سمر دياب: ما أحوجنا إلى أي شيء لا يموت
بيروت ـ رائد وحش
لا تكتب سمر دياب، هي تنكتب، بمعنى أنها تستخدم كيانها وحياتها ووجودها، بل كلّ كلّها، لأجل نص، كما يفعل سواها في إنتاج حيواتهم. تكتب كما تعيش، وتعيش كما تكتب، لا حدود فاصلة لديها بين الكتابة والحياة، هما قماشة واحدة.
سوريا، لبنان وفلسطين، ليسوا أصولاً متعددة، هم أصل واحد يحيا في مجتمعات مختلفة نسبياً نشرت حتى الآن مجموعتين هما “هناك عراك في الخارج” و” متحف الأشياء والكائنات”. وتالياً نص الحوار:
هناك سؤال دائماً ما يتكرر: سمر دياب لماذا كل هذا الجنون..؟ هل تحاولين جعل حياتك اليومية قصيدة..؟
أي جنون؟ أرى حياة تعاش كما ينبغي وكما قدّر لها. حياة تذهب إلى أقصى الشعر لأن هناك، على الضفة المقابلة، لا يوجد سوى البلادة وعالم استهلاكيّ تافه، لا يفقه المعنى من أن تكون مخلصاً ليُتمك الوجودي هذا. الحياة/ اللاقصيدة هي موت معلن وصريح بالنسبة لي، ولستُ مستعدة للموت الآن. أنا أكتب كما أعيش، أو أعيش كما أكتب، دون جدار الفصل العنصري بين الشعر والحياة. ما من قصيدة حقيقية إلا وتحتاج إلى حياة حقيقية طازجة وحادّة، ومعجونة بالتجربة. يسمّون هذا جنوناً، فليكن، لكني لست مجنونة، بل عين مصابة بالعين، تربكها كل تلك المفارقات الحياتية والإنسانية والوجودية التي تواجهها طوال الوقت. أشبه راداراً على رأس قبر يلتقط تفاصيل الاحتمالات الكثيرة للبشر، ولكوننا –كفصيلة واحدة– مختلفين إلى حدّ يستطيع الواحد منا حبّ وقتل الآخر في نفس الوقت، حياتي اليومية ليست خارج هذه المعادلة الشعرية، ربما تساعدني في هذا الوحدة الاختيارية التي أعيشها منذ سنوات، وبالتالي فسحة ممارسة الشعر لا إرادياً، تتسع شيئاً فشيئاً حتى تصبح هي الحياة.
ماذا أعطتك أصولك المتعددة، ولماذا نؤسطر الأصول وتنوع التكوين رغم أن مكونات عادية، وأصولاً متشابهة يمكن أن خلفية عادية لإنتاج غير عادي؟
سوريا، لبنان وفلسطين، ليسوا أصولاً متعددة، هم أصل واحد يحيا في مجتمعات مختلفة نسبياً. خصوصية عمق وعزلة وتحديات المجتمع السوري، الذي ولدت وعشت فيه حتى أوائل سنين مراهقتي، تركتْ أثراً ما في شخصيتي وكتابتي، ثم انفتاح وحريّات وهستيريا وعبث المجتمع اللبناني، وكذا قهر وحلم وإصرار الفلسطينيين على قضيتهم المحقة. الأسطرة يمكن أن نحدثها لأيّ شيء نحبّه طالما نملك أدواتها. وأنا أحبّ هذا النسب بإخلاص وإن كان نتاج الصدفة أو مجرّد أقدار. لا علاقة لما سميته بالإنتاج غير العادي بالأصول أو الانتماءات، فهو يحدث في أي مكان وأي زمان. الأمر يقع خارج الشعر والنتاج حين يتعلق الأمر بحديثي عن هذه البلاد. هي بالنسبة لي جذر منهمك في صناعة أهواله. ثالوث كرزيّ طاغٍ في مأساته، كما في أفراحه كما في نبرة صوته العالية. بلاد حيّة ربما أكثر مما ينبغي، ولذلك لا أفقد الإيمان بهذا الشغف بالبكاء وبالنكتة وبالشعر وبالعشق وبالثورة فيها لحظة. أسطرتها لا أصنعها أنا كشاعرة ولا أريد منها شيئاً. تحدث الأسطورة وحدها حين تصرّ عينك على رؤية الماء الذي في قلب الحجر. أما ماذا أعطاني كل هذا، فلم يعطيني أي شيء سوى السخرية. السخرية منها ومن أسطرتها في الوقت الذي لا أملّ من ترداد أني لا يمكن أن أكون سعيدة حقاً خارج سورها الشائك. علاقة شائكة بيني وبينها، لكنها بسيطة ولا تحتمل الكثير من التأويلات، لا هي سادية ولا أنا مازوشية.. هذه ببساطة علاقة حبّ خالص.
يبدو منطقك غريباً، حين نقرؤك نشعر أنك تفكرين بالأشياء بشكل مقلوب، لكننا نقول إنه صحيح، معها حق.. إلى أي حد تستطيع الكتابة أن تخلق منطقها الخاص المناوئ للمنطق العام؟
الكتابة تستطيع أن تفعل أي شيء. أدخل إلى الحياة كدودة، وإلى الكتابة كإمبراطورة. أقلب المنطق/ الطاولة كما أشاء، أخلق وأبني وأهدم ثم أملّ، فأخلق وأبني وأهدم من جديد. هذا ملعبي ووسيلتي وغايتي. أفكر بالمقلوب؟ ربما.. لا أعلم ما هو الصحيح من المقلوب، هذه تصنيفات قاتلة لأي عملية إبداع، لكني أحاول أن أجد إجابات تستقرّ في الشعر، فكما قلت سابقاً؛ كل شيء خارج الشعر بليد لدرجة لا أستطيع احتمالها. المنطق كلمة جاحدة، وهي لا تعترف بالكتابة أصلاً، المنطق يعترف بنفسه فقط، كذا تفعل الكتابة، لا تعترف سوى بنفسها وبمخلوقاتها وبقوانينها التي تنسفها كل لحظة.. حرة ومزاجية ولا شأن للعام بها، أو للقارئ بشكل أكثر تحديداً أن يقبل أو يرفض، يحبها أو ينفر منها، يمدحها أو يهجوها، لكنه عنصر ثانوي في اللحظة التي تقرر فيها الكتابة أن تخلق منطقها وعوالمها التي قد تكون في لحظةٍ النقيض تماماً للمنطق العام ولعوالمه. شرعيّة، أو التفاعل الايجابي للآخر مع هذا الفعل الانقلابي، مردّه سأم هذا الآخر من حقائق جاهزة ومعلّبة لم تستطع أن تحقق له إجابة أو متعة. لذلك يشعر القارئ أني على حق في الوقت الذي قد أكون فيه مخطئة تماماً. لكن الأمر في الشعر لا يقاس ضمن معادلة الصواب والخطأ. يفهم القارئ أني لا أقدّم إجابة له ولا أفرض منطقاً، بقدر ما أحاول تنبيهه لمساحة أخرى في داخله، يستطيع هو أيضاً أن يلعب مع الأفكار فيها ما يشاء. تلك الهوة السحيقة بيننا وبين العالم ومنطقه ومسطرته الحديدية وصرامة موعد الموت فيه، لا يمكن أن يردمها سوى الكتابة، تلك التي تجعل العالم بهلواناً حين يقرر أن يكون سفّاحاً.
تقولين: “نحن، أباطرة الأشياء الصغيرة، قوم لا نساوم على هوامشنا أبداً”.. ما قيمة هذه الأشياء الصغيرة برأيك؟ والذي تقدمه لنا؟ ثم ألا يمكننا جعل “الأشياء الكبيرة” بحميمية الأشياء الصغيرة؟
لا، لا يمكن ذلك. الحميمية لا تتحقق مع احتمالات النسيان. الأشياء الكبيرة والعامة هي دائماً عرضة للنسيان أو للقفز عنها حين نصطدم بأشياء كبيرة أخرى. تبقى الهوامش التي تضجّ بالتفاصيل، التي بدورها لا تطيح ببعضها بقدر ما تتعايش مع بعضها لتشكّل خوذة تنفع في درء ضربات تلك الكبيرة. الأمر أشبه بنسر يمرّ من فوق رأسك للحظة، وعصفور يقرر أن يدخل إلى بيتك تحديداً دون موعد. أميل للهوامش ولما يحدث هناك من حيوات صغيرة لا موت فيها على الإطلاق. لذلك قلت إني لا أساوم عليها أبداً، لأنها لا تموت ولا تسمح لك بالموت طالما أنك في داخلها وهي في داخلك. ما أحوجنا إلى أي شيء لا يموت.
الكتابة بالنسبة لك مساحة للاعتراف؟ هل الصدق هو فقط ما يحتاجه الشعر؟
الكتابة خارج الاعتراف هي ترف وفسحة وواحة، وإلى ما هنالك من صفات ترفضها الكتابة أصلاً. الاعتراف هو أن تخرج عارياً بكل عوراتك وندوبك إلى خارجك. أن تقول للجميع: ها أنذا، فليحبني من يشاء، وليكرهني من يشاء، لكن ها أنذا. الاعتراف هو ضرب من الجنون، من اليأس أيضاً، من الثورة والإحساس بالعجز. هذا لا يكفي قطعاً ليصبح المرء كاتباً أو شاعراً، فهناك الموهبة والانفعال والتجربة وإلخ . لكني شخصياً لا يمكن أن أعترف بكاتب ما لم يصلني اعترافه هو أولاً. أريد أن أعرف من هذا الذي يكتب؟ ما الذي يدور في ذهنه؟ ما هو ألمه؟ ما هي سعادته؟ أين تلك الندبة التي نزّت شعراً؟ الكتابة ليست ضرباً من ضروب التسلية ومجرد خلق أحداث وشخصيات وبناء جمهور على مقاس ما يريد أن يسمعه. أنا لا أؤمن بمن ينظر إلى الكتابة على أنها فعل ينتهي بانتهاء النصّ. ويضجرني الكاتب الذي يستثني نفسه من عملية فضح العالم التي يتوهم أنه يقوم بها. أعرّف الشعر على أنه ردّة فعل وليس فعلاً، إن أزحنا الصدق منه فسيبدو كصاحب مؤسسة دعائية، مدّعياً وسمجاً.
تخيّم على ديوانكِ الجديد “متحف الأشياء والكائنات ” نبرة سوداوية حادة. هل هي إعلان يأس برغم قولك بأنك من “جيل الحرية”، أم أن لـ”السوريالية السوداء” التي تصفين نصوصكِ بها معنى آخر لا يعترف بالتقسيمات الحادة الاعتيادية تشاؤم/ تفاؤل؟
أعلن يأسي في كل لحظة لأعود وأعلن عكسه في اللحظة التي تليها مباشرة، وأحياناً يحدث العكس. لا أميل إلى تقسيمات التشاؤم والتفاؤل. أعيش كليهما وأذهب بكل منهما إلى تخومه الأقصى. وهكذا أحصل على وقت يكاد يطفح بضجيجه حتى وأنا معزولة تماماً عن الخارج. في مجموعتي الأخيرة حاولت نقل صورة العالم في داخلي. هكذا أراه، هكذا أرى كائناته وأشياءه، وهكذا يريدون مني أن أراهم. في هذه المجموعة لم أكن أفكّر بكتابة نصّ شعري، سوريالي أو يومي أو أي شيء كان. كنت ألهو فقط، مع نفسي ومع القارئ ومع من كتبت عنهم ولهم. في هذه المجموعة تحديداً لم يحدث أن فكّرت بالشعر وتنظيراته. كنت فقط أتبع الرائحة.
بعد مجموعتين شعرتين هل تشعرين بالرضا عن سمر الشاعرة..؟
لم يكن في نيتي أن أصبح شاعرة كي أشعر بالرضى الآن أو لاحقاً. لطالما كان هذا الموضوع مربك بالنسبة لي. هذا سؤال لا أعرف كيف أجيب عليه لولا مقولة لبروتون ستنقذني هنا حين يقول: “هذا المسلك اختارني بحرية.. فكرة النجاح أو الفشل عند أخمص قدميّ”.
سمر المرأة، مثار جدل في المحيط الاجتماعي، وفي المجتمع الافتراضي أيضاً… هناك سرديات كثيرة عنكِ، بعضها يذهب إلى الإشاعة… لماذا نرجم بينما نحاول تقديم صورتنا العادية والطبيعية؟
ربما لأن الآخر لا يحتمل هذا الكمّ من التخلّي عن إرضائه، وربما لأنهم اعتادوا على نموذج المرأة التي تقدّم الصورة المرضية عنها لكونها امرأة، ولكونها كاتبة في نفس الوقت. وربما لأن حياتي صاخبة كثيراً ضمن كانتونات بشرية تعتاش على التلصص وإطلاق الأحكام، وما زالت تعتبر المرأة تهمة وأفهم أن تثير جدلاً ما. احتمالات لا تنتهي ولم تعد تعنيني منذ زمن.