سلامتي الشخصية
عناية جابر
طبعاً لا نستطيع فصل مسارنا اللبناني عن المسار السوري ومآلاته . وبما انني متشائمة أرى (والله أعلم) نُذر حرب أهلية مقبلة، عندهم وعندنا، وأخمّن ببساطة ومن دون الخوض في متاهات لايحملها عقلي، أن عليّ تدبير أمر حمايتي الشخصية، ذلك أنني قلما فعلت حتى اللحظة، لكن العمر ‘ مش بعزقة’ ولا أريد بعد ان أكون ضحية حرب موتورة بين السنة والشيعة، عدا عن المحازبين الكثر من الطوائف المسيحية لهؤلاء واولئك . نظرة بالكاد أفقية على ما يجري في العراق، يشحذ انتباهي الى إمكانية ‘استشهادي’ القسري، على يديّ حامي ومناصري هذه الطائفة أو تلك ، وبالمختصر مسألة ايجاد مكان آمن، مسألة مصيرية بالنسبة لي ولتذهب طوائفهم الى الجحيم.
أن يكون سكني في طابق علوي، معلّقا في فضاء بيروت المجنونة، لهو أمر لا طاقة لي علي رّده، وفات أوان معالجته علي كل حال. مع ذلك، منهمكة على قدر لا بأس به، بدراسة المواقع الاستراتيجية الفُضلى للاحتماء، بُغية تجنب تقديرات سابقة مضحكة كلفتني الكثير، في تتالي حروبنا اللبنانية. لن احتمي هذه المرة بالأنتريه ولا ‘ببيت الدرج’ ولا بالحّمام، سأعتمد خطة البقاء في حجرتي، الخطة التي لن يلحظوها ولن تكون من ضمن تقديراتهم.
وقعتُ للحرب المقبلة، على هذه الخطة، وهي أكثر ذكاء من سابقاتها، أكثر بساطة ايضاً وتقضي بعدم اجراء تعديل على مكان نومي في غرفتي المعتادة، ومشرعة هذه على المحاور كافة. قدرية لطيفة تحكم إستعداداتي، بانتظار ما يسفر عنه قرار النزول الى الشارع عند هؤلاء وأولئك، الفخ الذي واقعين لا محالة، في براثن مفاعيله وتردداته.
من جهتي، ممسوسة بفكرة الشارع من دون ناسه. أنتمي للاضلاع الحجرية والأعمدة والإسفلت، وأصص الزهور التي تزين واجهات بعض المباني. أنتمي للشرفات، وللغة الاشارة التي يتبادلها خدم البيوت، ولقوة العالم الثقيل الذي تمثله هذه الكائنات. أنتمي لغبار الشارع، بلاطاته، وأتنكر للتجمعات ولا تعني لي هذه شيئاً. أؤمن بالفرد، وينقصني الإحساس بالمسّرات الجماعية، والآن وأنا يائسة تماما من التظاهرات، أرجو لناسها أن تختفي تماما وتؤوب الى بيوتها.
سر الافكار الجيدة هو صمتها، وتبدأ هذه تنزاح الى غير حقيقتها حين يعلو صوتها. منتبهة الى فخ الهتاف، اخنقهُ فيّ ليكون إنعكاسي، ولأعّبر عنه بنظامي الأخلاقي الخاص، وأحرره بالتالي من خزيه. لن أنزل الى الشوارع وأهتف، لكنني حكماً سأشكل انتصاراً ما، بطريقة ما.
ينتابني الخوف في ظل الجموع الهاتفة، حيث كل كلمة هي حادثة قتل. حين رغبت يوماً الى التآلف مع فكرة الحشد، وأجبرت نفسي على المشاركة في إحدى التظاهرات، وأجهل حتى اللحظة سببها وغايتها. ردّدنا يومها هتافات بقليل من الشر وتفاصيل كريهة، كلمات لا حصر لها حتى أصابني الغثيان. من ذلك الغثيان شيّدت عزلتي الضخمة من إعتقادي بأن الهتاف الجّيد شيء مخبوء في اعماقنا، وتقوّضه الأصوات الحاسرة في علنية الشوارع، تحت شمس لاهبة او سماء ماطرة.
أتململ ما زلت، حيال مطلق دعوة الى التظاهر. لست أحّب للجموع خضوعها المفرط.. أتحمل بقسوة فكرة التعبير عن مطلب ما، قضية ما، بالصورة التي يختارها الآخرون. أريد أن اشّع بتعبيري وحدي. أعد فكرتي وأرسمها على ضوء رؤيتي الخاصة، وأنا كفيلة بايصالها بأكثر الطرق سلمية وانفتاحاً.
فكرة الحشد، التجمهر، ترعبني . وبإختصار فكرة تواجدي مع اكثر من شخصين إثنين أو ثلاثة على أكثر تعديل، تُسقطني مريضة.
لا أبذل اي جهد من أجل تلبية دعوات الافرقاء ‘للنزول الى الشارع’ على ما يُقال عندنا، ليس من يقيني من عدمية الشارع، بل من خوفي من الفريق الواحد، والمكان الواحد، وفئة الجموع الواحدة في الهتاف الواحد والنبرة الواحدة، والاستخدام الواحد. لا أحّب أن أبدو أقلّ جمالاً، ولا لحظة واحدة.
أقدُّمُ كما قد يتبدي للبعض، وصفاً ناقصًا عن كيفية رعبي من الانمحاء في الجموع. وحاولت لآلية ذلك بصدق. لكنني لم انجح . ولكي أحقق المزيد من الشرح هنا عن الموضوع برمته، أؤكد على احترامي لكافة الوسائط التعبيرية، مع ميلي الى الانتصار على الصراخ، وإيثار البساطة وعدم الارتماء على اسفلت الشوارع تحت اليافطات، مسحوقة بالأفكار الكبيرة، وبالمزاج الشعوري الساخن للمتظاهرين.
قابليتي للتوضيح، تميل هنا الى وصف البذخ الشهواني المُرعب الذي تبذله كاميرات التلفزة للعالم، ليس لتصوير جمال وأبهة هذه الحشود بالمعنى الانساني، والسياسي المطلبي، بل للنيل من خدعة أنسابها وجمالها، وإظهارها ككنوز من الرياء والكراهية والفوضي والقسوة.
تحكمني الدهشة بين الحشود، ويدهمني خرس ورغبة الى البيت، والى العزلة الكلية، بما هي حياة حقيقية يؤذيها الكشف والتظاهر.
لا اعرف صورة لمتظاهرين في أي مكان في العالم، لا يبدو فيها هؤلاء لاعبين في لعبة مجانية وكأن حاجة عبثية جمعتهم هكذا طائعين للكاميرا، يبذلون لها اشكال ذواتهم وحناجرهم، مهتدين بوقاحتها وعصبية تنقلها على الوجوه، في بحثها عن كومبارس لمسلسلات فكاهية عربية.
القدس العربي