أنور بدرصفحات الثقافة

سمر يزبك في ‘تقاطع نيران’ تعيد توثيق الذاكرة ‘من يوميات الثورة السورية’


دمشق ـ ‘القدس العربي’ ـ من أنور بدر: ‘تقاطع نيران’ نص سردي متقطع، يأخذ من التوثيق ما يسميه ‘من يوميات الثورة السورية’، ويأخذ من المذكرات أن الكاتبة تسجل تجربتها في اللحظة التي تكتب فيها تلك اليوميات.

ويأخذ من القصة القصيرة الكثير من البنية الحكائية لحالة أو حدث، ويأخذ من الرواية تلك التراجيديا لنصوص تجمعها الكاتبة عبر ضمير المتكلم السارد الذي يجمع الحكايات في بؤرة أرادتها الكاتبة منذ وضعت العنوان، بل قادتنا إليها شئنا أم أبينا، وحدة الإشكالية أو التناقض التي عانت منها ككاتبة وكإنسانة في رحم الثورة، وفي الحالة العيانية السورية المعقدة، حيث تتعدد الانتماءات، وتتباين الأيديولوجيات، وتبقى سمر يزبك/ المثقف السوري سيزيف المرحلة، أو حامل الصليب باتجاه الجلجلة، ليس من خلاص فردي لنا، ومع ذلك علينا أن ندفع الثمن لنكسب خلاص الشعب وخلاص سوريا.

‘تقاطع نيران’ نص أدبي بامتياز، يسعى لتقديم شهادة على مرحلة انتقالية لن تتكرر في العقود التالية لهذا الحدث، شهادة على تراجيديا نحن وقودها ونحن شهودها، نصّ لا ينساق باتجاه التنظير السياسي، مع أنه في المحصلة العامة يقول الموقف السياسي، ولا يذهب في البحث عن البطولة، فالكاتبة تعترف بخوفها وتشوشها، تعترف بيأسها وعجزها حين تقول: ‘لا أستطيع أن أكتب. لا أستطيع أن أشتغل على الأرض مع الشباب. لا أستطيع أن أفعل شيئاً. أستطيع فقط أن أتألم’. لكنها في ألمها تقدم للقارئ صورة عن بطولة شعب أراد الحرية، وتسمح الكاتبة لذاتها أن تلعب في مستويات اللغة، بين ما تقوله هي في تجربتها وفي تجارب سعت لتوثيقها، وبين ما تنقله في لغة هؤلاء الذين عاشوا تجاربهم المأساوية. وتسمح لها صيغة اليوميات وتجربتها في الكتابة الصحفية أن تتدخل بين نص السارد وبين النص المسرود، كما تستفيد من تجربتها الروائية حين تذهب وراء التفاصيل، لتعيد تشكيلها وتوظيفها ضمن المشهد الذي ترسمه بواقعية الكاميرا وخبرة السيناريست الذي يعرف أين يقطع في المشهد وأين يبدأ الحوار.

يستند هذا العمل في مرجعيته الفنية إلى حجم الحصيلة الإبداعية للكاتبة سمر يزبك التي تضعها بين أغزر الكاتبات السوريات ابداعا، فهي التي بدأت أولى اصداراتها القصصية ‘باقة خريف’ عام 1999 تلتها مجموعة ‘مفردات امرأة’ في العام التالي، ثم قدمت ثلاث روايات حتى الآن هم على التوالي: ‘طفلة السماء’ و’صلصال’ وأخيرا ‘رائحة القرفة’، وقدمت كتابان نثريان: أحدهما عن الأحلام باسم ‘جبل الزنابق’ والآخر نقدي عن ‘غادة السمان’، لتأتي تجربتها الجديدة في نص سردي على شكل يوميات، بعنوانين: ‘تقاطع نيران’ وآخر فرعي ‘من يوميات الثورة السورية’، الذي صدر هذا العام عن دار الآداب في بيروت وترجم إلى العديد من اللغات الحية كالفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية وسوى ذلك أيضاً. كما اشتغلت الكاتبة كمعدة برامج تلفزيونية، وكتبت سيناريوهات أفلام قصيرة ومسلسلات بلغت 13 عملاً، وحظي فيلمها ‘سماء واطئة’ بجائزة أفضل سيناريو من الأمم المتحدة والتلفزيون السوري.

في كتابها ‘تقاطع نيران’ تسجل يوميات الثورة السورية خلال الأشهر الأربعة الأولى لانطلاقتها، ما بين آذار/ مارس وبين تموز/ يوليو، في هذه اليوميات يختلط ما هو شخصي بما هو عام، تختلط تفاصيل الحياة التي عاشتها الكاتبة بتفاصيل الثورة التي انتمت إليها منذ اللحظات الأولى، عاشت أغلب تلك الأحداث أو سعت إلى توثيقها من آخرين عاشوها، كما تختلط السياسة بالمعاش واليومي في حياة الناس، وتختلط الحكايات التي ترويها بالشهادات التي توثقها، بتجارب الاعتقال والتحقيق التي عاشتها الكاتبة، لتقدم لنا ملحمة من الوجع الإنساني الذي نعيشه وعاشته سوريا منذ تلك الفترة الزمنية وحتى الآن.

تقول الكاتبة في تقديم يومياتها: ‘هذه اليوميات ليست توثيقاً مباشراً للشهور الأربعة الأولى في الانتفاضة السورية، إنها مجرّد أوراق استعنْتُ بها في أيّامي على مواجهة الخوف والذعر، وكذلك مراودة الأمل، لكنها كتابة حقيقية، واقعّية، ولا تمت للخيال بصلة’. الخوف من الاعتقال، الخوف من القتل، الخوف على ابنتها الصغيرة، الخوف من كل ما يجري في سوريا، والذي لم يدخل أقبية المخابرات لن يعرف معنى هذا الخوف الحقيقي، خوف بطعم الألم ومرارة العجز، في تلك الأقبية الموبوءة برائحة الموت وصوت الجلادين، وفي الحالة العيانية لسمر يزبك، يكون الاتهام بالخيانة والعمالة والتعهير وأشياء أخرى كثيرة بانتظارها، تتحدث عن تفاصيل اعتقالها في أول مرة، ونظرة الضابط الكبير وكأنها ‘حشرة مفعوسة’، ثم صفعة قوية تلقيها أرضاً مع بصقة عليها وشتيمة ‘يا جربانة’ لينتهي المشهد بقوله ‘انتِ عار على العلويين’.

ربما تتضحُ الصورة هنا، فأن تكون مع الثورة وأنت من الطائفة أو الطوائف الأخرى فتلك مصيبة برأيهم، أما أن تكون مع الثورة وأنت من الطائفة العلوية، أي طائفة النظام، فالمصيبة أعظم، لكن ما هو أسوا أن تكون مرفوضا من الآخرين الذين أرادو الوصاية على الثورة باسم الدين، حيث تخبرنا: ‘رسالة غريبة وصلتني: أيها الكافرة السافرة. إن الثورة السورية لا تريد بين صفوفها علوية كافرة مثلك’! فأين يكون العلويون الذين رفضوا النظام الطائفي؟ إنه المعنى الذي قصدته الكاتبة في عنوانها ‘تقاطع نيران’ مع تأكيد أنها قررت التمرد على ‘آلة القمـع الايديولوجية الطائفية’، وانتمت إلى انتفاضة الشعب التي بدأت ‘سلمية.. سلمية.. لا علوية.. ولا سنّية’ وقادها النظام إلى عنفه المقصود والوحشي، ومع ذلك أرادت أن تصنع حريتها بالانتماء الى الثورة.

ففي كتابات يزبك دائما جرأة في تناول موضوعاتها بالمستوى الاجتماعي وخصوصيات المرأة، وجرأة موازية في مستوى السياسة وانتقاد السلطة وممارساتها، فهي قبل الثورة فضحت في روايتها ‘صلصال’ المؤسستين العسكرية والأمنية، لكنها الآن انتقلت إلى مواجهة، ففي زمن الثورة غير مسموح لك بالمناطق الرمادية، فإما أن تكون مع الثورة أو مع النظام، وحين تختار خندقك عليك أن تواجه الخندق الآخر، وفي إشكالية الكتبة تقع في المنطقة الحرجة منطقة ‘تقاطع نيران’ الطرفين، دون أن تسمح لنفسك بالانزلاق في الخندق الذي ترفضه، خندق القتلة.

يُفاجئنا كقراء تلك الحميمية التي تكتب بها امرأة تلقت تهديدا يطال ابنتها الوحيدة، امرأة تسحب من شعرها بين زنازين المعتقلين لترى حجم الوحشية التي يمارسها السجان، فهي السلاح الوحيد الذي يمكن به ترهيب الناس، امرأة تعيش كل هذا الحجم من القلق والذعر، فتقول ‘أفيق وأنا أتلمّس جلدي. كلي اعتقاد أني شخصية في رواية. أشرب قهوتي، وأفكر أنني أفكر بامرأة سأكتب عنها رواية. أنا رواية. أنا أكثر من رواية حقيقية يمكن أن أكتبها في يوم من الأيام’ هكذا قررت الصمود، ومضت في يومياتها تحدثنا عن القناصة: ‘أمشي، أفكر أين يمكن أن يكون القناص الآن. أفكر أنني سأكتب رواية عن قناص يراقب امرأة تمشي بهدوء في شارع’. وتحدثنا عن تفاصيل أخرى حولتها إلى يوميات وإلى مشاهد، وكلها مشاريع روائية، تقاوم من خلالها الإحساس بالعجز وتقاوم من خلالها الشعور بالخوف، وتمضي في صمودها وفي انتمائها للشعب وقيم الثورة التي تطالب بالحرية ونهاية الاستبداد، بل تمضي أكثر في نومها أو أحلامها: ‘سأندس في نوم القتلة، أسألهم: هل حدقتم في عيون القتلى حين اقتراب الرصاص من صدورهم؟ هل لمحتم ثقب الحياة؟’.

وفي نهاية يومياتها تقول يزبك ‘النار تطهّر، النار تجلو، النار إما أن تحوّلك إلى رماد، أو تصقلك، وأنا في انتظار الأيام القادمة كي أعيش الرماد، أو أرى مرآتي الجديدة’.

* ‘تقاطع نيران’ رواية سمر يزبك

دار الآداب ـ بيروت ـ لبنان 2012

الغلاف للفنان يوسف عبدلكي

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى