صفحات الحوار

سميح شقير.. غرفة صغيرة في المنفى/ طارق حمدان

 

 

باريس

غادر سميح شقير إلى باريس قبل بضعة أشهر من اندلاع الثورة السورية، وحالفه الحظ بأن يفلت من المصير الذي طال العديد من الفنانين والمثقفين الذين دعموا التحركات الشعبية وانضموا إليها. “تلمّس قعر الخراب” قبل مغادرته البلد بأشهر، في الوقت الذي ازداد عليه الضغط والإقصاء والتهميش من قبل النظام السوري، فاتخذ قرار الرحيل، وأعلنه في مقال كتبه حينها يشرح فيه أسبابه.

على مدار أكثر من ربع قرن من الموسيقى والكتابة، ظلّت أغاني سميح شقير ملتصقة بشخصه وبصوته “اللي ما بينصاع.. ما بينشرا.. ما بينباع”. ابتدأت مسيرته الفنية عام 1982 حين شارك في “المهرجان الوطني الجزائري للأغنية الملتزمة”، ليُصدر بعدها أول ألبوماته “لمن أغني” (1983)، ثم تتوالى الأعمال دون توقّف، بحيث يحمل في جعبته اليوم ما يزيد عن 11 ألبوماً، بالإضافة إلى وضعه موسيقى تصويرية للعديد من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، كان من أبرزها مسرحية “خارج السرب” للشاعر الراحل محمد الماغوط.

يخبرنا ابن مدينة السويداء بأنه دخل عالم الموسيقى من باب الأدب ومحاولات القراءة والكتابة في طفولته: “الرواية كانت مفتاح علاقتي بالكتاب، وبالثقافة عموماً، وأغنت لدي مهارة التقاط الحدث وطريقة التعبير عنه، وهي ما أعتبره الحامل الأساس لتجربتي الغنائية، التي قدّمتُ من خلالها قصص الناس مصاغة على شكل أغانٍ”.

لم ينتمِ شقير إلى أي حزب سياسي، بل فضَّل أن يكون مستقلاً، وكان قد اختار المواجهة في سنٍّ مبكرةٍ، بدءاً بمواجهة البنية الاجتماعية التقليدية التي كانت تحيط به وتمنعه “من أخذ خيارات أكثر حرية”، مروراً بـ”التحدي الوجودي بعد الخروج من منزل العائلة مبكّراً في ظروف بالغة الصعوبة”، وصولاً إلى “المواجهة مع الفكر السلطوي والقمعي الذي ميّز الحياة السياسية في سوريا لزمن طويل، والتحديات التي فرضها الخيار الفني”.

ورغم التقشّف في التوزيع الموسيقي الذي نجده في معظم أعماله، إضافة إلى الجودة المنخفضة في التسجيل الموسيقي، إلا أنّ تكريس الغناء للحرية والحب والقيم الإنسانية ميَّز أعمال صاحب “لو رحل صوتي”، ومنحها صفة الأصالة والفرادة، كما جعلها تفرض نفسها كإضافة إلى المكتبة الموسيقية العربية. يُعلق شقير حول ذلك: “الرضا مفهوم نسبي، وما يرضيك اليوم قد لا يرضيك غداً، غير أني راضٍ عموماً عن الألحان والنصوص التي قدّمتها، ولستُ راضياً عن الشكل الفني والتوزيع الموسيقي اللذين ظهرت فيه، وحتى عن جودة التسجيل التي سُجّلت بها معظمها”. يتذكر “الصعوبات البالغة وضعف الإمكانات الإنتاجية” التي رافقت مسيرته الفنية نظراً لكونها اعتمدت على إمكانات ذاتية، ويضيف: “إنّ الاندفاع لإخراج هذه الأعمال، بتوقيت قريب من الأحداث والأجواء التي كنت أُعبّر عنها، قد ساهما في ذلك أيضاً”.

في 2009، أصدر “قيثارتان”، وكان بمثابة نقلة موسيقية جديدة، سواء من خلال التوزيع، الألحان أو الكلمات. سنجد شقير الذي كتب معظم أغانيه، يخصّص كلمات الألبوم للشاعر الراحل محمود درويش، ويتخلّى عوده عن البطولة ليرافقه توزيع أوركسترالي. شكّل هذا الألبوم مفترق طرق، أو تحوّلاً في مسيرته الموسيقية. وعند سؤاله عن الألبوم الأقرب إلى قلبه، فاجأنا أنه ألبوم لم يظهر بعد، وهو عبارة عن “مجموعة غنائية بعنوان “مطر خفيف”، قُدّمت في “دار الأوبرا السورية”، لكن لم يجرِ تسجيلها. وما يجعله يميل إليه هو “احتواؤه على تجارب جديدة في كتابة النص الغنائي، واقتراحات موسيقية ذات مزاج مختلف، إضافة إلى تنفيذها الأوركسترالي”.

قليلون من يعرفون شقير كشاعر، فإلى جانب كتابة أغانيه، أصدر مجموعة شعرية بعنوان “نجمة واحدة” عام 2006، ضمّت العديد من قصائده المغنّاة، بالإضافة إلى نصوص أخرى لم تنشر من قبل. حول كتابة الشعر وارتباطه بالموسيقى، يقول: “رحلتي في البحث عن نفسي كشاعر سبقت كثيراً لقائي مع الموسيقى. منذ الخامسة عشرة كتبت ما كان يخيّل لي أنها قصائد رائعة، لأمزّق بين حين وآخر ما كنت أكتبه، لكن ذاك الشعور بالجمال الذي يولده الخيال؛ شكّل دافعاً كبيراً للاستمرار على ما به من وهمٍ حينها. وفي التاسعة عشرة بدأت اهتماماتي بالموسيقى تأخذ منحىً سحرياً، وكان أن ترابطت قصائدي التي اشتد عودها بألحاني؛ لتنتج الكثير من الأغاني الوجدانية التي حذفتها جميعاً؛ بعد أن وصلت إلى اكتشاف خصوصيتي مع المجموعة الغنائية الأولى (لمن أغني)”.

وحول الثورات العربية ، يقول: “ابتدأتُ منذ زمن طويل بالحلم بها والعمل من أجلها”. ومع بداية الثورات في تونس ومصر، قدّم أغاني التضامن معها. وفي ما يخصّ الثورة السورية سجّل أغنية “يا حيف” التي لاقت رواجاً واسعاً على الإنترنت، وكانت بمثابة صرخة وجع وتحذير للنظام السوري. يُعلّق صاحب “لهفي ع سفينة” على الثورة السورية بقوله: “محاولات وأدها وتحويلها إلى حرب أهلية ما تزال قيد التنفيذ، الشعب السوري قام بثورة عظيمة ودفع ثمناً باهظاً لرغبته في الانعتاق من الاستبداد، وقد تجلى ذلك في الأشهر الأولى للثورة، أما اليوم فما نراه هو شيء آخر”.

وحول تأثير “الثورات العربية” على الفن والموسيقى في العالم العربي، يقول: “لا شك أن هناك ما هو جديد على الساحة الموسيقية تحت تأثير الموجة الثورية في المنطقة، إذ ظهرت الكثير من التجارب الجديدة، لكن القليل منها ممتلكٌ لأدواته؛ تجارب تميّزت عموماً بالجرأة وتجاوز السقوف النمطية، لكنها وقعت في فخ المباشرة الفجة”.

في منفاه الباريسي يعيش شقير في “غرفة صغيرة وحنونة” بعيدة عن العسكر؛ ويقضي الكثير من وقته يومياً في متابعة الأخبار التي تأتي من سوريا. أكثر ما يقلقه الآن هو “هذا الكم الهائل من الحقد والعنف لدى الإنسان الذي تفترسه الأيديولوجيا”.

شقير الذي رَشَحت كلماته عن بعضٍ من اليأس والإحباط، أجاب عن سؤالنا حول جديده: “منذ ثلاثة أشهر لم ألمس العود، الأوتار ليست مقطوعة، لكنني أحسها كذلك”.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى