صفحات العالم

سوريا: أجواء حرب باردة جديدة


د. عبدالله خليفة الشايجي

في مقالة الأسبوع الماضي في هذه المساحة تحدثنا عن الثورة السورية وسقوط الأقنعة للدول الكبرى وعودة أجواء الحرب الباردة عن طريق الاصطفاف حول سوريا بمن معها وبمن ضدها. وأتت استقالة المبعوث العربي والدولي كوفي عنان بعد أشهر من مهمته الفاشلة، وتلكؤ النظام السوري في تنفيذ أي من بنود مبادرته الستة، وهذا ما كان متوقعاً بطبيعة الحال. وكان معبراً إحباط عنان الذي وصف مهمته بالمستحيلة، بسبب الخلافات والاتهامات والانقسامات بين الدول الكبرى. وما لم يقله عنان أيضاً هو أن سبباً أساسياً لفشل مهمته يكمن في اقتناع النظام السوري وقوات المعارضة والجيش الحر بأن أي وقف للمواجهة يعني بداية النهاية لذلك الطرف في معادلة صفرية قاتلة تهدد باستمرار النزيف وغياب الحسم في ظل العودة لأجواء حرب باردة إقليمية ودولية، وغياب الحسم من الطرفين لتوجيه ضربة قاسية للطرف الآخر.

ومن مزايا الحرب الباردة بين القطبين الكبيرين -الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة والاتحاد السوفييتي السابق وحلفائه منذ نهاية الأربعينيات إلى عام 1991 من القرن الماضي- كانت الانقسامات وصراع القوى وشل الأمم المتحدة وتعطيل مجلس الأمن بسلسلة متبادلة من حق النقض “الفيتو”، ودعم كل طرف لحلفائه، وخوض حروب بالوكالة، في اصطفاف محموم للدول الكبرى مع حلفائها الإقليميين من شرق آسيا إلى الشرق الأوسط. وفي الوقت الذي ساهمت فيه الحرب الباردة والاستقطاب الدولي يومها في منع تفجر حرب عالمية ثالثة بسبب توازن الرعب وشبح الهلاك الأكيد للطرفين المتصارعين، إلا أن هذه الحرب الباردة قادت إلى شلل منظمة الأمم المتحدة، وفاقمت من سباق التسلح، ونشرت ووسعت نطاق الحروب بالوكالة في أكثر من إقليم على المستوى الدولي.

واليوم تتكرر أجواء الحرب الباردة في المنطقة من خلال مسار الثورة السورية التي أسقطت الأقنعة كما أوضحنا في مقالنا السابق. وهذا الفصل الجديد من الحرب الباردة رأينا تجلياته في صدع الانقسام وإشهار “الفيتو” في الأمم المتحدة حول الثورة السورية، وتزويد النظام والمعارضة بمعدات ودعم لوجيستي، وحتى أسلحة وتدريب. وكذلك تمددت حالة الحرب الباردة بين الدول العربية بقيادة دول مجلس التعاون الخليجي من جهة وإيران من جهة أخرى على مسرح الثورة السورية.

وفي الوقت الذي يستمر فيه الخيار العسكري والأمني في حصد المزيد من الأرواح في سوريا ليقترب العدد من عشرين ألفاً، ما يجعلها أكثر الثورات العربية طولًا ودموية، يتواصل انسداد أفق الحل، وسط عجز عربي ودولي وانقسام في مجلس الأمن يشل المنظمة الدولية.

ومع “الفيتو” الروسي الصيني ثلاث مرات، والتصويت ضد مشروع قرار عربي في الجمعية العامة للأمم المتحدة يدين جرائم النظام السوري، يتكرس ما عبرتُ عنه في هذه المساحة من أن روسيا والصين باتتا وكأنهما “أعداء العرب الجدد”! ضمن اصطفاف الدول الكبرى والإقليمية خلف حلفائهما في الثورة السورية.

ولعل أكثر ما بات ملفتاً في الثورة السورية هو خروجها عن سياقها الداخلي والمحلي وتحولها، كما لمح لأول مرة أمين عام الأمم المتحدة “بان كي مون”، إلى حرب بالوكالة تدعم فيها الثورة القوى الإقليمية العربية من جهة مع تركيا وبدعم وتأييد من القوى الغربية، وفي المقابل تصطف مع النظام السوري قوى كبرى وإقليمية أخرى بقيادة روسيا والصين إيران، وتؤازرهم دول الكومبارس فنزويلا وكوبا.. وهي أطراف عارضت حتى قراراً غير ملزم من الجمعية العامة للأمم المتحدة قدمته المملكة العربية السعودية بدعم عربي.

كما أن تشظي وانقسام المعارضة وعجز قوات الجيش السوري الحر عن حسم المواجهات بسبب قدرة النظام على توظيف جميع الأسلحة وخاصة الأسلحة الثقيلة والطيران، واقتناع طرفي الصراع بأن أي تراجع من أي منهما يعني نهايته في معادلة صفرية قاتلة، لذلك لجأ الجيش الحر إلى حرب مدن وشوارع ليتغلب على كثافة النار واستخدام الأسلحة الثقيلة والطيران من قبل الجيش السوري ما أجبره على تغيير عقيدته العسكرية من حرب ومواجهة العدو في جبهات قتال مفتوحة إلى خوض حرب ضد منشقين عن الجيش النظامي وجماعات مسلحة في مدن ومناطق سكنية وحرب شوارع في المدن. وهذه ليست مهمة الجيوش النظامية وليست من ضمن تدريبات الجيوش.

وقرار الجمعية العامة الذي صدر مساء الجمعة الماضي واعتمد بأغلبية 133 دولة وامتناع 31 دولة عن التصويت بينها دولتان عربيتان (لبنان والجزائر) ومعارضة 12 دولة على رأسها روسيا والصين مساء الجمعة الماضي، يدين استخدام النظام السوري للأسلحة الثقيلة في قصف المدن والمعارضة، ويطالب بوقف استخدامها وانتقال سلمي للسلطة. ويعبر عن “القلق البالغ” لتصاعد العنف في سوريا، ويطالب بانتقال سياسي في البلاد، وينتقد قرارُ الجمعية العامة ويأسف “لفشل مجلس الأمن في الاتفاق على إجراءات لضمان إذعان السلطات السورية لقراراته”. وقد أوضح المندوب السعودي، رئيس المجموعة العربية في الجمعية العامة، أن القرار يرسل رسالة للعالم أجمع بأن سبب تعطيل مجلس الأمن هو التصويت السلبي للدولتين الكبريين روسيا والصين. أما المندوب السوري فكرر اتهامات بلاده لدول عربية وأجنبية بدعم الجماعات “الإرهابية”، وهي اتهامات لم تعد مقنعة في عصر الفضائيات المفتوحة ووسائط التواصل الاجتماعي ومشاهد الموت والدمار والمجازر والأشلاء التي تستهدف فئة وشريحة واحدة من المجتمع السوري!

وكان ملفتاً توصيف أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون، لتحول الصراع في سوريا إلى “حرب بالوكالة مع لاعبين إقليميين ودوليين يسلحون طرفاً أو آخر”، مذكراً بتوقعات الخبراء الذين أعربوا قبل 18 شهراً عن مخاوفهم من “التشدد والتطرف والإرهاب”، إلى جانب “حرب بالوكالة”، وبالتالي “تأكدت جميع تلك التوقعات”.

وهكذا نرى الانقسام في الداخل السوري، ورأينا الأقنعة التي سقطت، ونرى المواقف المتباينة والاصطفاف والاصطفاف المقابل في لعبة شطرنج قاتلة للاعبين إقليميين ودوليين. وفيما يستمر الشعب السوري في تسديد فواتير هذا التباين والتوازنات الداخلية والإقليمية، يغيب أي حل عملي يضع حداً لنزيف الدم هناك، حيث تحول الجميع إلى شهود عاجزين ورجال إطفاء غير قادرين على احتواء النيران المشتعلة. وهذا كله يُحمل القوى الكبرى والمجتمع الدولي مسؤولياتهما، ويفضح الدول المتواطئة التي تهدد مواقفها حماية المواطنين والسلم والأمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى