً من خارج المكونين، من مكان محايد يبحث عن إجابة مستقلة عن مصالح وانحيازات الطرفين. من الملح القول إن هذا انطباع مضلل في أقل تقدير حيث لا يمكن طرح هذا النوع من الأسئلة إلا من قبل طرف منغمس وغارق حتى العنق في الصراع على السلطة، بل يملك الجواب المسبق. فلا يجرؤ على وضع الشعب والنظام في سويّة واحدة ساكنة لا تعرف التبدل والتحول، إلا من يسعى إلى تأبيد سيطرة الأنظمة، ليست بما هي مقولة أو مفهوم نظري مجرد، بل بما هي أسماء وعناوين مادية ومحددة.
ليس من المبالغة القول إن السؤال المذكور قد أسقطته الثورات العربية بين ما أسقطت وأن مواضيع السلطة والحقوق في امتلاكها وتوزيعها وتقاسمها، وتداولها، عادت لتطرح بقوة في العالم العربي.
والأهم أن الثورات أطاحت بالطابع السكوني الثنائي لمعادلة الأنظمة والشعوب وأعادت القوى الاجتماعية والسياسية إلى خانة الصراع. ولعل من السذاجة الاعتقاد بأن الصراع هذا سيكون كالمنافسات الانتخابية في الدول الاسكندنافية، بل الأقرب إلى الصواب أن هذه الصراعات لن تخلو من عنف ومن قسر وإكراه، لكنها مع ذلك تظل تشير إلى أن طريق التغيير الديموقراطي متاح من بين خيارات أخرى كثيرة.
الحياة