سلامات يا علي!
ميشيل كيلو
ما إن بلغنا الحدود مع لبنان، حتى أبلغنا رجل شرطة كان يحمل بطاقاتنا الشخصية في يده أننا ممنوعون من مغادرة القطر، حرصا على حياتنا. ظنناه يمزح أول الأمر، لكنه كرر الجملة وهو يدعونا إلى رؤية الضابط، الذي أمره بإبلاغنا القرار. بعد قليل، كنا في مكتب ضابط شاب قال إن «أمرا شفهيا» صدر قبل ساعة (في التاسعة صباحا) يمنعنا من المغادرة حرصا على حياتنا، وأننا لو كنا أتينا قبل دقيقة من صدور الأمر إليهم، لكنا غادرنا بحفظ الله ورعايته. سألناه عن السبب، فقال إنه لا يعرفه، وإن زيارتنا إلى سيادة المقدم رئيس المركز قد تأتينا بالجواب. قصدنا رئيس المركز، الذي كرر على مسامعنا ما سبق للضابط أن قاله لنا، وأضاف أن المنع يقتصر على يومين فقط: على اليوم (27/8/2011) وغدا، وأننا أحرار بعد ذلك في أن نسافر إلى حيث نشاء. عندما أخبرته أن لدي موعدا مع طبيب في بيروت في الأول من سبتمبر (أيلول)، وأنني أريد أن أعرف إن كان المنع دائما، كي لا أتجشم عناء القدوم إلى الحدود مرة أخرى دون جدوى، رفع الهاتف واتصل بمكتب سيادة اللواء. بعد محاولات، رد عليه ضابط نصحني بزيارة «المعلم» في اليوم التالي، لأنه يستطيع إخباري بالحقيقة. في اليوم التالي، يوم الزيارة الموعودة، لم أذهب إليه لأنه كان أول يوم من أيام العيد – أعاده الله علينا جميعا باليمن والبركة – فأبلغنا معلق سوري في حديث مع «الجزيرة» أننا منعنا لأننا أردنا الذهاب للحوار مع محطة تلفاز في بيروت، بينما نرفض الحوار داخل بلادنا. بكلام آخر: لم يكن المنع حرصا على حياتنا، كما قيل لنا على الحدود، بل عقابا لنا على ذنب لم نقترفه، هو الامتناع عن الحوار مع النظام، نحن الذين دعونا النظام إلى الحوار طيلة عشرة أعوام، ثم لم نترك أحدا من أهله إلا وحاورناه خلال نحو أربعة أشهر، على الرغم من اقتناعنا بأنه لم يكن يريد الحوار، وأن نظريته عن المؤامرة والحل الأمني الذي يطبقه في طول البلد وعرضها، ويطاول اليوم كل قرية ومدينة وزنقة ودار وشخص، يمنعان الحوار، وإلا فكيف يحاور قادة على تغيير نظامهم، إذا كانوا يؤمنون بأن ما يجري في سوريا مؤامرة هدفها تغييره، وأن قيامهم هم بتغييره يعني عمليا الاستجابة للمتآمرين، بينما المطلوب هو الحفاظ عليه، بما أنه المستهدف الحقيقي!
قبل قرابة ثلاثة أسابيع، اتفق الأستاذ رياض سيف مع مستشفى ألماني على دورة علاج من مرض لعين في المثانة. بما أنه كان قد سمع مثلنا بقرار إلغاء حظر السفر، فقد قصد وزوجته المطار، حيث اجتاز إجراءات التفتيش جميعها، بل وصل إلى قاعة المسافرين. بعد قليل، جاءه من أبلغه بأنهم اكتشفوا مادة بيضاء في حقائبه يشتبه في أنها مخدرات، وأنه لا يستطيع السفر قبل تلقي تقرير من مخبر مختص يبين طبيعة هذه المادة. بعد أيام أبلغهم الأستاذ أن المادة، التي لم تكن أصلا في حقائبه، ليست غير كلور الصوديوم، بالعربي الدارج «ملح»، فأعلموه أن مخبرا آخر يتولى الفحص، وأنه سيتمكن من السفر حين تصل نتيجة الفحص. لا داعي للقول: إن النتيجة لم تصل، ويرجح أن لا تصل أبدا، بينما يزداد وضع الأستاذ سيف الصحي تدهورا من يوم لآخر.
كان الأستاذ علي فرزات راجعا من مكتبه وسط دمشق إلى بيته في حي «المزة»، عندما طاردته وأوقفته سيارة «هيونداي أفانتي» بيضاء زجاجها «مفيّم»، كما يقول السوريون عن السيارات الرسمية وشبه الرسمية، نزل منها أربعة شبان فتحوا أبواب سيارة الأستاذ علي الأربعة، وانهالوا عليه بالضرب المبرح، قبل أن ينقلوه إلى سيارتهم وينطلقوا نحو طريق المطار، بينما كان الضرب يتواصل مصحوبا بشتائم مقذعة، تفهمه أنه يعاقب بسبب رسوم كاريكاتيرية كان قد رسمها تعليقا على الحدث السوري، قالوا إن فيها تعريضا بمن سموهم «أسياده»، كما روى نجله مهند في الفضائيات وحكى هو نفسه لمن زاروه في منزله. ترك الاعتداء ردود فعل محلية وعربية وإقليمية ودولية صاخبة بمعنى الكلمة، فالرجل يعد أحد أعظم – إن لم يكن أعظم – رسامي كاريكاتير في أيامنا، ليس عندنا فقط، بل في العالم، والاعتداء عليه بهذه الطريقة ليس حدثا يمكن أن يتجاهله الرأي العام، في زمن ثورة رايتها وشعارها ومطلبها الحرية. قالت وزارة الداخلية إنها ستفتح تحقيقا في الحادثة، بينما سأل شرطي تابع لها جاء إلى مستشفى الرازي لتنظيم ضبط بالحادثة: «شو هادا لسه ما مات؟». لا داعي للتأكيد أن ما وقع نسب «للعصابات التي تروع البلاد وتقتل الآمنين»، ويبدو أن الوزارة لا تعرف بعد أي شيء محدد عنها، على الرغم من انقضاء ستة أشهر من نشاطها، وعلى الرغم من أن «دورية أمن» كانت قريبة من مكان الاعتداء، فإن عناصرها لم يأبهوا للأمر في البداية، ثم ركضوا نحو سيارة الجناة عندما ابتعدت، دون أن يقوموا بأية محاولة لإعاقتها أو لمطاردتها بسيارتهم، أو حتى لإطلاق النار على دواليبها وتعطيلها، على غرار ما يفعلونه يوميا في المدن الأخرى ضد المواطنين العاديين.
في النهاية، تم إلقاء الأستاذ علي من السيارة على طريق المطار وهو شبه ميت، وأصابعه مهشمة وفي صدره جرح غائر، كي لا يعاود الرسم من جديد، كما قالوا له. واليوم، وعلى الرغم من أن أكثر من أسبوع مضى دون أن يقوم أحد من لجنة تحقيق الوزارة بالاستماع إلى علي أو بزيارته، فإن زوايا متحمسة ضد «العصابة» بدأت تنشر في الصحف السورية مصحوبة برسوم كاريكاتير، يقول أحدها: «سلامات يا علي»، «سلامات يا حرية، يقتلونك ويمشون في جنازتك»!
الشرق الأوسط