سوريا إذ تناهز السبعين/ إياد الجعفري
لا نعرف إن كانت تلك صدف التاريخ، التي جعلت أكبر تحول في تاريخ سوريا المعاصر يترافق مع نهاية العقد السابع من عمر “الكيان السياسي السوري” الذي نعرفه. حيث يُشاع أن متوسط أعمار السوريين يتراوح بين الـ 60 والـ 70…فهل هي صدفة تاريخية أن يتعرض كيان السوريين المعروف لـ “تدهور صحي” هو الأخطر من نوعه مع اقترابه من الـ 70 من عمره؟، أم أن الكارثة التي تعيشها سوريا هي التي تجعلنا أكثر ميلاً للأسطورية في طريقة تفكيرنا؟!
بكل الأحوال، أتم “الكيان السياسي السوري” الذي نعرفه منذ أيام الـ 69 من عمره، وهو بذلك يناهز السبعين، في وقت تُطرح بجدية تساؤلات حول مدى قدرته على الاستمرار في الحياة…هل يشارف “الكيان السياسي السوري” المعروف على الوفاة، لتخلفه كيانات جديدة مختلفة؟ منظّرون غربيون تحديداً يجزمون بذلك، بل تعتقد هذه الفئة أن “الكيان السياسي السوري” المعروف، دخل في حالة موت سريري، وبدأ الورثة بتقاسم التركة مُسبقاً، ولم يبقَ إلا الإعلان رسمياً عن الوفاة وترسيمها قانونياً.
فئة أخرى من المراقبين، غالبيتها من السوريين، ينظرون للأمر من منظار آخر، يرون أن تفتيت “الكيان السياسي السوري” المعروف أصعب بكثير مما يتصوره البعض، فناهيك عن العوائق والصعوبات الديمغرافية والاقتصادية واللوجستية والسياسية التي تعيق سيناريوهات الكيانات السياسية البديلة، يمكن تلمس حسّ وطني سوري عابر للانتماءات الأخرى، يظهر جلياً حتى في حالات المناكفة الإعلامية بين أنصار النظام ومعارضيه، ويظهر جلياً أكثر في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، التي لا يبدو أن الإدارات الذاتية العديدة التي تحكمها اليوم، أو تلك المحسوبة على تنظيم “الدولة الإسلامية”، قادرة على الخروج من الرحم السوري بصورة كاملة.
يذكر التاريخ أن “الكيان السياسي السوري” المعروف تطلب حوالي ربع قرن حتى تبلور تماماً، منذ دخول الفرنسيين لدمشق عام 1920، وتقسيمهم لسوريا ولبنان إلى ست دويلات، وحتى جلائهم عام 1946 بعد قبولهم، طوعاً أو قسراً، مع اختلاف التأويلات التاريخية، بسوريا موحدة باستثناء لبنان.
ويذكر التاريخ أن النخبة التي استطاعت بلورة “الكيان السياسي السوري” المعروف، احتاجت ربع قرن تقريباً حتى أنجزت مهمتها بنجاح، بعد الكثير من الكبوات ولحظات الفشل المؤقتة. لكنها فشلت لاحقاً في الحفاظ على حكم هذا الكيان بسبب صراعاتها الداخلية من جهة، وسذاجتها السياسية حيال التشكيلات “الأقلوية” المتفاقمة داخل مؤسسة الجيش، من جهة أخرى.
البورجوازية السورية، المدينية، التي تمكنت من إعادة توحيد “دويلات سوريا” المُقررة فرنسياً، فشلت، بعد جلاء الفرنسيين، في الحفاظ على مكتسباتها، وخسرتها لصالح نخبة “أقلوية” عسكرية ريفية المنشأ، احتاجت هي الأخرى قرابة ربع قرن حتى أتمت إنجاز مهمتها في إحكام السيطرة على “الكيان السياسي السوري” المعروف، وذلك إبان انقلاب حافظ الأسد نهاية العام 1970.
ومن ثم، احتاج حافظ الأسد أيضاً قرابة ربع قرن حتى تمكن من نقل حكم هذا الكيان من النخبة العسكرية التي انقلبت معه على حلفاء البعث عام 1970، إلى نخبة أضيق، عائلية (آل الأسد – مخلوف)، وأقلوية بصورة مباشرة (علوية)، على حساب ضباط ورجالات دولة سُنة كبار أُزيحوا تدريجياً من هرم السلطة خلال السنوات الأخيرة من عقد التسعينات، أو فقدوا عملياً نفوذهم الفاعل.
اليوم، لا يبدو أن أحداً قادر على الجزم بمصير “الكيان السياسي السوري” المعروف بعد أن ناهز السبعين من عمره، لكن ما يمكن الجزم به تماماً أن النخبة الضيقة التي حكمته منذ نهاية التسعينات فقدت السيطرة على معظم هذا الكيان. ومن المرجح أن تفقد السيطرة على ما بقي منه في أشهر أو سنوات قليلة قادمة، لصالح نخبة من الصعب الجزم اليوم بماهيتها، هل ستكون إيرانية المدد والمحتوى؟، أم ائتلافية تمثل الأكثرية السُنية في شقها المحسوب على الإسلاميين؟، أم سنترحم على “الكيان السياسي السوري” المعروف تماماً لصالح كيانات بديلة؟
يصعب الجزم اليوم بإجابات حاسمة على الأسئلة السابقة، ويبقى الترجيح سيد الموقف. لكن كُثراً، وأنا منهم، يعتقدون أن سوريا التي ناهزت السبعين، وتبدو اليوم في أسوأ أحوالها، ستنفض غبار المرض عنها، وتنهض من فراشها، لتحكمها نخبة جديدة، سيقول التاريخ كلمته في أدائها بعد ربع قرن آخر. وأن “الكيان السياسي السوري” المعروف، سيبقى على قيد الحياة لعقود أخرى مقبلة.
ليست القضية محض تفاؤل، بل على الأغلب هو الحسّ الوطني الذي يرفض القبول بسيناريو “موت سوريا” في نفوس غالبية السوريين. وحتى مع وجود فئات منهم تجد مصلحتها في الانكفاء عن سوريا، يبدو أن الجغرافيا والاقتصاد تعاندانها لصالح كيان سياسي، رسمه خبراء غربيون في غفلة من التاريخ، لكنه بات بحكم التاريخ، وعبر عقود من الأجيال، مترسخاً في نفوس أبنائه، كوطن أصيل لكل ألوان الطيف الديني والعرقي التي ضمتها حدوده.
المدن