سلامة كيلة: الثورة السورية لم تنته ولكن تطحنها وحشية النظام والمجموعات الجهادية معاً
آية الخوالدة
عمان – «القدس العربي»: سلامة كيلة مفكر عربي يحمل صدق المبادئ والانتماء للقضية العربية أينما حلت، رافضا الأنظمة الاستبدادية ومدافعا عن الفكر الماركسي. حصل على شهادة العلوم السياسية من جامعة بغداد وانخرط في أنشطة اليسار العربي وسجن على يد النظام السوري ثمانية أعوام قبل أن يستقر به المقام في مصر، وله العديد من المؤلفات والمقالات في الصحف والمجلات العربية. التقته «القدس العربي» وكان هذا الحوار:
■ ما رأيك في «النهضة المجهضة» وهو عنوان لأحد كتبك، وكيف تفسر أسباب فشل النهضة في التاريخ العربي المعاصر؟
□ المحاولة الأولى التي بدأت مع محمد علي باشا في مصر وامتدت إلى بلاد الشام في سياق بناء «إمبراطورية عربية»، قائمة على بناء الصناعة والحداثة، أُجهضت بفعل التدخل الرأسمالي الغربي، حيث عمل محمد علي باشا على تحقيق التطور بالتوازي مع تطور فرنسا وبالتعاون معها قبل ألمانيا بخمسين سنة، وقبل اليابان بسبعين سنة. لكن بريطانيا التي كانت قد دخلت عصر الصناعة صممت على منع تصنيع مصر، لهذا حشدت الدول الغربية دعماً للدولة العثمانية المتهالكة لهزيمة محمد علي، ونجحت في ذلك سنة 1840 حيث فرضت عليه التقوقع في حدود مصر الحالية والتزام عدم تصنيع مصر كما ورد في اتفاق الاستسلام.
بعد ذلك بدأ احتلال البلدان العربية، والسيطرة على مسار تطورها الاقتصادي، حيث كانت الرأسمالية تريد المواد الأولية (القطن، الحرير، وأيضاً القمح)، والأسواق لتصريف سلعها. لهذا حاربت كل محاولة لبناء الصناعة وتحقيق الحداثة، على العكس عملت على تكريس البنى التقليدية والوعي التقليدي، وقامت بتغييرات تخدم سيطرتها ونهبها فقط.
ولا شك في أن نهاية القرن التاسع عشر شهدت انتشار أحلام التطور والحداثة، وطرحت مشاريع كثيرة، كما نشأت حركات تدعو إلى ذلك، وكانت كلها تقوم على تحقيق المثال الرأسمالي الذي انتصر في أوروبا. وإذا كانت هذه المشاريع تواجه من قبل الرأسمالية الأوروبية (عبر دعمها قوى «أصولية» وفكرا تقليديا، أو بالمواجهة المباشرة)، فإن أمر الفشل هذه المرة تعلّق بغياب الحامل الاجتماعي لتلك المشاريع، حيث كانت الفئات التي تستحوذ على المال (كبار ملاّك الأرض والتجار) تميل إلى توظيفها في التجارة والبنوك والخدمات، وليس في الصناعة كما حدث في أوروبا.
جاءت المحاولة الأخيرة في القرن العشرين من طرف الجيش، المغطى بتيار قومي «اشتراكي»، ولقد عبّر بالأخص عن الفلاحين الذين كانوا يعيشون الوضع الأسوأ في مجتمعات كانت ريفية عموماً، وإذا كانت الشعارات العامة تحمل حلم التطور، فقد كان ذلك يعني تحقيق تغيير مجتمعي ينهي البنى التقليدية، ويؤسس لمرحلة جديدة، لكن منطق «الريفي» يقوم على تحقيق ما هو مباشر وخاص، من دون التفات كبير لما هو مجتمعي.
في كل ذلك، فيما عدا التجربة الأولى، نلمس بأن كل محاولات التطور الرأسمالي باءت بالفشل، حتى تلك التي استفادت من التجربة الاشتراكية، من خلال التخطيط وتحكم الدولة بالتطور الاقتصادي، ونتيجة ذلك لم تنتصر قيم الحداثة، واستمرت البنى التقليدية، واستمر الوعي التقليدي.
■ وماذا عن مستقبل الثورات التي انخرطت فيها بعض الدول العربية بظهور الثورات المضادة لها؟
□ هو صراع طبقي يجري في شكل جديد. فإذا كان الصراع كامناً سابقاً، أو عبّر عن ذاته في أشكال متعددة من الاحتجاج، بات الآن صراعاً مفتوحاً. الشعب اندفع لتحقيق مطالبه، التي هي في جوهرها اقتصادية، مع مطالب نخب بالحرية والديمقراطية في دولة مدنية. ولقد سيطر على الشارع، لكن غياب البديل، سواء كأحزاب أو كرؤى وبرامج، جعل الطبقة المسيطرة تحاول المراوغة لكي تستمرّ.
السلطة تدافع عن مصالح رأسمالية مافياوية، وتريد تكريس النمط الاقتصادي الريعي القائم، وتكريس النهب الاقتصادي لمصلحة الطبقة الرأسمالية. وكذلك تريد استمرار شكل السلطة الديكتاتوري القمعي، وإعطاء شيء من «الحريات» الشكلية. والشعب لم يعد يستطيع الاستمرار في الوضعية التي بات فيها، من بطالة عالية (خصوصاً بين الشباب)، وأجور متدنية جداً، مع انهيار نظام التعليم والصحة، والفشل في الحصول على مسكن. ولهذا فقد تمرّد وكسر حاجز الخوف التاريخي، والحرص على تحاشي السلطة، بالضبط لأنه لم يعد يستطيع العيش، من دون «وعي سياسي»، أو تصوّر بديل، لأنه يعرف أن المطلوب هو أن توجد الظروف التي تسمح له بالعيش، العيش فقط. وتحديد هذه الظروف عبر بديل هو من مهمة الأحزاب، والنخب التي تنشط في مجال الفكر والسياسة. لكن ظهر واضحاً أن الأحزاب والنخب لا تحمل بديلاً مجتمعياً، بل طرحت «بديلها» الذي يتمثّل في «الحرية» و»الديمقراطية» في ظل الوضعية الاقتصادية القائمة، كما أنها لم تعرف كيف تدفع الشعب الثوري لكي يفرض التغيير الحقيقي عبر السيطرة على الدولة، بل ظلت تراهن على الدولة ذاتها.
هذا الأمر سمح للسلطة بالمناورة، أو بإنجاح سياستها تجاه الثورة، فلم يتحقق شيء مهم إلى الآن، بل ظل الوضع كما هو وظلت المطالب الشعبية كما كانت.
■ تعيش الماركسية اليوم أزمة عالمية وواقعا صعبا في الوطن العربي من حيث التنظير والأحزاب، فكيف ترى هذا المشهد؟
□ بالتأكيد الماركسية في أزمة في كل العالم، والأحزاب التي تدعي الاسترشاد بها هامشية وكثير منها يتلاشى بعد أن ظهر ارتباط وجوده بوجود الاتحاد السوفييتي، حيث ظهر أن الإنتاج النظري الماركسي كان ضعيفاً، وفي الغالب كان تكرارا نصيّا، أو تمحور حول الصراع ضد الإمبريالية أو السوفييت، ولم يلمس جيدأ الواقع العالمي في تحولاته، لهذا حين بدأ التشكيل العالمي الذي نشأ منذ النصف الأول من القرن العشرين يتفكك بانهيار الاتحاد السوفييتي، ومن ثم الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 2008، تاهت كل هذه الأحزاب.
تمثلت الأزمة في العجز عن تمثُّل الماركسية كونها منهجية، وتحديد موقع الماركسية فيه بصفتها ترتبط بالعمال والفلاحين الفقراء. ولقد أظهرت الثورات أن كل الأحزاب التي تقول إنها ماركسية باتت من الماضي، حيث تجاوزتها عفوية الشعب، وظهر عدم فهمها لما يجري، فقد تحدث بعضها عن الثورة كثيراً، لكنه حين حدثت الثورة اعتبر أنها ليست الثورة التي قال بها، وبالتالي أنها ليست ثورة. ولا زالت غير قادرة على تحديد دورها الفعلي في الثورة، بل أن كثيرا منها بات يدعم الطبقة المسيطرة ضد الثورة.
■ في ما يخص الثورة السورية، كيف تقيّمها؟ واين توقفت؟
□ الثورة لم تتوقف، ولم تنته، لكن بات يطحنها ليس عنف ووحشية السلطة فقط، بل كذلك المجموعات الأصولية «الجهادية» التي اشتغلت دول عديدة على إدخالها في المشهد، وأيضاً تفتت الكتائب المسلحة والعبء السيئ للمعارضة. فقد مارست السلطة، ولا زالت، أقصى الوحشية ضد الثورة، فهي تقتل وتدمر بشكل واسع وممنهج، وتعتقل خيرة الشباب، ليقتل كثير منهم في السجون. ولقد ساعدت على نشوء المجموعات المتطرفة كلها بعد أن أخرجتهم من السجون ليعيثوا فساداً في الثورة، ويمارسوا كل أشكال القمع والقتل والاعتقال في المناطق التي انسحبت السلطة منها، أو التي تسمى مناطق محررة. فبات الشعب يقاتل على أكثر من جبهة، في الوقت ذاته، ولقد دعمت دول إقليمية مثل السعودية هؤلاء «المجاهدين»، وأمدتهم بالمال وساعدتهم على الحصول على السلاح. وظهر ان الدول الإقليمية إما تدعم السلطة وتدافع عن وجودها، حتى أن إيران وميليشياتها في المنطقة (من حزب الله إلى فيلق بدر وعصائب أهل الحق وغيرها، التي هي لا تختلف عن داعش والنصرة من حيث التعصب الطائفي) هي التي سمحت بعدم سقوط السلطة منذ سنتين. وأيضاً عملت روسيا بكل جهدها لعدم سقوط السلطة. وهو الأمر الذي يوضح بأن الثورة السورية تواجه ليس السلطة، بل كذلك كل قوة إيران وروسيا.
في المقابل نجد أن «أصدقاء الشعب السوري»، إما يدعمون تفكيك الثورة وأسلمتها والسيطرة عليها، أو يقولون انهم يدعمون ولكن لا يبالون بكل المجازر التي يقوم بها النظام، حتى تلك التي توضع تحت بند جرائم حرب أو حتى إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية. وهي كما يبدو تريد تحويل الأمر إلى مجزرة تدمر سورية، وتنهك الشعب، وكذلك تعطي المثل على أن الشعب الذي يثور سوف يكون مصيره كما جرى ويجري في سورية. وبالتالي نجد أن الثورة تواجه كذلك كل الوضع الإقليمي الذي يرتعب من الثورات، والوضع الدولي الذي يتلمس أن المرحلة المقبلة عالمياً هي مرحلة ثورات كبيرة في كثير من بلدان العالم.
ما هو الأفق؟ الصراع سيستمر، والثورة لن تتوقف، لكن ربما تصل الدول الإقليمية والعالمية المتحكمة بالسلطة إلى ضرورة تحقيق حل سياسي. وهذا يعني موافقتها على إبعاد الرئيس بشار الأسد ومجموعته، وفتح أفق لمرحلة انتقالية تعيد بناء الدولة، أو سيستمر الصراع وتزيد التدخلات من قبل أمريكا والسعودية، ويتصاعد دور «الجهاديين»، الذين يُستخدمون لمصلحة تدمير الثورة، والمجتمع، من قبل أمريكا والسعودية، ولكن أيضاً السلطة ذاتها وإيران وروسيا وغيرها، فهي مجموعات مخترقة من أجهزة أمنية متعددة، وإنْ كانت تنحكم في الأخير للسيطرة الأمريكية صانعتها منذ تدريب «المجاهدين الأفغان».
■ كيف ترى مستقبل «داعش»، وما رأيك في ما يحدث هناك؟
□ مستقبل «داعش» مرتبط بسياسات الدول المشغّلة لها، وبالتالي بتحقيقها الأهداف التي عملت من أجلها عبر إطلاق «داعش» بهذا الشكل «المذهل»، بالضبط كما فعلت مع تنظيم «القاعدة». إيران والمالكي استخدما تنظيم «دولة العراق الإسلامية» ضد الحراك الشعبي، وفي سورية استخدمت إيران والنظام «داعش» للقضاء على الثورة (كما استخدمت السلطة جبهة النصرة كذلك). لكن «داعش» الآن يلعب دوراً في سياق السياسة الأمريكية التي تريد أن تفرض أمراً واقعاً جديداً في العراق، يتمثل في تغيير مركز السيطرة في السلطة لمصلحتها بعد أن سيطرت إيران بشكل كامل قبيل وبعد الانسحاب الأمريكي، ثم أنها تريد إعادة تموضع جزء من جيشها في القواعد التي بنتها في العراق بعد أن تحصل على حصانة كما فعلت في أفغانستان.
لقد ضخّمت أمريكا من قوة «داعش»، ودعمته بأشكال مختلفة لتحقيق ذلك، وسيتراجع دوره في العراق بعد أن تحقق أمريكا أهدافها. أما في سورية فالأمر متعلق بالتفاوض مع إيران (الذي هو أوسع من سورية، حيث يشمل العراق، ويشمل تحقيق تفاهم مشترك)، وما يمكن أن ينتج عنه، لينتهي حينها وجود «داعش» بالضبط كما حدث مع تنظيم «القاعدة» في أفغانستان، حيث اختفت بعد ان احتلت أمريكا البلد.
«داعش» إذن، هو «بعبع» يستغلّ لأهداف سياسية، وينتهي دوره حين تحقيق تلك الأهداف.
■ هل تعتقد أن الإعلام خذل الربيع العربي؟
□ الإعلام العربي عموماً ليس فقط خذل الثورات، بل كان في الغالب جزءاً من إستراتيجية النظم لتشويه الثورات، حيث أنه إما تابع لهذه النظم، أو ملك لرجال أعمال، وفي الحالين كان ضد الثورة، وفي الثورة السورية ظهر ذلك واضحاً، حيث ركّز على أسلمتها، أو على تعميم أن ما يجري حرب أهلية، أو تشويه الحقائق.
ربما فتحت قنوات التواصل الاجتماعي، والنت عموماً، على صيغة أخرى سمحت بنشر الفكر المضاد، لكن يبقى الضخ الإعلامي، سواء عبر الصحف أو القنوات الفضائية كثيرة العدد، عنصر تشويه وتشويش، خصوصاً لدى الفئات الاجتماعية التي لا تقرأ أو تتابع الفكر والثقافة.
■ كيف تجد الحركة الفكرية العربية اليوم؟ ومن من هم أبرز المفكرين العرب الذين تركوا إرثا عظيما؟
□ الوضع بائس مع الأسف، حيث تراجع الفكر كثيراً، خصوصاً مع تحولات عديد من المفكرين، وتعميم الأصولية، وأصلاً مع الانهيار الكبير الذي شهده التعليم، وسيطرة النظم على الثقافة والإعلام، وتجييرها لتبرير سياساتها ومنطقها.
هناك عديد من المفكرين هم في الواقع من بقايا المرحلة السابقة، وربما تكون الثورات مدخلاً لتحريك الفكر وإعادة الفعل الفكري، ما يمكن قوله هنا هو أن الفكر النقدي ظل غائباً طيلة العقود السابقة، سوى بعض الحالات، حيث اتسم الفكر بدوغما لا زالت تحكمه، نتيجة التشبث بمنظومات «جاهزة»، لكن الأمر أسوأ الآن.
■ في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها الوطن العربي من مآس وحروب وإرهاب، تراجع المشهد الثقافي بشكل كبير في العام الماضي، برأيك ألم يحن الوقت لتكون الثقافة جزءا فاعلا من هذه الأحداث ومؤثرا فيها؟
□ لا شك في ذلك، فقد أفضت الأزمة السابقة إلى حالة من الجمود وهجرة الثقافة، أو الميل نحو التدين، ربما تفتح الثورات أفقاً جديداً. فقد تفاقم الصراع الطبقي، وانفجر في ثورات، كما أشرت لم تجد التعبير الفكري والثقافي عنها، لكن هذه الهزّة الكبيرة فتحت بالضرورة على تلمّس ضرورة الفكر والثقافة، لهذا سنشهد تحولاً كبيراً في الفترة القادمة، سوف ينهض البحث الفكري، ويتوسع النتاج الأدبي، وسنكتشف مواهب مذهلة. لقد هزّت الثورة الأعماق، وحررت المكبوت، وأوضحت أنه بدون وعي ورؤى وبدائل ليس من تقدّم، وهو الأمر الذي دفع الشباب، أو قطاعا مهما منهم، إلى البحث عن الفكر والثقافة، للإجابة على سؤال: ما العمل؟.
القدس العربي