سلطة الجماعات المؤّولة وتحدي الإبداع/ د. محمد مفضل
مادام القارئ هو من يفعّل الدلالات الكامنة في النص، وما دام منتجا مشاركا في عملية الإبداع والكتابة عبر القراءة، فدراسة دوره كنوع من السلطة الخفية على التأويل والتلقي، وفي نهاية المطاف، على مسار الإبداع والكتابة في المجتمع تفيد كثيرا في رصد الثابت والمتحول في عملية الكتابة والقراءة في المجتمع. إن القراءة تحدد بطريقة غير مباشرة من يكتب ولماذا يكتب وماذا يكتب ولأي قارئ يوجه الكاتب أعماله الإبداعية والأكاديمية. هناك دور آخر لا يقل أهمية من حيث التأثير وهو دور الكاتب كقارئ وانتظامه مع كتاب وقراء آخرين في إطار مؤسسة مؤّولة تمارس سلطة القبول والرفض تجاه المبدعين والكتاب أنفسهم.
قام الناقد الأميركي ستانلي فيش بالتفكير في اختلاف التأويلات واختلاف المؤّولين وتكتلهم في جماعات تأويلية تمارس سلطة في توجيه القراءة وبطريقة غير مباشرة الكتابة نفسها. إن القارئ لا يمارس القراءة عموما بحرية كاملة بل تخضع قراءته لبعض المواضعات الثقافية والتأويلية والتي تعرَّف عليها وتبناها خلال مساره التعليمي أو تفاعله مع الآخرين أو من خلال الإعلام. توجه هذه المواضعات، المستبطنة من طرف القارئ، عملية القراءة وتحدد الطريقة التي يقارب بها القارئ أي كتاب والحكم عليه حتى قبل بداية القراءة انطلاقا من العنوان وجنس الكتابة. كما أن قرار القراءة من عدمه يتوقف على الموقف المسبق للقارئ من الكتابة من خلال الجنس والنوع الذي يمثله الكتاب والثقافة التي تروج له. فقد يرفض قارئ مثلا قراءة كتاب معين لأن لديه حكما مسبقا على نوعية الفكر والكتابة التي يتضمنها، وبالمقابل قد يتحمس لمعرفة مضمون الكتاب وطريقة الكتابة لمجرد أنه يعتقد بأن هذا الكتاب يقدم إبداعا وفكرا جديران بالقراءة. قد يرفض شخص ذو ثقافة دينية مجرد التفكير في قراءة كتاب يشكك في صحيح البخاري لأن في ذلك في نظره تطاولا على رموز التراث الديني. والعكس صحيح بالنسبة لقارئ ذي ثقافة علمانية الذي يرفض بتاتا قراءة كتاب يروج للثقافة الدينية.
قرار القراءة من عدمه هو تأويل مسبق ينطلق من عتبة النص وهو رفض أو قبول سابق على القراءة الفعلية يحدد طبيعة المواضعات التأويلية للقارئ وتوجهه الأيديولوجي العام. إذا ما تم تجاوز العتبة وتم التعامل مع النص بالقراءة والتأمل، فإن تأويل هذا النص يخضع كذلك لمواضعات أخرى تخص عناصر الكتابة التي يجب توفرها في النص، سواء الجمالية أو الأيديولوجية. قد يتوقف القارئ عن القراءة بعد تفحص لمحتوياته وقراءة بعض الصفحات لاعتقاده بأن العمل لا يستجيب لمتطلبات الإبداع والـتأليف عما يراه هو كقارئ. كما قد يقرأ كل الكتاب لأنه استجاب لأفق توقعاته وصنف الكتاب تصنيفا إيجابا بالرجوع إلى المواضعات والمعايير الخاصة بالإبداع والكتابة التي يعتقد أنها شرط أساسي للكتابة الجيدة.
لكن القراءة على أشكالها تقع لتُكوّن بذلك جماعات تأويلية مختلفة تضع معايير للتأويل وتفترض شروطا معينة تصنف الكتابة وفق تراتبية معيارية. كل جماعة تروج وتنشر وتدافع عن مقاربتها التأويلية سواء عبر الصحافة والإعلام عموما وفي الندوات وفي الجامعات والمجالس المختلفة وحتى عبر الكتابة نفسها كإنتاج مادام الكاتب هو قارئ كذلك. إن هذه الجماعات المؤولة تمارس سلطة التضمين والإقصاء ورغم أنها تمارس سلطة خفية، فهي منتشرة ولها أبعاد سياسية، بالمعنى العام للسياسة. قد تتمظهر هذه السلطة الخفية في بنية اجتماعية ثقافية تأخذ أحيانا أشكالا مؤسساتية [جمعية، منتدى، أو غيره]، لكنها عموما تبقى مجسدة في تكتل له مواصفات تجريدية جامعة.
من الأكيد أن هذه الجماعات المؤولة تضم كتابا ومؤلفين يساهمون كذلك في ترسيخ مواضعات ومعايير معينة خاصة بالجماعة التي يختارون الانتماء إليها. كما أن المعايير المستبطنة من طرف أعضاء الجماعة تمارس إكراها اختياريا، إذا جاز التعبير، ليس فقط على مستوى القراءة ولكن أيضا على مستوى الكتابة فتنتج عن ذلك علاقة تبادلية شبيهة بتلك الموجودة بسوق السلع المادية والخدماتية. يصبح الكتاب سلعة ثقافية، خاضعة لقانون العرض والطلب. إن القيمة التبادلية للكتابة تحددها القراءة كما أن القيمة الفنية هي متضمنة في القيمة التبادلية ويصبح بذلك عالم الإنتاج الثقافي شبيها بعالم إنتاج السلع المادية من حيث إنها عرض يحتمل القبول والرفض، وإن اختلفت المستويات والدلالات.
يستوجب هذا الطابع الليبرالي ضرورة الترويج للمنتوج الثقافي والعمل على تقديمه للقراء كعمل جدير بالقراءة. كل جماعة مؤولة [قراء وكتاب] تروج للمنتوج الثقافي الذي يستوفي شروط الجودة من حيث الكتابة والإبداع في تصورها عبر الإعلام والندوات والمجالس والجامعات. قد تلعب الظرفية التاريخية والسياق دورا في نشر كتاب ما لكونه أثار نقاشا حول مضمونه أو شكله الفني والإبداعي وخلق هلعا أخلاقيا أو أيديولوجيا والأمثلة كثيرة على ذلك. إذا كان هذا النوع من الترويج استثناء، فالثابت في هذا الأمر هو خضوع المنتوج الثقافي [الكتاب] في انتشاره لمدى قدرة الجماعة المؤولة على الترويج له.
إذا كان الكثير من الكتاب، وحتى القراء، يرفضون النظرة المابعد حداثية التي تخضع المنتوج الثقافي لقانون التبادل الليبرالي على اعتبار أنه سلعة كباقي السلع وإن اختلفت بمدى توفرها على قيمة إبداعية كامنة، فإن ذلك الرفض ناتج عن تصور خاص[حداثي] يرى أن المنتوج الثقافي مستقل من حيث القيمة عن الشرط الاقتصادي بصفته إبداعا له قيمة فنية كامنة ومستقلة عن العرض والطلب.
لكن هناك سؤالا يطرح نفسه، هل يمكن تجاوز المواضعات والتعامل مع النصوص على أساس تجريبي عملي عبر القراءة بحيث إن القراءة الفعلية هي التي تحدد قيمة الكتاب بغض النظر عن المواضعات المستبطنة والتي تتحول أحيانا إلى لاوعي قارئ؟ إن تحرير القراءة من الأفكار المسبقة هو إجراء ديمقراطي في أساسه لأن فرض المعايير، وإن كان واقعا، لا يمنع القارئ من الانفتاح على النص بصفته نصا يستدعي القراءة سواء تطابقت بنيته الإبداعية وطرحه الثقافي مع توقعاته وقناعته أو خالفتها. أما التكتل في جزر متناثرة ومنفصلة عن بعضها فهو لا يخدم الثقافة ولا يحررها من هيمنة الصوت الواحد.
يبقى الكاتب كذلك مسؤولا عن تحرير هذه الجماعات المؤولة من انغلاقها بحيث إن الكاتب كمبدع هو من يخلخل الثوابت أينما كانت، حتى ثوابت القراءة. إذا كان الكاتب مبدعا بالفعل، فقلبه للمواضعات وخلقه للقطيعة وفتح إبداعه على التعدد هو الذي يجعل منه مثقفا قادرا على تحدي قانون التبادل الثقافي/التجاري في جزء منه، وغير مبال بمآل الكتاب أو المنتوج الذي يطرح نفسه للعرض في السوق الثقافي/التجاري. قيمة الكتاب الفنية [بالمعنى الأخير أعلاه] هي التي تزيد من قيمته التبادلية وتحميه وتروج له. لكن بالمقابل، لا بد أن يكون القارئ مبدعا في قراءته بحيث إنه يبحث دائما عن كتاب يغريه بالإستكشاف ويسائل يقينياته ويخلخل المواضعات الجامدة التي تتحول مع مرور الوقت إلى بركة ماء آسن.
*أستاذ باحث في جامعة أبو شعيب الدكالي/ المغرب
ضفة ثالثة