سنية صالح… شاعرة “بملايين الجدران”
امرأة من الطباشير/ خليل صويلح
كان على سنية صالح (1935- 1985) التي رحلت قبل ثلاثين عاماً بالتمام، أن تنطفئ باكراً، فكل ما كان يحيط بها بدا متصدّعاً: طفولة منكسرة، وأحلام مهشّمة، وحزن أبدي مقيم في الضلوع. كيف لفراشةٍ ضالة مثلها أن تجابه كل هذه الخسارات دفعةً واحدة؟ الطفلة التي لم تتعلّم النطق إلا متأخراً، لجأت إلى تعويض هشاشتها الداخلية بكتابة ألمها الشخصي على كرّاساتها المدرسية، قبل أن تقتحم الساحة الشعرية مثل عاصفة بقصيدتها «جسد السماء» التي فازت بجائزة «صحيفة النهار البيروتية» (1961)، القصيدة التي تفوّقت على قصيدة لمنافسها محمد الماغوط في الجائزة. هكذا وجدت نفسها فجأة في قلب حركة الحداثة الشعرية بصحبة كوكبة من الشعراء الطليعيين مثل أدونيس، وأنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وفؤاد رفقة، وصخب مجلة «شعر» وبياناتها في الحداثة والتجاوز والهتاف المضاد. لكن الشاعرة الشابة لم تنخرط عملياً في تطلعات هؤلاء الشعراء، إنما كانت تنصت إلى خزّانها من الألم الداخلي، والذهاب طوعاً إلى الظّل، في مكابدات حسيّة تنطوي على قلق وجودي عميق، وذات جريحة، وأحلام مشوّشة.
من هذا الباب، على وجه التحديد، يمكننا أن ننظر إلى ديوانها الأول «الزمان الضيق» (1964)، بوصفه بياناً شعرياً لعبور النار واشتعال الجسد والعقل والمخيّلة بحمّى الكشف، كما لو أنّ الشعر هو حلم وحدس ومكاشفة غامضة لردم الآلام. وهو ما تشير إليه شقيقتها خالدة سعيد إذ تقول: «هو شعر على حدة لا يشبه أحداً، وليس منضوياً في تيار. شعر لحزن متوحّش ينبجس من الجوهر الأنثوي الخالق المطعون المسحوق عبر التاريخ. بقدر ما ينشد حكاية المغدورين، يتقدّم كصيحة للجسد الذي انتهى بين المباضع وأسرّة المشافي». مغامرة سنية صالح إذاً، تأتي من يتمها الشعري، رغم إحاطتها بعائلة شعرية باذخة، حاولت احتضانها بقوة، لكن نصّها ظلّ بمنأى عن زخارف الآخرين، ورفضت الانتساب إلى أية سلالة، ذلك أن شعرها نتاج الوجع في المقام الأول، ولم تكن قضيتها تتعلّق ببنود كتابة قصيدة النثر التي شغلت جماعة مجلة «شعر»، إنما في كيفية الخلاص من حمم براكينها الذاتية، وتنظيف المدخنة من رماد العالم وكوابيسه وآثامه، وربما لهذا السبب أُعجبت الشاعرة بقصيدة سان جون بيرس «ضيّقة هي المراكب» التي ترجمها أدونيس آنذاك، دون غيرها، نظراً للنبرة المختلفة التي خاطبت مزاجها المختلف.
لا يمكننا أن نتجاهل السطوة اللاحقة لاسم الماغوط، وخفوت حضور اسمها للسبب نفسه
ولكن أية أقدار إغريقية، أتت بمحاربٍ شرس مثل محمد الماغوط كي يكون منقذ الشاعرة الناحلة من الغرق؟
هناك ما يشبه الخطأ التراجيدي الفادح في سيرة سنيّة صالح، فماذا لو محونا صورة محمد الماغوط من الإطار، هل ستكمل حياتها على نحوٍ آخر؟ كانت قد برّرت ارتباطها بصاحب «غرفة بملايين الجدران» بسطوة الحبّ وحده، في الدفاع عن خيارها، لكننا نظنّ بأن دمارها الشخصي كان بسبب هذه العلاقة غير المتكافئة لجهة شفافية روحها من جهةٍ، وخشونة «البدوي الأحمر» من جهةٍ ثانية. لم تكن علاقتهما الزوجية على ما يرام، رغم دفاعها المضني عن استمرار الشراكة بينهما، ومحاولتها ترويض بداوته، وعدم اكتراثه بالقراءة، خصوصاً، في الفترة التي كان مطارداً فيها، فهي من كان يجلب له الكتب والصحف والزهور خفية، برفقة صديقه زكريا تامر. الكتب التي تنتهي ممزّقة ومبعثرة فوق الأرض، ومبقّعة ببقايا القهوة، كما ساعدته في تظهير مسرحيته «العصفور الأحدب» في نسختها النهائية وذلك بتحويلها من قصيدة طويلة إلى مسرحية متعدّدة الأصوات. مآثر كثيرة صنعتها صاحبة «حبر الإعدام» (1970) في حياته، سنجد مقاطع منها في روايته اليتيمة «الأرجوحة»، فهو يعترف بأن «حياته من دونها لا تساوي أكثر من علبة ثقاب». لا نلوم مزاج الماغوط العكر، لكننا في المقابل، لا يمكننا أن نتجاهل السطوة اللاحقة لاسمه، وخفوت حضور اسمها للسبب نفسه. إذ استولى الماغوط على غنائم الشهرة كاملة، الشهرة التي يستحق بالطبع، نظراً لتفرّد نصوصه ووحشيتها البلاغية والحياتية، بالإضافة إلى خصائص حياته التي ارتبطت بالتسكع والعناد ومديح الهامش، فيما كانت سنية صالح تندحر إلى الداخل نحو متاهة الذات بشحنة ألم أكبر، ومتاهة خلاص مستحيل. هي ليست شاعرة واجهات، إنما كانت تتلمّس الضوء الداخلي لروحها المعطوبة وجحيمها الدنيوي، ومحاولة إنعاش أنوثة ذابلة قسراً. وكأن تسلّل وحش السرطان إلى عظامها المنهكة أتى ترجيعاً لخيباتها المتراكمة، هي التي «طلبتْ من الحب أن يكون ثأرها من العالم وحصانها السحري للنجاة»، لكن الحياة كانت تعمل في مكانٍ آخر، فلم يجدِ صراخها في إنقاذ حلمها الذي كان يتصدّع تحت مطارق الذكورة المنتصرة، والعنف، والإرهاب الكوني، إذ تعترف في حوارٍ معها، بقولها: «أنا أعجز أن أغيّر العالم أو أجمّله أو أهدمه أو أبنيه. أحسّ أنني كمن يتكلم في الحلم. ماذا يؤثر في العالم الكلام في الحلم؟». هذا الاستنتاج المبكر لمآل حياتها، أضفى على نصوصها حساسية مختلفة، ومعجماً فريداً وصادماً في مفرداته، ينطوي على عالم معدني، وبراكين من زرنيخ، وضمادات، وأسيد، وبوتاسيوم و«قمر طويل للنفايات». لكن قصيدتها، في مرحلةٍ ما، سوف تتأرجح في بعض مفاصلها بين المشهد العمومي ومكابدات الذات لتتعرى من البلاغة أو العمارة الشعرية، أو الابتكار، مكتفيةً بمخلّفات الحطام: «أيها الطائر المحلّق عبر الآفاق/ تذكَّر أن الرصاص في كل مكان/ تذكَّرني أنا المسافرة الأبدية/ طول حياتي أغدُّ السير/ وما تجاوزت حدود قبري»، كما ستكشف عن مطبخها الشعري بقولها: «عندما تحضر الحمّى الشعرية أخفف من حدة يقظتي، وأستسلم. ألغي مقاومتي لأعماقي إلى أقصى حد ممكن. تلي ذلك عملية تدفق داخلية، ترافقها عملية استسلام في الإرادة والحواس. ثم أدوّن ما أحصل عليه في مرحلة الهذيان هذه». لعل هذا ما يفسر عدم انشغالها الصريح بالزخرفة والمحو والإيقاع لمصلحة الهذيان وحده، في رهانٍ على قوة المعنى، وجسارة المواجهة، وعدالة الحلم، كأن تقول: «إنك من الزرنيخ يا سيّدي،/ أفتح فمي كل صباح وأبتلع جزءاً منك/ ولم تنتهِ/ قلت سيأتي يوم أتوحّش فيه/ وأفترسك/ ثم أستريح».
حيال حطام هذا الكائن الجريح، سيسعى الماغوط لاحقاً إلى إنصاف شريكته معنوياً، وذلك عن طريق مبادلة القسوة القديمة بالندم، طلباً لغفران لم يعد مجدياً على الأرجح، باعترافات من العيار الثقيل في مديح الأنثى والشاعرة بآنٍ واحد: «سنيّة هي حبي الوحيد، نقيض الإرهاب والكراهية، عاشت معي ظروفاً صعبة، لكنها ظلّت على الدوام أكبر من مدينة وأكبر من كون. كانت شاعرة كبيرة في وطن صغير، وبين نقّاد صغار». أما مرثيته «سيّاف الزهور» التي كتبها خلال احتضارها وأكملها بعد رحيلها، فكانت مثقلة بالأسى في حدّه الأقصى: «ثلاثين سنةً، وأنت تحملينني على ظهرك كالجندي الجريح، وأنا لم أستطع أن أحملك بضع خطوات إلى قبرك/ أزوره متثاقلاً، وأعود متثاقلاً، لأنني لم أكن في حياتي كلها/ وفيّاً أو مبالياً، بحب أو شرف أو بطولة». إنها امرأة من الطباشير، وفقاً لعنوان إحدى قصائدها في مجموعتها الأخيرة «ذكر الورد» (1988) التي صدرت بعد رحيلها، تكاد أن تذوب وتتفتت من الوجع وآلام الجسد الذي أنهكته الأدوية ومباضع الجرّاحين. تقول: «أهدابي يتراكم عليها صدأ العزلة، وزرنيخ المنفى. أطلق سراحنا، فتحتَ لساني مصنّف مليءٌ بالإهانات، بذلٍّ يكفي لنسيان جميع الحريات».
في بيتهما، في حي المزرعة الدمشقي، بالكاد نلمح صورة لها بالأبيض والأسود، تتكئ بخفر على أحد رفوف المكتبة، فيما تحتشد جدران صالة الاستقبال بصور الماغوط، واللوحات المرسومة له، وبورتريه معدني يجثم في ركن آخر. لعل في هذا المشهد الخاطف بالنسبة للزائر تكمن مأساة شاعرة فذّة كاد يطويها النسيان، مثلما طويت مذكراتها التي لا تزال بحوزة ابنتيها. المذكرات التي لا نشكّ بأنها ستزيح اللثام عن أسرارٍ كثيرة، وعن أسئلة غامضة تشبه عنوانها المقترح «سنيّة صالح، من أنت؟».
طفلة في الخمسين/ مرام مصري
سنية صالح… شاعرة «بملايين الجدران» | أنا سنية صالح المرأة التي ارتبكت عندما فاجأني الحب والتي خدعني جسدي عندما احتضنه المرض أنا سنية صالح التي مات قلبي رعباً وبالصراخ أعلنت وحدتي انا سنية صالح ابنة صافيتا، حفيدة مائها ابنة أشجارها وسمائها، زوجة الشاعر محمد الماغوط أنجبت ابنتين وأربع كتب. كتبت الشعر حتى لا أموت، ولكن في يوم كهذا منذ ثلاثين عاماً، طُويت كما تطوى أوراق الشجر، وكما تطوي الفراشات ذكرياتها من أجل السفر الطويل. رحلت إلى قمم الجبال إلى أعماق البحار. قلت لكم إن الزمن ضيق، فلا أحد منكم دلّني على الجسور التي تؤدي إلى الله.
آسفة لرحيلي المبكر… كان بودي المكوث قليلاً لأكتب لكم قصائد أكثر، لأحيا بعيداً عن النسر الوحش، والغابة التي وقعت في كمينها، لكن المرض سرقني من الحياة، سرقني من الشعر. أرجوكم دلوني على النهر الذي يقولون إنه يعيد الصبا. لن أرتوي حتى تعود إليّ طفولتي. أريد الحياة مرتين، هكذا قالت لي سنية وأنا افتح باب ذكراها ذكرى الورد، أنها كانت تريد الحياة مرتين. يا إلهي كم كانت تحب الحياة وكم كانت في الوقت نفسه وحيدة وحزينة لدرجة المرض. كم مرة أعلنت أن زمن الحب قد انتهى، وكم ترجّت أن يطلق العالم رصاصه على جثتها. في لحظة من اللحظات شعرت بأن سنية قد تقمصتني. سكنت بي لنصف يوم للكتابة عنه. كان لا بد أن استحضرها كما السحرة، أتقمصها أو تتقمصني. لو أنها على قيد الحياة لكان عمرها 80 سنة، ولكن هي التي سيظل عمرها 50 قررت أن لا تكبر لتبقى طفلة.
* شاعرة سورية
يخرج واحدنا من جوف الآخر/ إيمان مرسال
سنية صالح… شاعرة «بملايين الجدران» | لم أجد سنيّة صالح في القاهرة؛ بدأت رحلة البحث قبل سفري إلى مصر هذا الصيف، حاولت مكتبة «تنمية» ومكتبة «الكتب خان» الحصول على نسخة من أعمالها الكاملة الصادرة عن «دار المدى» من أجلي ولم تنجحا في ذلك. بعد وصولي، ذهبتُ إلى «دار الشروق» حيث قسم الشعر مختبئ تحت السلم الداخليّ للدار، ويقتصر على شعر العاميّة المصريّة الأكثر مبيعاً.
الشعر أفضل حالاً في مكتبة «مدبولي»؛ ستجد محمود درويش ومحمد الماغوط وأدونيس مع الأبنودي وأحمد فؤاد نجم مرئيين في الدور الأول. قال لي البائع الخبير الذي أعرفه منذ كان شاباً في التسعينيّات: «مين هي سنيّة صالح؟»، وأخذني لأبحث بنفسي في متاهة الدور الثاني. وقع في يدي بالصدفة أكثر من كتاب كنتُ يئستُ من العثور عليه. هناك الكثير من الشعراء التموزيين والستينيين وبعض شعراء السبعينيّات، بل من الدراسات الأدبية الثقيلة التي قامت على أعمالهم فوق طاولة في منتصف إحدى الغرف. لا أثر لسنيّة صالح.
وقفتُ أنظف يدي وملابسي من الغبار بالمناديل المبللة وأنا أتخيّل أن هذه الطاولة المزدحمة بالكتب والتراب مائدة عشاء. ميّزت محمد الماغوط بجسده الضخم، الشاعر البدويّ الذي لا يحب أن يقرأ الفلسفة ويكتب للعاديين والفقراء – كما يحب أن يرى نفسه. الحائط خلفه مليء بالصور التي رسمها فنانون لوجهه. في مواجهته الشاعر الفيلسوف بذاته، أدونيس، محطّم العادي والمألوف ومخرّب اللغة القرشيّة – كما يحب أن يرى نفسه، يمسك بأناقة شوكته وسكينته في احترام واضح لآداب المائدة بينما الناقدة خالدة سعيد تجلس في وقار بجانبه. كان هناك آخرون أقلّ نجوميّة، كم أحب أن أصفهم لولا أن الغرفة ضيقة وحارة وخانقة. بجانب الباب الذي يجب أن يكون قريباً من المطبخ، كانت تجلس سنيّة صالح، لا أعرف كيف كانت تحب أن ترى نفسها، ليس لها صورة عندي لأعرضها، ما أتخيّله من كل ما قرأته عنها لا يزيد على أنها شاعرة كبيرة، ضحيّة، كانت تستحق الكثير من القراء والنقد؛ لكن الأكثر شيوعاً أنها مثلاً الزوجة المتفانية المخلصة للأوّل، وأنها أخت لخالدة سعيد، وأنها أم لبنتين ربما تنامان في الغرفة المجاورة. أستطيع من وقفتي هذه أن أرى يديها فأتذكر ما كتبه الماغوط مرة عنها «حكّت بأظافرها الجميلة الصافية قشرة التابوت وبريق المرآة». هو لم يكتب بعد ذلك عن أظافر امرأة أنهكتها الوظيفة المكتبيّة، وتنظيم حياة الزوج وإعطاء الأولوية لشهرته، بل وإعداد هذا العشاء. إنهم يتحدثون في موضوع هام، إنها تقضم أظافرها في صمت متمنية أن تمرّ الزيارة على خير، ألّا تبكي في آخر الليل معركة بين هذه الذوات الكبرى أو فشلها في أن تكون حمامة للسلام الاجتماعيّ.
عندما أتخيّل صوت سنيّة صالح الذي لم أسمعه قَطّ، أنصتُ إلى عديد خافت ومكتوم يتسرّب إليّ من وسط ضجيج يضم ثوريين بهتافاتهم الجهوريّة، محاربين متحمسين للانتصار، أو مكسورين من الهزيمة، غاضبين يصرخون ضد الدولة والديكتاتور والمجتمع واللغة المجدورة، حالمين يريدون تغيير الواقع وتفجير مؤسساته ويؤسسون في نفس اللحظة لعالم يُشبه ما يطمحون إلى تغييره. صوت سنيّة صالح لا يحتلّ أُذن من يُنصت إليه لأنه يُمثل مدرسة شعريّة لها آباء وفيها أُصلاء ومقلدون، ولا لأنه محظوظ بالصمت الذي حوله، بل لأنه صوت فرديّ ومتفرّد وسط مظاهرات شعريّة، يستطيع أن ينجو بنبرته الخاصّة ويقتحمك رغم أنه مُحاط بالأنبياء والأبطال والشهداء والزعماء.
لم يصلني صوت سنيّة صالح في الوقت الذي كنتُ في أشدّ الحاجة إليه، كان يجب أن أقرأها في سنوات التكوين الأولى. عندما كنتُ أتساءل لماذا لا توجد شاعرة عربيّة حديثة أنتمي إليها. لم أسمع بها عندما كنتُ أُفكر ـ ولا أجرؤ على قول ـ إن نازك الملائكة وفدوى طوقان وسلمى الجيوسي على سبيل المثال شاعرات مهمّات؛ تعود إليْهن لفهم شيء ما عن تطور القصيدة العربيّة، عن إسهام المرأة العربيّة فيها، لمعرفة السقف المنخفض الذي لم تستطع الشاعرة العربيّة أن تزيحه أو قررت بإرادتها أن تستظلّ به. ولكن ليس بينهنّ من تذهب لتبحث عن قصائدها لأنك في حاجة إليها. إنهن شاعرات يُقرأن في المكتب، تستحضرهنّ في الفصل الدراسيّ، دائماً في الظهيرة حيث يكون الأرق بعيداً ومختبئاً في غرفتك إلى أن يحلّ الليل. لم يخبرني أحد أن هناك مَن كتبت في بداياتها قصيدة «جسد السماء» التي فازت بـ«جائزة النهار لأفضل قصيدة نثر» في 1961 حيث تقول: «وها أنا أتدحرجُ كالحصى إلى القاع/ فليكن الليل آخر المطاف».
ما يشغلني في صوت سنيّة صالح ليس فقط فرادته، بل أيضاً، إمكاناته المُهدرة، تلك المناطق المجهولة التي كان ممكناً في حالتها – رغم كونها كاتبة عربيّة بدأتْ في ستينيّات القرن العشرين، ورغم لحظتها التاريخيّة المليئة بأنبياء الشعر – أن تفتحها ولم يحدث. إنني لا أقترح عليها تصوراتي هنا، ليس عندي أيّة اقتراحات على شاعراتنا الأخريات على أيّ حال؛ ولكن هناك ما يستفزني عند قراءة مجموعاتها الشعريّة الأربعة معاً، شعور وكأن هناك كنزاً قد بُدِّد الكثير منه في عُطلات الكتابة ومنعطفات الحياة، بل وعدم ثقة يجعل هيمنة الشعريّات المجاورة لها تغريها على أرضيّتها الجاهزة أحياناً.
يبدو لي أن قصائدها الأخيرة في «ذكر الورد» (1988) هي التطوير الممكن لقصائدها في مجموعتها الأولى «الزمان الضيق» (1964)؛ أقصد عمق الصوت ووضوحه ومدى حفره في الفجيعة الإنسانية التي شغلته طوال رحلته. في «الزمان الضيّق»، تحتلّك الصور لا الأفكار؛ تشم رائحة احتراق، لا تبهرك نار البعث ولا تقابل الفينيقيين في الصفحات، يخبرك صوت القصائد ببساطة: «أنا أسير/ بلا ليل/ وطني ورائي».
في مجموعتيها الثانية والثالثة، «حبر الإعدام» (1970) و«قصائد» (1980)، يمكنك أن تدرك الصوت نفسه وهو يتحمّل بخبرات جديدة، مثل الأمومة وارتباك الحب وهزائمه وخياناته، حيث يوجد ليل طويل في البيوت المهجورة ومطر منفيّ عن سمائه وفصول عظيمة لصيد الأعشاب وأخرى لحرقها وموت ينتظر على الأبواب وضحيّة تقتفي أثره. تجد في المجموعتين بعضاً من أجمل قصائد الشعر العربيّ الحديث من حيث توحّش الخيال وشفافية اللغة جنباً إلى جنب مع قصائد متعثرة في لغتها ومشاع في صورها؛ على سبيل المثال، تبدأ مجموعتها الثالثة بقصيدة «شام، أطلقي سراح الليل». يُدهشنا صوت أم لا يوجد مثله في القصيدة العربيّة حتى اليوم، حيث يكون على الأم أن تلد نفسها أيضاً: «أيتها اللؤلؤة/ نمتِ في جوفي عصوراً/ استمعتِ إلى ضجيج الأحشاء/ وهدير الدّماء/ حجبتُك طويلاً… طويلاً/ ريثما يُنهي التاريخ حزنه/ ريثما يُنهي المحاربون العظماء حروبَهم/ الجلادون جَلْدَ ضحاياهم/ ريثما يأتي عصرٌ من نور/ فيخرج واحدُنا من جوفِ الآخر».
تقرأ في نفس المجموعة الشعريّة قصائد مثل «الحظيرة»، و«خريف الحريّة»، و«الفجر»، «مخصّصات النّسر الميّت»، و «جرذان التاريخ». إنها قصائد تجعلك تتساءل ما الذي أربك أو شتّت أو غيّب الصوت الذي تحبه؟ إنه ليس صوتاً مدعياً ولا مزيفاً مع ذلك، كأنه يشارك أحياناً في مظاهرة جماعيّة حتى يتم الانتباه إليه، أو لمجرد أن يتخلّص من وحدته التي تشبه «وحدة امرئ على أبواب الإعدام». ربما كانت سنيّة صالح نفسها تعي ذلك؛ أليست هي من كتبت: «فأين الهواء العظيم ليحمل الصوت/ المتألّم؟».
(لقد صرحتْ صالح قبل مجموعتها الأخيرة «ذكر الورد» بسنوات: «ليس لي أي طموح من أي نوع كان. أنا أعجز من أن أغيّر العالم أو أجمّله أو أهدمه أو أبنيه، كما يقول بعض الشعراء، ماذا يؤثر في العالم الكلام في الحلم؟ […] إنما أحتفظ لنفسي بحرية الحلم والثرثرة»). أظن أن «ذكر الورْد» كان الطموح الذي سعت له صالح طوال رحلتها حتى ولو لم تصفه لنا خجلاً منها أو غموضاً منه؛ تحرّر الصوت الشعريّ من التذبذب ومن التعثّر بل ومن بعض الرقة التي وسمته أحياناً، ولم يعد يقيس ثقته في ذاته بحجم الأصوات المجاورة له. فيما قبل «ذكر الورد»، تغيب المدينة بشوارعها وعلاقاتها وضجيجها عن قصيدتها. تبدو الطبيعة بما فيها من ظلال وصراع وعنف وموت وكأنها مجال مناسب لحركة الروح أكثر من الأساطير والرموز والاستلهام التاريخيّ وغيره مما شغل حيّزاً كبيراً في قصيدة المجايلين لها. لكن في «ذكر الورْد» يحلّ الجسد محلّ الطبيعة، يحضر بتاريخه وذاكرته وعتمة رغباته وغضبه الشخصيّ الذي لم يلتفت له من قبل، كما تحضر الطبيعة التي تحرّك فيها والخطر الذي يهدده بالفناء. هناك عنفٌ وبصيرة وتدفّق لا تمسك بها إلا شاعرة كبيرة بحق. هذه هي القصائد التي أردتُ أن أكتب عنها منذ البداية ولكن ربما كان صعباً أن يحدث ذلك قبل أن أكتب ما سبق.
* شاعرة مصرية مقيمة في كندا
رسالة من محمد الماغوط
سنية صالح… شاعرة «بملايين الجدران» | دمشق، في 5. 2 . 1963
أيتها العزيزة خالدة،
منذ شهور وفكرة واحدة تضرب رأسي وأعصابي كالرصاصة: ما هو العالم لولا تلك الإلهة النّحيلة، تلك الإلهة الرقيقة الحنونة، تلك التي سُمّيت صدفة «سنيّة» والتي كان يجب أن تُسمّى «العالم يبكي» أو العالم ذو القدمين الصّغيرتين. خالدة، لتذهب الكلمات الشعريّة إلى الجحيم. «سنية حياتي». (…) آه يا خالدة…
لولاها… لولا تلك الابتسامة التي تشبه جرحاً فوق جرح، لَما كنت أجد أيّ مبرّر حتى لتحريك الأصابع والأجفان. (…) لقد تسلّخَتْ يداي من الكتابة، واغرورقت كلّ طاولات دمشق وبيروت بدموعي، وأنا وحيدٌ كالمسمار… (…) آه لن أنسى ما حييت ذلك اليوم القائظ، تلك الظّهيرة الخانقة من الصيف الماضي، حين رأيتها، سنية الحبيبة، بثوبها الأخضر، بجلدها الرقيق كجلد الشحرور، حيث جلسنا أمام بعضنا أشبه بطائرين يبكيان في قفصين متقابلين. (…) وعندما أراها مقبلةً إليّ في الريح وتحت المطر، بمعطفها الأزرق القصير، بعنقها الذي يشبه ناياً تسيل من ثقوبه الدموع (…) نظراتها الضّائعة أبداً والمحدّدة أبداً أشبه بنظرات طفل غريب. (…)
أنت شقيقتها! هل تأمَّلتِ أصابعها ذات يوم؟ أبداً. إنه جاهل وطائش كلّ من يقول إنها أصابع… إنها مجموعة مشرّدة من القيثارات. أبواق بدائية تغنّي لوحوش تقوّست ظهورها من الزمهرير والوحدة…
(…) أروع ما في سنية روحها… إنني أستطيع أن أراها تماماً… كما أرى قطرة المطر وراء الزّجاج… كما أرى الطائر بين الأغصان. (…)
مقاطع من رسالة أرسلها محمد الماغوط إلى خالدة سعيد بعد تعرفه إلى سنية صالح، وهي تُنشر لأول مرة في ملحق «كلمات» بإذن من شقيقتها الناقدة خالدة سعيد.
عصفور الشعر الذي هوى/ أكرم قطريب
سنية صالح… شاعرة «بملايين الجدران» | «يا طفولتي البكر والمريرة/ يا براري أوسع من الخيال/ طفل صغير/ تخفّى من الرعب/ أكثر مما يحتمل قلبه المرتجف،/ قولي للعالم كله وأنت تبحثين عن قبورهم في الضباب/ إن الريح وهي تجري كالطغاة/ وحدها تجعلهم يصمتون طوال الليل/ والحذر يقف على أفواههم/ كالحراس أمام الزنزانات المضغوطة/ أتذكرين من خرج في الليل ليلاقي الريح؟».
خيّم محمد الماغوط كجبل عصيّ على حياتها وشعرها. وأكثر بساطة من هذا التعبير ارتباطها وجودياً به منذ تخفّيه عن أعين السلطات تلك الأيام في الغرفة الواطئة بدمشق وهي تهرّب له الكتب والدواويين والقهوة والسجائر. من إرث مديد نقرأه لها في كتب قليلة نعرف أن تلك العاطفة العنيفة لم تكن سوى نوع من البراعة التعبيرية لقصائد بقي طعمها غريب. وصايا شخصية لامرأة ابتليت بالوحدة وانعدام الأمن في حياتها. لذلك كان الموت مصدر الطاقة الحية لنصوصها الطويلة المضطربة ولها شكل السيرة المحمومة.
بملاحظة مماثلة كان ثمة منفى تقيم فيه، نادراً ما احتفلت بالأمكنة. استندت فقط إلى كلمات آتية من صدق بدائي ورموز مؤرقة دون سعي إلى تقديم شروحات قد تغري الآخرين، بتتبعها على اعتبارها امتثلت طوال حياتها لنوع من الوصاية الشعرية المؤبدة من كونها زوجة شاعر ظلّه بقي ثقيلاً بإرثه ومخيماً حتى على الأجيال اللاحقة، وقابلية قراءته بقيت ماثلة ومغرية وأخاذة.
كل هذا السرد والرسائل المبطنة المكتوبة على حبل مشدود تشبه الجروح المفتوحة تحت شمس صحراء نائية. مع عدم ميلها إلى تبني أي وثيقة نسوية، بل ذهبت أبعد من ردود الفعل إلى اكتشاف المنزل واكتشاف علاقتها العاطفية بابنتيها وزوجها الذي كانت تحدثه عن أحلامها فيقول لها: حاولي أن تفكري في الغابات.
لسبب ما تغريني فكرة مقارنتها بسيلفيا بلاث، لا لأكتشف الكرب والزواج المضطرب، بل ذلك الجسر الشعري والحياتي بين الاثنتين والموهبة القوية إلى الأسلوب الوحشي في تحطيم الذات لا يمكن تقليده. تقول سنية صالح: «ثمة عويل يربط قلبي بحنجرة الأرض». هذا الشعر أتى من جهة معاكسة وأقصد تماماً التأثيرات الغربية على جملتها «حمامة قديمة يقال لها أمي»، «أنا المرأة ذات الأعوام المسننة أنزف كجندي بُتر رأسه»، «أسقط كما تسقط رؤوس الأزهار»، «طوال حياتي أغذّ السير وما تجاوزت حدود قبري». تفاوتت قصائدها ولم يكن ثمة أي شرح لتلك الطريقة الأجنبية في التعبير عن الأسى والألم الفردي. لغة غرفت من الوحشة تلك القطع المرمرية على شكل نداءات مضمرة ولم ينته بها المكان إلى جهة ما. ولم نتذكر قراءتها إلا بعد زمان ونيف. «الزمان الضيق»، «حبر الإعدام»، «ذكر الورد»… عناوين باهظة قد تكشف الرموز والحوادث الشخصية تجدها في الظلال التي لا يطأها أحد. شعر بسيط بساطة هائلة مشحون بمشاعر العدم والعماء والخوف. مائيات مرسومة بالكوابيس لا تنتمي إلى أدب الاعتراف، بل صيغة من التراجم الحزينة لمصير امرأة كتبت سيرتها دون أن تدري. تتحرر الصورة بالتقنيات الهشة، ويبقى الشيء العصري الوحيد الماثل في هذا الشعر هو إله الموت. بقيت سنية صالح مثل صدى في الذاكرة الشعرية العربية. لأن هذه الذاكرة لا تستطيع أن تضاهي مشهد تلك الأقدار ولا المضي في شرح الأصوات الغامضة التي تأتي من ظلمة حياة الآخر ولا هذياناته.
ظلت بعيدة في الأمكنة الأكثر ظلمة: «رامبو الألف وبودلير العشرون جميعهم يجرون في دمائنا» هذا ما قالته في واحد من كتبها، وليس من تأويل لكل هذه الحداثة المريرة في هذا الصوت المعذب. سر القصيدة أن تستحوذ على ذلك الانتباه الخاص وما رافقها في ذلك التاريخ غير المكشوف، وأظن أننا نحتاج إلى مصادفة تاريخية كي نفتح الصندوق الأسود لحياة كانت معزولة عن كتابة أصحابها، وسيرة مفتوحة غير ملفقة بالندم.
* شاعر سوري
الأخبار –ملحق كلمات-