سلطة النص ومضايق التلقي/ رشيد الخديري
ثمة دوال إبداعية تستدعي التأمل والنبش في مكوناتها، في أفق تعميق النقاش حول الظواهر الأدبية القديمة والمستحدثة، ولعل نظرية التلقي تنطرح منذ أمد طويل بشكل إشكالي، مربك وملتبس، ومرد ذلك- في ما أعتقد- المناهج المشعبة والمتفرعة في الآن نفسه عن مجموعةٍ من النظريات، سواء العربية أو الوافدة.
نستطيع القول في خضم هذه المخاضات العسيرة لمفهوم التلقي، إن الظاهرة الأدبية ظلت محكومةً بآليات التفكيك والبناء، انطلاقاً من خصوصيات المدارس المتعاقبة على النص، بدءا بما يمكن تسميته بـ»النقد التقليدي الكلاسيكي» الذي لا يعدو أن يكونَ مجرد شرفة صغيرة نطل من خلالها على ذات المؤلف، مع أن هذا النوع من التلقي واجهته «البنيوية» بمزيدٍ من التهكم، بدعوى أنه يعملُ كلياً على «تسطيح» العمل الأدبي، من دون النفاذ إلى بنيته النصية ودواله المتشابكة، ومهما يكن، فإن مضايق التلقي في حدوده القصوى، قد عمل على استكناه النص الأدبي، بغض النظر عن هذه الأشياء، صحيح، أن النظرية البنيوية، حاولت أكثر من مرة مناقشة البنية الكلية للنص، وليس ذات المؤلف فقط، إلا أنها لم تجب على كل الأسئلة التي تهم «البنية العميقة» للنصوص.
نظرية التلقي ظلت حاضرة بسلطتها داخل النص، مهما كان الاختلاف قائماً منذ الستينيات حول حقيقة العمل الأدبي، وطرق تأويله، بعيداً عن النظرية الجمالية- المعيارية التي تحكمت في تاريخ الدراسات العربية القديمة، ونعني بذلك، نقد الجزء دون الكل، ثم ما يتلوه من تجميع للمتفرقات في أفق تشكيل ملامح النص بأكمله، ومع ظهور النظريات الوافدة، أصبح العمل الأدبي خاضعا لأنساق معرفية ونقدية وعلمية جديدة. اليوم، وأمام هذه «الاختراقات» التي تعرفها نظريات التلقي، كنتاج طبيعي لتطور الفكر الإنساني، نجد أنفسنا مجبرين على إعادة قراءة الواقع الثقافي، ومحاولة فهم ما يجري في إبدالات النص وعلاقاته بنظريات التلقي.
تالياً، يبدو الاحتماء بنظرية محددة أثناء تلقي النص، ضربا من العبث في محاولةٍ لتأويل دواله الجمالية والتعبيرية، فكل نظرية، سواء أكانت شكلانية روسية أو بنيوية أو تفكيكية، أو تدخل ضمن النقد التقليدي، لها من النواقص، ما يجعلها عاجزة عن تمثل النص بأكمله، وفعلاً، لا يمكن لنظرية في التلقي، أن تناقش نصا على حقيقته، وهو الذي استنبت في تربة أخرى مغايرة ومختلفة، الأمر الذي يُحدث إرباكاً في عملية التواصل بين المؤلف والمتلقي، من البديهي، أن يكونُ التواصل هو الهدف المنشود للتلقي، ونحن على يقين تام أن ثمة مضايق تحجب الرؤى عن النص، وأن هناك استغلاقات نصية لا يمكن أن تفتح قنوات التهوية ما لم تتم قراءة النص بنوعٍ من التبصر والتأمل، وبعيداً عن إغواء اللغة وتمكنها من المتلقي.
حدد غريماس مفهوم التلقي لسانياً، وهكذا فعل معظم اللسانيين واللغويين، على اعتبار أن التواصل ظاهرة لسانية، تخضع بالضرورة لمفاهيم وتصورات تنبني على لغة الإشارة، بمعنى آخر في عالم بنيوي ولساني محكوم بالدوال والمدلولات، وسبق أن أشرنا إلى ذلك حين تم التطرق إلى مفهوم النقد التقليدي ونظرته إلى العمل الأدبي، وكيفما اتفق، سعت النظريات الجديدة إلى التعمق أكثر في بنية النص، وعدم السقوط في السطحية، مهما يكن، فإن التلقي وإن اختلفت المضايق- يبقى عملية مركبة، وخاضعة لهوى النص وسطوته، مهما حاولنا تبرير ذلك بكثرة المدارس والاتجاهات النقدية واللسانية واللغوية.
لنتَّفِقْ أَوَّلاَ، على أنَّ الرّاهنَ الشِّعْرِي العربِي يبدو مُلْتبساً، وبدرجةٍ أقل هناكَ حالة فوضى ناتجة عن هذا الصِّرَاع الخفي المحتدم بين الأجْنَاس، ظَنِي، أنَّ الشِّعرَ مازَال ممْكِناً.. لأنَّهُ ببساطةٍ حالةَ وجودٍ وتكريسٍ لفيوضاتٍ جَمَالِية، فالأجْنَاسُ الإبدَاعِية الأخرى، وأعني تحديداً تلك المتعلقة بالسرود مثل، الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، استفَادَتْ بشكلٍ أو بآخرَ من جَمَالياتِ الشعر، في لغتهِ ومجازاته، في سفره المتخيل نحو مجاهيل الكتابَة، صحيح، أن ثمةَ هوّة آخذةٌ في الاتساع بين الشعر وجمهوره، وأن هناك انحسار للأفق الشعري، لكن، ذلك لا يعدو أن يَكونَ الشجرة التي تَحْجبُ غابةَ الحقيقة، والحقيقة التي لا يُمْكنُ حَجبها بغربالٍ، هي أن هناك أزمة قراءة ككل، وتشملُ كل الأجناس الإبدَاعية.
شعرنَا العربي الآن يعيشُ متاهةً حقيقيةً، علينا أن نعترف بذلك، ولم يعد كما كان من قبلُ قوَّتُه في جماليتهِ، وأيضاً في «جماهيريته» مُقارنةً مع الأجناس الأُخرى، ثمةَ تحولات في المنجزِ الشعري العربي، لاسيما بعدَ خروجهِ من الطابع الهُتافي الاحتجاجي الذي ميز العديد من التجارب الشعرية في الستينيات والسبعينيات إلى آفاق رحبةٍ من الاختراقِ والجمال، أجل، شعرنا العربي المُختصر في «قصيدة» لم يعد مُحرضاً على استضمار الوعي الجمالي وتقبُّله في سياقات من المغايرة والاختلاف،
تالياً، وتأسيساً على الكثير من النِّقاشات المُتَفَرِّعَة «المقترح الشِعْري» العربي، ومُلازمته للشفهي في تحديد الدوال الشعرية، أمكننا القول، إن الوعيُ الجمَالي سمةٌ من سماتِ الشعر منذ بِداياته الأولى، وإنه ليس بمقدورنا بلوغ تلك النظرة المتعمقة في الأشكال والأقانيم، ما لم نخلق هذه الدينامية المفتوحة والمتحركة دوماً نحو المساءلة والتقويم،» فالنقد كما يقول الناقد عقيل المهدي يمضي قدماً، وبلا هوادة ليجمع مادةً جديدة، وإمارات جديدة للمعرفة، وما هذه الحركة سوى الجمالية بعينها»، بواسطة النقد إذن، نستطيع أن نردم «الهوة» بين النص ومتلقيه، ونُقرب المسافات والأذواق، ولا يخفى على كل متتبع للتجارب الشعرية، أن ثمة أفق لانهائي لإعادة الدفء للعلاقة بين الشاعر والقارئ، رغمَ – ما يُثار هنا وهناك- عن «نهاية» مُحتملَة للزمن الشعري.
– هل حقاً، زمن الشعر آخذٌ في الزوال؟
لعلنا بهذا السؤال/ الإشكالية نعود إلى الصفر، ونحنُ نُحاولُ الوصُولَ إلى «النهر»، بُغيَةَ وضع تصورات حول المقترح الشعري مهما بدا ملتبساً وقاتماً، فـ»القاعدة القديمة: العالم لا يتغير، باطلة، ومثلها جميع المواصفات المتعلقة بالإنسان، الشاعر ذو موقف من العالم، والشاعر في عالم متغير، يضطر إلى لغة جديدة… إنه في حاجة دائمة إلى خلق دائم لها، لغة الشاعر تجهل الاستقرار، لأن عالمه كتلة طبيعية» بتعبير الشاعر المُجدد أُنسي الحاج.
كاتب مغربي
القدس العربي