سنتان فقط من الغزو الروسي/ ساطع نور الدين
في جوهر النظرية الخلدونية أن التاريخ لم يسجل يوماً إنتصار غزو ودوام إحتلال بالقوة وحدها. غالبا ما كان الغازي والمحتل يمتلك عناصر تفوق بافكاره وسياساته وإختراعاته.. ودائما كان الإعتماد على تلك العناصر سابقاً لاستخدام القوة العسكرية التي تحسم الصراع وتنهيه مع أمة ضعفت او دولة انهارت او شعب تفكك.
في مثل هذا اليوم منذ عامين، بدأت روسيا غزوا عسكريا لسوريا، يتنافى مع ما كتبه العلامة إبن خلدون: كان العمران السوري يتهاوى، لكن الغازي الروسي لم يأت محملاً بفكرة متطورة او سياسة متقدمة او خطة مميزة. كان شعار منع إنهيار الدولة السورية ومؤسساتها ومكافحة الارهاب الاسلامي ذي الاصل الاسيوي -الروسي، جزءاً من جدول أعمال عسكري وضعه الضباط الروس بقيادة فلاديمير بوتين، ولم يشارك فيه المفكرون والباحثون الروس، ولم تستشر به النخبة الروسية المدنية.
لم يكن جدول الاعمال الروسي هذا مجرداً من السياسة طبعا، ولا كان غافلا عن الفرص الاقتصادية التي توفرها الحرب السورية. كما لم يأت الروس كمنظمة إغاثة إنسانية. كان في أفق التفكير الروسي بعض من أحلام العظمة وأوهام القوة، من دون أدنى إتصال بالواقع السوري . كان المطلوب بالنسبة الى الكرملين ، ولا يزال، أن تحترم واشنطن وبقية العواصم الغربية الكبرى، روسيا ومصالحها وأن تأخذها على محمل الجد، لا أن تعاملها كدولة مارقة مثل كوريا الشمالية.
بعد عامين على غزو سوريا، لم يتحقق هذا الهدف الروسي، بل زاد صعوبة وتعقيداً نتيجة معطيات لا شأن لمعظمها بالميدان السوري، بقدر ما هي ناجمة عن إضطراب العلاقات الروسية الاميركية إثر مغامرة بوتين المتهورة بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الاميركية.. كما ان الاهداف السورية البحتة للغزو لم تنجز بعد. نظام الرئيس السوري بشار الاسد ما زال صامداً ، لكن قوته تتآكل يوما بعد يوم، وتستدعي المزيد من التورط الروسي، والمزيد المزيد من الاسهام الايراني المباشر ، بالعديد والعتاد والمال.
منذ مطلع هذا العام ، تسرع الروس في إعلان النصر والقضاء على “الثورة الملونة” في سوريا، (في إحالة الى نجاحهم في تصفية الثورة الاوكرانية الملونة) ، لكنهم سرعان ما سحبوا ذلك الاعلان من التداول، وتواضعوا في تحديد أهدافهم وفي تسمية شركائهم في التغيير السوري ، الذين إضيف اليهم إسلاميون سوريون كان الطيران الحربي الروسي يلاحقهم قبل ان تتم دعوتهم الى الاستانة.
ومنذ ذلك الحين ،عبرت موسكو عن حاجتها الى تسوية سياسية سورية، تقوم على الاعتراف المتبادل بين النظام وبين معارضيه أنه لا يمكن لآي منهما تصفية الاخر وازالته من الوجود، وتساهم في الحؤول دون غرق روسيا في مستنقع أفغاني جديد ، لاحت معالمه عندما زاد عدد القتلى من العسكريين الروس في سوريا، بعدما كانت أرقام الضحايا تقتصر على موظفي شركة فاغنر الامنية الروسية.. الى أن جاء مقتل الجنرال الروسي الأعرج فاليري أسابوف ، قائد مذابح الشيشان في تسعينات القرن الماضي، بمثابة جرس انذار دوّى في موسكو الاسبوع الماضي، وأعاد الى أذهان القيادة الروسية ذكريات التجربة الافغانية الموجعة، وفتح نقاشاً واسعاً حول ما إذا كانت تصفية أسابوف دليلاً على ان الفخ السوري الذي نُصب لروسيا قد بدأ العمل به.
الرد الروسي على تلك العملية العسكرية الدقيقة، كان تعبيراً إضافياً عن سلوك الكرملين المجافي للعقل والمنطق : الغارات الجوية والضربات الصاروخية التي لم يسبق لها مثيل منذ أيلول سبتمبر 2015، ما زالت مستمرة حتى اللحظة وهي تحصد المزيد من الابرياء السوريين والمزيد من المشافي والمستوصفات والمدارس.. وتفسح المجال لداعش لكي يشن واحدا من أوسع هجماته المضادة في دير الزور والبادية السورية.
تلك الحملة العنيفة كشفت عمق الجرح الروسي وحاجة الكرملين الى إستعادة هيبته، حتى ولو كان هو الثمن التخلي عن مسار الاستانة المتواضع الذي إنخفض بالاهداف الروسية الى الحدود الدنيا، وبات يركز على مصالحة الجمهور السوري المعارض مع الجيش الاحمر الروسي أكثر مما يهتم بمصالحته مع الجيش السوري نفسه.. وهو ما يفرضه طموح الانتشار العسكري الروسي في سوريا المقرر ان يستمر لمدة 99 عاماً ،حتى العام 2116.
مقتل الجنرال الاعرج ، وربما أيضا الهجوم الاخير لداعش في دير الزور والبادية، حال دون احتفال كان الكرملين ينوي تنظيمه في الذكرى السنوية الثانية على غزو سوريا، للاعلان عن أن الحرب السورية التي سبق ان ختمها الجنرالات الروس أكثر من مرة، تقترب الان من نهايتها الفعلية بالقضاء على الثورة السورية الملونة..وطرح من جديد الاسئلة نفسها التي طرحت قبل عامين، عن المؤهلات والافكار التي تمتلكها روسيا لإخماد او حتى لإدارة حرب معقدة مثل الحرب السورية. هي بلا شك تمتلك القوة العسكرية المدمرة، لكنها أثبتت أنها لا تمتلك الفكرة السياسية الملائمة لاستثمارها. ما زالت الحيرة تتملك الجميع عندما تجري المقارنة بين هدف حماية النظام السوري وبين إخضاع مؤسسته الاهم، الجيش، لذلك الاستنزاف اليومي، على جبهات مفتوحة ضاعفت خسائره البشرية في الاونة الاخيرة. او بين هدف إبتزاز الاميركيين او استدراجهم الى سوريا وبين الشراكة العميقة التي يقيمها الكرملين مع إسرائيل، والتي كانت ولا تزال تمثل أحد أهم أسرار الغزو الروسي لسوريا..
يزعم الروس أنهم حققوا مكاسب سياسية وإقتصادية إيرانية وتركية مهمة. وهذا صحيح، لكنها مكاسب كان يمكن ان تتحقق بسهولة من دون التدخل في سوريا، بل بمجرد الاعتماد على حماقة أميركا وعلى إضطراب رئيسها الحالي دونالد ترامب، او حتى على جنون عدوها اللدود زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون.
بعد عامين على الغزو، ثمة الكثير مما يصعب فهمه في سلوك دولة تدعي أنها عظمى، لكنها تتصرف بتهور وتوتر لا يليق بدولة من العالم الثالث، وتفتقر الى الحد الادنى من التفكير والتخطيط الذي يجعل أهدافها السورية المباشرة-مهما كانت خيالية- قابلة للتحقيق.. تماما كما كان عليه الحال، مع الغزو الاميركي لأفغانستان والعراق، حيث بدت الولايات المتحدة أشبه بدولة عصابة، عديمة الرحمة والحنكة.
لا أحد يعرف الآن ما هي كلفة الاعوام ال97 الباقية من عمر الغزو الروسي لسوريا.
المدن