صفحات الناس

سلاح الكلورين في سورية … أوبئة أو موت/ آني سبارو

 

 

لا غنى عن الكلورين – وهو مادة تستخدم في تنقية المياه وتعقيمها وفي صناعة الأدوية الحديثة – لحماية صحة الإنسان في عالم اليوم. والأوبئة الناجمة عن مياه ملوثة تتفشى في المناطق السورية المحاصرة وتلك التي تسيطر عليها المعارضة. فالحكومة السورية تحرم حرماناً منظماً ودورياً المناطق هذه من وسائل تعقيم المياه. وحبس الكلورين عن السوريين ومنعهم من الحصول عليه هو سلاح دمار شامل غير مباشر. وعلى رغم أن قطــرات صغيرة من هذا السائل تنقذ الحياة البشرية، فإن تنشق كميات غازية كبيرة منها قد يؤدي إلى الوفاة في 30 دقيقة. فنظام الأسد حوّل عاملاً من عوامل الصحة العامة إلى أداة نشر الأوبئة والرعب.

الكلورين الخيِّر

الحياة الإنسانية وثيقة الاعتماد على المياه النظيفة. وفي الحضارات القديمة الهندوسية والسنسكريتية واليونانية والعهد القديم دار الكلام على سبل تنقية المياه ومحاولاتها. ولكن قتل الميكروبات التي تستوطن المياه كان متعذراً إلى حين اكتشاف الكلورين الخام في مطلع القرن التاسع عشر. وفي الولايات المتحدة يستخدم الكلورين في تنقية مياه الشفة منذ 1914. ورصد سير هامفري دافي عامل الكلورين الأساسي على شاكلة غاز في 1810، وأطلق عليه اسمه المشتق من اليونانية القديمة كلوروس، أي الأخضر الباهت. وقدرته على تعقيم المياه مردها إلى خصائص الأكسدة التي يتمتع بها. ولكن الكميات الكبيرة منه سامة وقادرة على قتل كل الأجناس الحية. وقدرة هذه المادة على التعقيم الصناعي لم تدرك قبل اكتشاف دور الجراثيم في الأوبئة. وكانت الأمراض تنسب إلى تسرّب مواد ضارة من المقابر والبلوعات والمستنقعات إلى المياه. وفي 1847، توسل إيغناك سملويس، طبيب هنغاري (مجري)، بالكلورين إلى تبديد رائحة الجثث عن يديه قبل زيارة جناح الأطفال في المنشأة الصحية حيث يعمل. وحمل العاملون معه على الأمر نفسه. فانخفضت نسبة الوفيات في الجناح هذا. ولكن مساعيه إلى توسيع استخدام الكلورين في الحفاظ على النظافة في المستشفيات، أخفقت ولفظها المجتمع الطبي. فأودع الطبيب في ملجأ المجانين (مستشفى الأمراض العقلية). وفارق الحياة بعد أسبوعين اثر إصابته ببكتيريا في الدم.

وبدأت موجات الكوليرا تتفشى في الغرب، اثر عودة زوار من حوض الغانج، وقضى الملايين في 6 موجات وبائية. وتستّر على تفشي الكوليرا في نيويورك في ثلاثينات القرن التاسع عشر (1830). ولكن خبر انتشارها بلغ الطبيب البريطاني جون سنو الذي كان أول من ربط بين تلويث المياه الآسنة مياه الشفة وبين الأوبئة القاتلة. والكلورين هو نواة الطب الحديث. ويستخدم في مكونات 90 في المئة من الأدوية الحديثة: المضادات الحيوية ومضادات المالاريا وأدوية الحساسية ومضادات الهيستامين والعلاج الكيماوي وأدوية خفض الكوليستيرول والبنج والأدوية الشائعة المخصصة لتخفيف الألم مثل تايلينول ومضادات الكآبة مثل كزانكس. ويستخدم كذلك في صناعة الكف المعقم وأنابيب غسل الكلى والتمييل وبزّات تحمي من إيبولا.

الكلورين السيّء

طوال عقود، استخدم الكلورين في سورية في تعقيم المياه وصناعة الدواء الذي يباع في الداخل والخارج. ولكن قبل أعوام من الثورة الشعبية في آذار (مارس) 2011، لم توفر الحكومة السورية الخدمات الطبية في المناطق التي لا تتعاطف معها سياسياً، وأمسكت عن تزويدها بلقاحات الأطفال والكلورين لتنقية المياه الملوثة بمياه الصرف الصحي. وهذا ربما ساهم في اندلاع الثورة. واليوم، تفاقم هذا النازع إلى الحرمان من الكلورين في دير الزور والرقة ودرعا وضواحي دمشق وغيرها من المناطق الخارجة على قبضة الحكومة. وبضع قطرات من الكلورين تنقي المياه والأيدي ولكنها بعيدة المنال. وفي المناطق المحاصرة مثل الغوطة، تقطع المياه عنها عقاباً جماعياً. وآثار هذا الحرمان تتفاقم على وقع النزوح الجماعي واضطرار عشرة ملايين نسمة إلى ترك منازلها. وغالباً ما تنزل ثلاث أو أربع عائلات نازحة في منزل واحد شبه متداع ويفتقر إلى معايير النظافة. و642 ألف سوري يعيشون تحت الحصار. وتفشّى داء النغف، وهو التهاب ناجم عن شحّ المياه، في الغوطة العام الماضي، اثر قطع المياه عن المنطقة. وفي دير الزور مياه الشفة غير المعالجة بالكلورين تصل مباشرة إلى المنازل من نهر الفرات على بعد مئتي ياردة (حوالى 182 م) من أنبوب مجارٍ آسنة. فانتشرت هناك 30 ألف حالة من التهاب الكبد أ في البلاد في 2014. وراح ضحية الوباء عدد كبير من الأطفال.

وفي شباط (فبراير) المنصرم، دقت وزارة الصحة العالمية ناقوس خطر انتشار الكوليرا في سورية. وهذا الخطر تفاقم إثر إصابة أكثر من 500 شخص بإسهال حاد في حماة في منتصف آذار الماضي. ويساهم عدد من العوامل، منها غياب الرقابة، والافتقار إلى مختبرات تتقصى الكوليرا، وتستر وزارة الصحة الـسورية على الإصابات بهذا الوباء في 2005 و2009 وإخفاؤها معلومات عن ظهور شلل الأطفال في 2013، في انبعاث الكوليرا. وفيروس الالتهاب الكبدي «أ» (الوبائي) بلغ دمشق حيث المياه لا تزال معقمة. فعدد من زملائي أصيبوا به. والتيفوئيد متفش في دير الزور حيث ظهر الشلل في 2013. ومحافظة درعا أعلنت عن أكثر من مئتي إصابة بأمراض تصيب اليدين والرجلين والـــفم. وهذه الأمراض تنتقل إلى الأطفال. والجرب والقمــــل متفشيان، شأن عدد من الأمراض الوثيقة الصـــلة بتلوث المياه. ويقتضي التشخيص والعلاج فحوصــــات مخبرية ودواء وعزل. والحكومة السورية دمـــّرت مرافــــق العلاج في مناطق المعارضة وقطاع صناعة الدواء في حلب في 2012. وشلل الأطفال هو أكثــــر أمراض الطفولة فتكاً، ولم يكن لينتشر من جديـــد فـــي سورية لو لم يمنع السكان من الكلورين. فهـــذه المادة الكيماوية قادرة على القضاء عليه. وعلى سبيل المثل، على رغم أن الحرب مستمرة منذ أكثر من ثماني سنوات في العراق وتقطّع حملات اللقاح، لم يظهر شلل الأطفال هناك بسبب تعقيم المياه.

الكلورين القاتل

وإثر معاناة المدنيين من آثار قطع الحكومة السورية الكلورين عنهم، يعانون اليوم من انهمار كميات كبيرة منه عليهم تلقيها مروحيات النظام. ولم يُلزم الاتفاق الذي أبرمته موسكو مع واشنطن – وهو يقضي بتسليم سورية شطراً راجحاً من ترسانتها الكيماوية إثر الهجوم على الغوطة في آب (أغسطس) 2013 – الحكومة السورية تسليم مخزونها من الكلورين. فهو يستخدم في مشاريع مشروعة. ولكن النظام توسّل دورياً بغاز الكلورين سلاحاً حربياً، وانتهك معاهدة الأسلحة الكيماوية التي وقّعت عليها سورية. واستنشاق الكلورين المكثف يؤدي إلى صدمة قوية قد تكون قاتلة. ووفق لجنة التحقيق في سورية التابعة لمجلس حقوق الإنسان الأممي، وتقرير صادر عن منظمة حظر السلاح الكيماوي صادر في 10 أيلول (سبتمبر) 2014، توسّل سلاح الكلورين في عشرة هجمات جوية في بلدات شمال سورية منها تلمنس وكفرزيتا وفي نيسان (أبريل) 2014. واستندت تقارير هذه المنظمة واللجنة إلى أدلة جمعها أطباء ينضوون في فريق عمل شبكة معالجة (آثار الهجوم) الكيماوي – البيولوجي. والقوات الحكومية السورية تملك من دون غيرها مروحيات قادرة على تنفيذ مثل هذه الهجمات. وعلى رغم أن قدرة غاز الكلورين على القتل أضعف من قدرة غاز الخردل الذي قتل أكثر من 90 ألف نسمة في خنادق الحرب العالمية الأولى، وهو غاز بخس الثمن ولا يقتضي التوسّل به حيازة صواريخ مثل تلك المستخدمة في إلقاء السارين. وهو سلاح رعب شامل.

«وصل أطفال في ثياب النوم. الجدة فارقت الحياة، ولكننا لم نجد مكاناً نسجّي جثتها فيه أو نحفظها. فأجلسنا طفلين على جثتها في محاولة لإنعاشهما… كان معنا بالكاد ما يكفي من المياه لغسل المرضى أو أوكسيجين لإنعاشهم أو أدوات تنفس اصطناعي تنقذ الحياة. نزعنا ثياب الأطفال ومكثوا من غير ملابس…»، يروي الطبيب محمد تيناري ما حصل معه بعد هجوم كيماوي في آذار المنصرم. وفي الأعوام الأربعة الماضية، اعتبر النظام الأطباء العاملين في مناطق المعارضة إرهابيين، فاقتص منهم وسجنهم وأعدم بعضهم بتهمة معالجة من يحتاج العلاج أياً كان انتماؤه. وفاقمت وكالات الإغاثة الغربية والحكومات المانحة الضيم اللاحق بالأطباء والمرضى السوريين. فرفضت تزويدهم أبسط معدات الصحة العامة بذريعة جبه «داعش». ولكنها لم تتوقف عن تزويدهم مادة «أتروبين» التي تستخدم في إنعاش الحالات الطارئة. ويرى أطباء سوريون كثر أن هذه الخطوة تخالف المعايير الأخلاقية. ويرون أنها رسالة الحكومات الغربية إلى السوريين مفادها «نعرف أن حكومة بلادكم ستقتل أولادكم، ونحن لن نحرك ساكناً، ولكن على الأقل سنقول إننا ساعدنا». ويقول طبيب سوري إنه وزملاءه يستخدمون الأتروبين حين يعالجون آثار هجوم بالكلورين، على رغم أنه (الأتروبين) مادة تستخدم في حالات طوارئ «عادية». وهم لا يعرفون ترياقاً للكلورين، ولم يتعلموا في كليات الطب سبل علاج آثار الهجمات الكيماوية.

وتركيا مدعوة إلى فتح حدودها أمام اللاجئين والأطباء والمرضى ودعم مساعي جمع بيّنات على هجمات الكلورين. وغلق الحدود إجراء يفتقر إلى البصيرة. فالجراثيم لا تحتاج إلى تأشيرة أو جواز سفر لاجتياز الحدود.

* طبيبة، عن «نيويورك ريفيو أوف بوكس» الأميركية، 7/5/2015، إعداد م. ن.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى