سوريا، الثورة، وذرائع السفهاء
نادية عيساوي وزياد ماجد
مرّت سنة على الثورة السورية المطالبة بالحرية والكرامة ورحيل عائلة الأسد من السلطة. سنة كاملة. أكثر من عشرة آلاف قتيل ومئة ألف جريح، وأكثر من 40 ألف لاجئ الى تركيا ولبنان والأردن، وحوالي المئة وخمسين ألف مواطن تعرّضوا للتوقيف يبقى منهم على الدوام عشرون ألفاً قيد الاعتقال. كل هذا إضافة الى الأضرار في الممتلكات والبنى التحتية وعمليّات التدمير الممنهج لمناطق عديدة. نادية عيساوي وزياد ماجد (النص الأصلي بالفرنسية. Version Française de cet article )
وقد صدرت عشرات التقارير عن منظمات دولية لحقوق الانسان، هيومان رايتس ووتش، وآمنستي، ولجنة حقوق الانسان في الأمم المتّحدة وأطبّاء بلا حدود وغيرها، تتحدّث عن حالات موثّقة وعن شهادات لضحايا، كما صُوّرت أفلام ومقابلات مع أطبّاء وناشطين ومع جنود منشقّين وضحايا، تؤكّد جميعها أن فظائع وانتهاكات تجري في سوريا، وهي تصل الى مصاف الجرائم ضد الإنسانية.
وعلى الصعيد الميداني، استمرّت المظاهرات وارتفع عددها ليتخطّى بالمعدّل ال600 مظاهرة كل يوم جمعة. واتّسعت رقعة التظاهر في دمشق وحلب، وامتدّت منذ أسابيع الى الرّقة والحسكة في شمال شرق البلاد. وبموازاة ذلك، ازدادت حركة الانشقاقات من الجيش، وازداد التحاق المتطوّعين بما يُسمى “الجيش السوري الحر”، فتضاعفت بالتالي العمليّات العسكرية والمواجهات بين هذا الجيش وبين القوات العسكرية الموالية للنظام، في ريف دمشق، كما في درعا وفي حمص وإدلب ودير الزور.
ولم تُفلح أي وساطة أو مبادرة حتى الآن في الوصول الى حل أو تسوية، ولو على الطريقة اليمنية التي حُكي عنها (نقل السلطة والصلاحيات الى نائب الرئيس أو الى مجلس عسكري يقود المرحلة الانتقالية ريثما تُجرى الانتخابات وتتشكّل سلطة جديدة). ويُقال اليوم إن مباحثات قد تجري بين دول غربية وروسيا، وإن تركيا (ودول مجلس التعاون الخليجي) تُعدّ لاجتماع مشترك في أنقرة في مطلع أبريل المقبل للبحث في قرارات، أسمتها القيادة التركية ب”مبادرة الفرصة الأخيرة”.
بالتالي، يستمر الوضع في سوريا على حاله من التأزّم وسط انقسامات وارتباكات في القرارات والمقاربات الدولية والاقليمية تجاهه، يحاول النظام الاستفادة منها أملاً بحلّ أمني نهائي يمنع من بعده كل مظاهر للثورة في المدن، ويحصر المظاهرات في بعض الأرياف، ويقضي على مجموعات “الجيش الحر” الذي يواجهه، ليُلزم اللاعبين الخارجيين بمفاوضته وليفرض استمراره. ولا تُظهر التطوّرات واستمرار الزخم الثوري كل أسبوع أن النظام يتّجه لنجاح في حلّه الأمني هذا، ولو أنه سيطر على أكثر المناطق التي كان قد فقدها في الآونة الأخيرة، في حمص وريف دمشق ومنطقة جبل الزاوية (في الشمال الغربي).
بموازاة كل هذا، تبدو بعض الآراء وردود الفعل على ما يجري قاصرة عن فهم الكثير من الأمور أو عن محاولة الفهم خارج مواقف مسبقة فيها المزيج من السذاجة وتصديق نظريات المؤامرة أو تكرار بلاهات صارت سهلة الترقّب والتوقّع، أو طرح أسئلة حول قضايا لا علاقة لها بسوريا للتهرّب من أخذ موقف يتعلّق بإدانة جرائم نظامها.
النص التالي هو إعادة بحث “بالبديهيات” التي ينساها البعض أو يتناساها حول سوريا والثورة السورية.
– ما هو عمُر آل الأسد في السلطة؟
يفيد التذكير على الدوام أن سوريا، وهي جمهورية (وليس مملكة)، محكومة من عائلة منذ 42 عاماً، وأنها بهذا المعنى الوحيدة في المنطقة العربية والثانية في العالم بعد كوريا الشمالية، التي حكمها أب ثم سلّم حكمها الى ابنه. فبعد انقلابه – وكان يومها وزير الدفاع في الحكومة البعثية – واستيلائه على السلطة في العام 1970، حكم حافظ الأسد سوريا حتى وفاته العام 2000 حين عُدّل الدستور لجعل عمر الرئيس 34 عاماً (بعد أن كان 40)، لتمكين ابنه بشار من الترشّح، وتوريثه الرئاسة. واستلم الإبن السلطة ومضى على وجوده فيها 12 عاماً. على أن الحكم العائلي لا يقتصر على الأسد الأب وابنه. فهناك أخ بشار، ماهر، وهو قائد الفرقة الرابعة في الجيش، الأكثر تدريباً وتجهيزاً، وهو أيضاً من قادة الحرس الجمهوري، وهناك ذو الهمة شاليش وحافظ مخلوف، وهما أبنا عمة وخال الرئيس المسؤولان عن أجهزة الأمن، وهناك آصف شوكت زوج أخت الرئيس وهو من مسؤولي المخابرات، وهناك عاطف نجيب وهو ابن عمّة الرئيس الذي كان مسؤولاً عن منطقة درعا حيث ارتُكبت أولى المجازر وعُذب الأطفال في بداية الثورة السورية قبل سنة، وهناك أيضاً رامي مخلوف إبن خال بشار صاحب أهم الامتيازات والوكالات الاقتصادية والمالية في البلاد. وهناك طبعاً الجنرال محمد مخلوف، خال الرئيس، وأحد مهندسي عمليات النظام القمعية المتواصلة.
العائلة إذن تمسك مفاصل السياسة والأمن والاقتصاد، وتتشارك مع مسؤولين في حزب البعث وبعض التجار ورجال الأعمال الكبار في إدارة البلاد والعباد.
– ما هي أبرز معالم هذا الحكم؟
فرض حزب البعث قانون الطوارئ منذ أول انقلاب له في سوريا عام 1963، واستمر هذا القانون على مدى 48 عاماً. والقانون يمنع التظاهر والتجمّع وإطلاق المبادرات السياسية، كما يقيّد الحريّات العامة والخاصة ويُطلق يد الأمن والمحاكم العسكرية في كل قضية تصنّف مرتبطة بأمن الدولة. وحزب البعث بحسب الدستور الذي اعتُمد خلال 30 عاماً من حكم الأب و11 عاماً من حكم الإبن هو “قائد الدولة والمجتمع”. وهو ينظّم الطلاب في كشافة واتحادات، والنساء كما الفلاحين والعمّال والمدرّسين والرياضيين في روابط ونقابات، ويَشترط الترشّحُ لمعظم المناصب العليا في الدولة الانتسابَ له. الحكم إذن مستوحى من تجارب أوروبا الشرقية قبل انهيار جدار برلين، مضافة إليه المسألة العائلية على الطريقة الكورية الشمالية، كل ذلك بالتوازي مع نظام اقتصادي موجّه تديره الدولة بقطاعها العام المتضخّم سنة بعد سنة. ووظّف الحكم المسألة الطائفية في سوريا لتأمين قاعدة له، من خلال اعتماده على الأقارب وعلى تعيين عدد كبير من المسؤولين من المتحدّرين من المنطقة والطائفة التي يتحدّر منها آل الأسد. وهذا ما جعل النخبة الأمنية والعسكرية في الدائرة الضيقة حول الرئيس بمعظمها علويّة، على أنها تتشارك مع سياسيين ومتموّلين من جميع الطوائف في حكم البلاد. وبهذا المعنى، ليس النظام علوياً كما يتردّد في الكثير من وسائل الإعلام، بل هو عائلي مخابراتي ينتمي أبرز أركانه الى الطائفة العلوية ويعمدون الى إقناعها، بأنهم ضمانتها وحُماتها من التهميش والاضطهاد، وبأنهم موجودون في السلطة لتمثيلها.
وبعد العام 2000 ووصول بشار، حافَظ الرئيس “الشاب” على البنية الأمنية والمخابراتية والسياسية للنظام، واعتمد بالمقابل خصخصة إقتصادية استفاد منها أقاربه وأعوانه، واستفاد منها أيضاً بعض التجار والمستثمرين في مدينتي حلب ودمشق بخاصة. وتمتّنت منذ ذلك الوقت العلاقات التجارية مع الصين، ثم مع تركيا، قبل أن تتراجع مع الأخيرة بعد بداية الثورة. وجذب النظام استثمارات قطرية وخليجية ابتداء من العام 2004، قبل أن تتوقّف بدورها ابتداء من ال2011. أما النفط، فقسم أساسي من موازنته يديره الرئيس مباشرة، ولا يمرّ عبر الحكومة أو مجلس الشعب، وفي هذا تقليد كرّسه الأب على أساس “الحاجات الاستراتيجية” لسوريا.
– ما هي الشمولية الأسدية؟
لا تخلو مدينة أو بلدة في سوريا من تمثال لحافظ الأسد. وقد حطّم الثوار منذ اندلاع الثورة مئات التماثيل. وتتّخذ كثرة من الهيئات والمدارس والمكتبات والطرقات والمرافق العامة اسم “الأسد” مسمّى لها. كما ترتفع صور تجمع الرئيس الأسد الأب وابنه باسل (الذي قضى في حادث سير عام 1993) والرئيس الإبن بشار في معظم شوارع سوريا وداخل المكاتب في المؤسسات العامة. وحتى المدارس الإسلامية السنية التي أنشأها الأب ابتداءً من النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، بعد حربه مع الأخوان المسلمين ومحاولته بعد استئصالهم بالاستثمار في الحقل الديني للسيطرة عليه، أسماها “مدارس حافظ الأسد لتعليم القرآن”. كل هذا يُضاف الى خطابات الأسد و”الأقوال المأثورة” المنسوبة إليه والى ابنه التي تشكّل مادة “تثفيف” للمواطنين والمواطنات في وسائل الإعلام والمخيّمات، الى جانب ما يُدرّس من تربية “قومية” ومن مبادئ حزب البعث.
والأهم اليوم، أن سوريا نفسها يُسمّيها مناصرو النظام “سوريا الأسد”، وأن حرب الشعارات بين المعارضة والنظام تتّخذ من التنافس بين “الأسد” و”الحرية” موقعة لها. فبينما يهتف الموالون “الله سوريا بشار وبس” يهتف المعارضون “الله سوريا حرية وبس”. وبينما يقول الموالون “الأسد قائدنا الى الأبد”، يردّ المعارضون “حرية للأبد غصباً عنك يا أسد”…
– حماة، تدمر، الجولان، فلسطين ولبنان في خطاب النظام السوري
إحتلّت إسرائيل الجولان عام 1967. يومها كان حافظ الأسد وزير الدفاع. وفي العام 1973، حاولت سوريا (بعد أن صار الأسد رئيساً) استعادة أرضها المحتلة خلال الحرب التي حاولت مصر فيها أيضاً استعادة سيناء (وهي الحرب العربية الاسرائيلية الوحيدة التي أخذ العرب فيها المبادرة)، لكنها فشلت. ظلت إسرائيل محتلةً للجولان، وتوصّل الطرفان الى هدنة وفصل قوات، ولم يحصل أي خرق لهذه الهدنة منذ العام 1974. أي أن منطقة الجولان صارت منذ ذلك التاريخ المنطقة الأكثر هدوءاً بين جميع المناطق الحدودية التي تفصل الدول العربية عن إسرائيل. على أن النظام السوري عوّض عن غياب كل مقاومة عسكرية لتحرير أرضه بلغة سياسية وببيانات لا يخلو واحد منها من الحديث عن المقاومة وعن مواجهة العدو ومؤامراته. كما أنه وظّف هذه اللغة والبيانات ليتّهم كل من يعارضه داخل سوريا بأنه أداة للمؤامرة الإسرائيلية، وبرّر كل قمع يقوم به ضد خصومه السوريين بأنه نتيجة حاجته لتوحيد الصفوف في وجه الاحتلال. وفي العام 1976، اجتاح الجيش السوري لبنان، بغطاء من الجامعة العربية وبتنسيق مع الخارجية الأميركية وبموافقة إسرائيلية (عرض لشروطها وتفاصيلها الوزير هنري كيسنجر في مذكّراته)، بحجة وقف الحرب الأهلية التي بدأت عام 1975، ومنع منظمة التحرير الفلسطينية المشاركة في الحرب آنذاك “من السيطرة على لبنان”. واحتل جيش النظام السوري البلد المجاور له (الذي شهد أيضاً اجتياحات إسرائيلية عامي 1978 و1982) حتى العام 2005. وسيطر على الحياة السياسية فيه، ولم يوقف الحرب الأهلية بل أدارها حتى العام 1991 ودعم حلفاء له فيها ونصرهم في آخرها على من تبقىّ من خصومه. كما أضعف منظمة التحرير، وضرب العديد من المخيمات الفلسطينية حيث تواجد المقاتلون الفلسطينيون في لبنان (من تل الزعتر الى البداوي ومن صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة وصولاً الى عين الحلوة والرشيدية). وبعد تحالفه مع إيران خلال حرب الأخيرة مع العراق – حيث حَكم توأمه البعثي، وعدوّه في نفس الوقت – سمح لطهران بلعب دور في الساحة اللبنانية، يُعدّ حزب الله من أهم ثماره. كما أنه للسيطرة على البلاد وإعادة تشكيل السلطة فيها بعد نهاية الحرب، حصل حافظ الأسد على تفويض أميركي – سعودي بعد أن شارك في حرب “عاصفة الصحراء” ضد العراق عام 1991 بقيادة أميركية لتحرير الكويت. ثم وافق على مفاوضات السلام مع إسرائيل وشارك في مؤتمر مدريد وكل المؤتمرات التي تلته. على أنه كان وهو يقوم بكل ذلك، يستمر في بياناته وإذاعته ووسائل الإعلام التي يملكها، بالحديث عن مواجهة الامبريالية والصهيونية والدفاع عن سوريا وفلسطين والأمة العربية. كما أنه استغلّ أدوار سوريا السياسية الاقليمية لصرف النظر عن المجازر التي ارتكبها داخلها. فقتل بين العامين 1980 و1985 وعلى مراحل، أكثر من 40 ألف سوري بحجة الحرب على مئات من الأخوانيين (وعناصر الطليعة المقاتلة). ومجازر حماة وسجن تدمر محفورة في الذاكرة. وهو استفاد من الصمت (التواطؤ) الغربي عن الأمر يومها، بحجة أنه كان يحارب التطرف الإسلامي، ليعتقل في الفترة إياها عشرات الألوف من السوريين الإسلاميين واليساريين، ممّا اضطّر عشرات الألوف الآخرين الى مغادرة سوريا والعيش في المنفى. أما في لبنان وفي المخيمات الفلسطينية، فلاقى الألوف حتفهم نتيجة الحروب التي شنّها نظام دمشق مباشرة أو بواسطة حلفائه اللبنانيين.
– المعسكر الشرقي، القومية العربية، والممانعة؟
إستفاد النظام السوري من حلفه مع الاتحاد السوفياتي ومن النموذج السوفياتي الذي طبّقه، رغم تعاونه في مراحل عدة كما ذكرنا مع الولايات المتحدة، وتحديداً عند اجتياح لبنان عام 1976 وخلال حرب الخليج الثانية عام 1991. والاستفادة هذه ارتبطت بالمساعدات العسكرية وبمَنح التعليم وبالتبادل التجاري. لكنها ارتبطت أكثر بظهوره مظهر النظام التقدمي المتحالف مع قيادة “الطبقة العاملة والقوى الثورية” في العالم. كما أن حديثه الدائم عن الحق العربي والعدالة والاشتراكية، وانتقاده الإعلامي اليومي للأنظمة المتحالفة مع واشنطن، جعل كثراً من الناس والمراقبين الذين لا يعرفون سوريا والمشرق، ويطلّون عليهما من بعيد يظنّون أن في ما يقوله مصداقية ما. كما أنه استفاد من قدرته على التحالف مع أكثر من طرف في الوقت عينه ليحدّ من أثر انتقاده للأنظمة المتعاونة مع “الغرب”. وسمح له موقع سوريا الاستراتيجي، على حدود إسرائيل والعراق ولبنان وتركيا والأردن، وجميعها بلدان ترتبط بصراعات أو ثمة حروب داخلها، كما سمح له تراجع دور مصر بعد اتفاقية كامب ديفيد، بلعب دور مؤثّر في عدد من الحالات، أو في استدراج مفاوضات مع أطراف دولية تبحث كل فترة عن مخارج أو عن تسويات. هكذا فاوض على الرهائن الأميركيين والاوروبيين الذين كانوا يُخطفون في لبنان مثلاً، وفاوض لاحقاً على شروط إنهاء الحرب في البلد. كما فاوض مع الوسطاء في شأن الصراع العربي الاسرائيلي، وفاوض في ما خصّ الحرب الإيرانية العراقية ثم الأميركية العراقية، وفاوض الاتراك بخصوص الشأن الكردي بعد أن سمح لحزب العمال باستخدام الأراضي السورية لشن العمليات ضد أنقرة، في وقت شارك نظامه على الدوام في اضطهاد الأكراد وحجب حقوقهم.
ومع تسلّم ابنه السلطة، استمر الرئيس الجديد على نفس المنوال، وساعدته الحرب في العراق بعد ال2003 والحرب على “الارهاب الاسلامي” ليتعاون مع أجهزة مخابرات دولية فيسلّم سلفيين جهاديين كان قد سمح لهم بدخول سوريا لتصديرهم الى العراق. وبعد تصاعد المعارضة له في لبنان، واغتيال مسؤولين ومثقفين لبنانيين معارضين لهيمنته وقيام انتفاضة شعبية في وجهه، خسر الأسد الإبن ورثة والده في بيروت عام 2005، واتّهم بالطبع الامبريالية بالتسبّب بذلك. لكن المصالحة الفرنسية معه عام 2008 بعد قطيعة شيراك بين ال2004 وال2007 والتطبيع السعودي والأميركي وإعادة السفراء الى دمشق أوقفت الاغتيالات والحوادث الأمنية في لبنان، مما شكّل بذاته دلالة على مسؤوليته عنها.
بهذا، بنى النظام على مدى 42 عاماً مفردات ولغة تدور حول المؤامرات ومواجهة الصهيونية والامبريالية، حتى ولو لم يفعل شيئاً يترجمها ميدانياً، سوى سماحه بتمرير أسلحة إيرانية لحزب الله ليوظّف استخدام الأخير لها ضد إسرائيل ويقول إنه يقود المقاومة في المنطقة. ولا شك أن بعض الأوساط اليسارية الغربية أو المعادية للسياسات الأميركية المتواضعة الثقافة في ما خصّ الشرق الأوسط، والتي تستهويها ثنائيات المؤامرات والمقاومات، تأثّرت بتراكم عقود من استخدام نفس اللغة والمقولات، فصارت شبيهة ببعض القوميين واليساريين العرب المستفيدين من حلف طهران-دمشق، ممّن لا تعنيهم قضايا الحرية والديمقراطية في شيء.
– الربيع العربي والثورة السورية و”تجدّد التآمر”؟
بُعَيد بداية الربيع العربي قبل عام ونيّف، في تونس ومصر ثم اليمن وليبيا والبحرين، احتفل يساريون وليبراليون حول العالم بالتغيير في المنطقة العربية، ورافقهم في ذلك عرب من منابع سياسية مختلفة. لكن وصول الثورة الى سوريا، التي قال رئيسها في فبراير 2011 أنها استثناء وأن لا خوف من اضطرابات فيها “لأن الشعب معه ولأن الإصلاحات فيها قائمة ولأن سياستها الخارجية تعبّر عن مواقف الشارع”، بدأ بعض المحتفلين بالثورات يلوذ بالصمت أو يحاول تمييز ما يجري في سوريا عن سائر الحالات، فيما اندفع البعض الآخر، للحديث عن موضوعه المفضّل: المؤامرات! هكذا، استعاد هؤلاء مخزون اللغة ومفرداتها التي ردّدها نظام العائلة الأسدية على مدى عقود، وراحوا يبحثون عن مراكز التآمر والمكائد. فتارة هي سلفية، وتارة أميركية، وتارة سعودية، وتارة تركية، وتارة أخوانية، وتارة قطرية، وتارة هي كل ذلك مجتمعاً. وبظرف أيام، تحوّلت قطر مثلاً وقناة الجزيرة التي كان نفس الأشخاص يُشيدون بها وبدورها على مدى سنوات، الى مركز دسائس وعمالة لأميركا. وتحوّل أردوغان، الذي عُدّ بطلاً قومياً بعد حادثة الفلوتيلا مع إسرائيل، الى متآمر لصالح الامبريالية والصهيونية. وتحوّل أيضاً وأيضاً الحديث عن الحرية والكرامة الى حديث في الخطط الاستعمارية الجديدة ضد المشرق العربي والقضية الفلسطينية. ولم يأت تدخّل حلف شمالي الأطلسي العسكري بتفويض من الأمم المتحدة ضد طاغية ليبيا (ولو أنّه تخطّى موجبات التفويض) سوى ليكرّس الكلام هذا عن تآمر وخطط، رغم أن العواصم المعنية جميعها أكّدت ان سيناريو ليبيا لا يمكن تكراره في سوريا، ورغم أن الموقفين الروسي والصيني أظهرا منذ البداية تشدّداً لا يسمح حتى بالإدانة الحازمة لجرائم نظام دمشق، فكيف بالتدخل ضده؟!
ورغم كل الصور والتقارير وعشرات ألوف الأفلام التي تظهر الوحشية غير الطبيعية، والتي تبدو معها أنظمة مبارك وبن علي وصالح وآل خليفة شديدة اللطف والرأفة إن قورنت بنظام الأسد، استمرّ الحديث عن المؤامرات والامبريالية. وعمد بعض كتّاب اليسار “البافلوفي” الذين لا يرون شعوباً في كتاباتهم بل أنظمة وحدوداً وصراعات وأسراراً الى طرح أسئلة بديهية لتحوير الأنظار عمّا يجري في سوريا، متسائلين مثلاً عمّا إذا كانت السعودية ديمقراطية، أو متحدّثين عن قطر وأموالها. وكأن هناك شك في لا ديمقراطية الحكم في السعودية، أو كأن هناك من لا يعرف أن لقطر ثروات فائضة! وبالطبع، لم يقولوا مرّة ما علاقة ذلك بالجرائم والمذابح المرتكبة من قبل نظام الأسد في درعا وحمص وإدلب؟ ولم يجيبوا هم وغيرهم من المشكّكين بالثورة السورية عن جوهر المؤامرة التي يرون، وعن أسباب العجز العربي والارتباك الدولي حتى من خارج مجلس الأمن وعقبته الروسية – الصينية. وبالطبع تجاهلوا المواقف الاسرائيلية المطالبة بالستاتو-كو في سوريا والحريصة على هدوء الجولان والتي لا أولوية لديها راهناً سوى عزل طهران وليس دمشق… فقط كلام سطحي عن مؤامرات، وتناسي لوجود شعب سوري يريد الحرية بعد 42 عاماً من حكم الأسدين الأب والابن وبعد عقود من قانون الطوارئ والحزب الواحد وعشرات ألوف القتلى.
– الإسلاميون والأقلّيات؟
يثير أنصار النظام السوري، المدّعون تمسّكاً بالعلمنة، مخاوف من البديل الإسلامي لنظام البعث. ويهربون بذلك من السؤال حول الاستبداد والحرية الى البحث في العلمنة والإسلاموية، متناسين أن الاستبداد البعثي الأسدي لا يحمل من سمات العلمانية سوى شعارات، في حين أن قانون الأحوال الشخصية في سوريا يستند الى أحكام الشريعة، والدستور يعدّها مصدراً من مصادر التشريع، والدستور الجديد المقترح مؤخراً من بشّار ينصّ على دين الرئاسة وشرطية إسلامها. هذا ناهيك طبعاً عن أن القمع ومنع العمل السياسي طيلة نصف قرن لا يترك أصلاً غير المساجد أماكن للاجتماع والتواصل الاجتماعي السياسي.
والأنكى من هذه الثنائية المفتعلة والكاذبة، هي المقولة التي تُبدي الذعر على “الأقليات” التي يحميها النظام على ما يُردّد. والمقصود بالتعريف الأقلّوي يشمل طبعاً العلويين والمسيحيين بشكل خاص، وثمة من يُضيف الدروز. بهذا، يجمع مكرّرو هذه النظرية ثلاثة منطقين بائسين: الأول، جاهل يخلط الأمور معتمداً البشر كتلاً طائفية وجماعات دينية ومجرّد أرقام لا إنسانية لها ولا مواقف ومصالح وقيم واختلافات تميّز بين الأفراد وخياراتهم؛ وهو يضعها في سلّة واحدة ما لسبب إلا “لأحجامها المتواضعة”؛ والثاني أخلاقي، إذ أن دعاة هذه النظرية يريدون الدفاع عن نظام يسحق أكثرية الناس بحجّة أنهم إن نجحوا في نيل حقوقهم وفي تكوين سلطة شرعية تنبع من إرادتهم، فستكون “الأقليات” في خطر. بهذا يصبح قتل الأكثرية ضرورة لحماية الأقليات! ولا يتوقّف السقوط الأخلاقي لأصحاب المنطق هذا عند هذا الحدّ. فهم، ولو ادّعوا علمنة، طائفيون يحرصون على تقسيم الناس أكثرية وأقليّات بناء على الانتماءات الدينية. كما أنّهم، وفي حال المنطقين، يعادون فلسفة الديمقراطية ومبدأ مساواة الناس حقوقاً وحريةً والتزاماً سياسياً وثقافياً، ولو ادّعوا حداثية وتنوّراً…
المسخرة أن عدداً من اليساريين يتماهون مع أقصى اليمين (وهذا ظاهر في الحالة الفرنسية مثلاً) في التحذير من الأسلمة وفي دعم الأسد، ويرون – بعد احتفالياتهم بثورتي تونس ومصر – في نتائج الانتخابات هناك دليلاً على الخوف هذا. أما احترامهم لحقوق الانسان التي يحاضرون بها ودعمهم لتحرّر الناس فتتبخّر حين تلامس الضفة الأخرى للمتوسّط.
وبمعزل عن ذلك، هل صحيح أصلاً أن وصول إسلاميين الى السلطة عبر انتخابات حرّة واحتمال خروجهم اللاحق منها بواسطة صناديق الاقتراع أيضاً أشدّ خطورة من الاستبداد والقمع والقتل والسجن؟ وهل إن طال حكم الاستبداد سنة أو سنتين أو ثلاثة، سيصبح بديله لاحقاً غير إسلامي (إن صحّ أنه إسلامي اليوم)؟ أم أن المسألة تتعلّق بالاستبداد نفسه وبعنصرية تعدّ الحرية قيمة لا يستحقّها العرب أو المسلمون؟
ثم لِنصدّق نِفاق أو بلاهة القائلين إن الثورة السورية هي سلفية. هل في هذا ما يبّر قتل الألوف من الناس وقلع أظافر الأطفال تحت التعذيب وذبح عائلات بأكملها؟ وهل قتل أي إنسان، وإن كان سلفياً، مبرّر؟ إن القول بتبرير الجرائم يستحقّ الإدّعاء على صاحبه بتهم العنصرية والتحريض على القتل أو الدفاع عن القتلة. وهو في أي حال مرض من أمراض الفاشية.
– الملل والتدخّل والعسكرة والفوضى؟
قد يكون الملل أصاب بعض المتابعين للثورات العربية، وقد يكون التدخّل العسكري في ليبيا وغياب المعلومات الدقيقة حوله كما الانتخابات في مصر وتونس وتقدّم التيارات الإسلامية فيها، قد أدّت الى تراجع الاهتمام بالوضع في سوريا كون الثورة طالت وأخبار القتل فيها صارت يومية. لكن هذا لا يبرّر غياب الاهتمام بآلاف الضحايا ولا يبرّر الحديث عن حلّ مع القتَلة ولا عن رفض مطلق لأي تدخل خارجي. ولا يبرّر كذلك القول بضرورة بقاء الاستبداد عوض الفوضى. فلا التدخّل يقتصر على وجهه العسكري. إذ فيه المساعدات الطبية والإنسانية والضغط السياسي والمزيد من العقوبات ورفع الدعاوى على المسؤولين ومنع سفرهم وطرد سفراء النظام. ولا التدخّل العسكري هو بالمبدأ أمر مرفوض. فدور الأمم المتحّدة والمجتمع الدولي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يلحظ التدخّل لمنع الجرائم ضد الانسانية. وإن كانت الحرب الباردة وازدواجية المعايير وعدم التدخل في حالات كثيرة، أو سوء إدارته في حالات أخرى قد جعلت الأمر مثيراً على الدوام للشكوك، إلا إن ضرورته في ذاتها ليست شتيمة أو تهمة. مشكلتها في الحالة السورية أن البحث حولها يولّد خلافات بين السوريين أنفسهم رغم أن شكلها العسكري غير مطروح في دوائر القرار (والتنفيذ)، على الأقلّ حتى الآن. والمشكلة أيضاً أن البحث في التدخّل لا يأخذ كل التجارب في عين الاعتبار لتكون هناك مطالبة واضحة بما يُرمى إليه من خلال الحديث عنه (وتجربة كوسوفو بالمناسبة جديرة بالدراسة).
أما في ما خصّ الخوف من الفوضى والحرب الأهلية، ففي الأمر رياء وديماغوجية. ذلك أن أصحاب الخوف يريدون من مئات ألوف المتظاهرين المطالبين بالحرية وبحقوق المواطنة، ومن أهل أكثر من 10 آلاف قتيل، أن يستكينوا ويرتضوا بما أصابهم ويصيبهم من ظلم وإجرام ويقبلوا باستمرار آل الأسد لسنوات إضافية، تجنّباً للفوضى، وبحجّة السلم والاستقرار. على الضحايا إذن وقف ثورتهم ضد النظام كي لا تقع الحرب الأهلية، وليس على النظام الرحيل لتجنّب المزيد من الدماء ولإطلاق مسار إنتقالي سلمي يحضّر للانتخابات!
والديماغوجية تبلغ ذروتها، حين يبدأ بعض “الباحثين” ومدّعي الاختصاص في الشأن الشرق أوسطي، ممّن لم يُسمع لهم صوت خلال الأشهر الستة أو السبعة الأولى للثورة بالتحذير الآن من مخاطر العسكرة. يستنكرون لجوء الضحايا الى محاولة الدفاع عن أنفسهم، ويستنكرون انشقاق الجنود من الجيش لرفضهم قتل أبناء وبنات شعبهم! صاروا اليوم يدعون للسلمية التي كانت قائمة على مدى أشهر وكانوا صامتين تجاهها أو حتى مشكّكين بأهدافها ومتخوّفين منها!
وينبغي الاستدراك هنا، والقول إن السلمية التي يجب الدفاع عنها كل يوم، والتي هي أبهى أوجه الثورة السورية، لم تنته أصلاً. فما زالت المظاهرات مستمرة، وبوتيرة أعلى من قبل. وما زالت الإضرابات والدعوات للعصيان المدني وتوزيع المنشورات وتنظيم الاعتصامات والأعمال الإبداعية أنشطة دورية ينظّمها الثوار في سوريا. أما العسكرة، فصارت مع الأسف، نتيجة إجرام النظام ورفضه الرحيل، إلزامية. وصار كثر من السوريين متعلّقين بها لظنّهم أن النظام لا يفهم سوى لغة العنف وأنه لن يوقف مجازره ولن يسقط ما لم تجر الإطاحة به بالقوة. هل تشخيصهم دقيق؟ تصعب الإجابة اليوم بعد كل ما جرى. والأوضاع أساساً متحرّكة ومتبدّلة، وللسوريين في أي حال الحقّ في تجربة السبل جميعها التي تتيح لهم الخروج من ليلهم الطويل.
خاتمة: شعب سوريا
يفيد في الختام العودة الى قضية يتناساها جماعة اليسار “المعادي للكولونيالية” أو عنصريو أقصى اليمين، والفروقات بينهم في الحال السورية محدودة. وهي أن الجيوستراتيجيا والإسلاموفوبيا والبحث عن المؤامرات في واشنطن وتل أبيب، تماماً كما الحكي عن الأقليات والخوف من الاكثريات، تغيّب جميعها جوهر الموضوع. وهذا الجوهر هو أمر يبدو بسيطاً للغاية، لكن فيه تكمن كلّ التعقيدات والصعوبات: حرّية الشعب السوري وحقّه في الحياة….
أمام هذه الحرّية وأمام هذا الحق، كل الكلام والتحليل و”مقاومة الامبريالية” الافتراضية، وكل الحكي عن السلفية والمؤامرات، تفاصيل باهتة لا تغيّر في الموقف الإخلاقي قبل السياسي، ولن تُفلِح في التغيير: نُصرة الشعب السوري ودعمه حتى الانعتاق من الاستبداد. أما بعد ذلك، فله أن يختار ما يريد، وله أن يعبُر التجارب التي لن تكون سهلة، الى أن يصل الى ما يستحقّه بعد تضحياته العظيمة وبعد كل ما قدّم على مدى الأشهر الطويلة الماضية: العيش بكرامة وبسلام وبحرّية تحت شمس هذا العالم.