سوريا: إعادة إنتاج بنية السلطة ليست حلاً للأزمة/ غازي دحمان
يدور في كواليس بعض العواصم الأوروبية الحديث عن رؤى سياسية جديدة، لحل الأزمة السورية، انطلاقاً من فكرة مفادها أن استمرار الأزمة لن يوصل أياً من الطرفين إلى حالة الحسم التي يتصورها، وبالتالي فإن انتظار الوصول إلى تلك المحطة ليس له أي جدوى عملية، سوى زيادة حجم الدمار في سوريا وارتفاع منسوب التطرّف لدى الجهتين المتقاتلتين، وتحوّل سوريا نهائياً إلى صومال ثانية، على أن يرتكز الحل السياسي على أسس منطقية وعملانية.
البعد العملاني في هذه المقاربة، التي أشرف عليها مؤسسة « الحوار الإنساني» ومركزها جينيف، والواضح أنها وراء خطة مبعوث الامم المتحدة ستيفان دي مستورا» تجميد النزاع» أو إقامة الهدن، يتأسس على ضرورة قبول الأطراف بإبقاء السلطة، بأشخاصها وأبنيتها، على ما هي عليه، على أن تجري لاحقا عملية إصلاح عميقة بداخلها، تطال الدستور وآليات الحكم، فإلى أي مدى تصلح هذه المقاربة لحل الأزمة السورية؟
في الواقع تختلف بنية السلطة في سوريا عنها في أغلب دول العالم، من حيث كونها سلطة متغلغلة على أكثر من مستوى وتنتشر بشكل عمودي وأفقي، في آن واحد، داخل البناء الاجتماعي السوري، فهي امتداد لسلطة البعث الذي صنع انقلاباً اجتماعياً أدى لظهور تشكيلات اجتماعية جديدة، وهي ممثل للأقليات في مواجهة الأكثرية، وهي اختراق للشرائح التجارية والدينية السنية، ودمجها ضمن منظومتها، كما أنها أسست لمنظومة حزبية أمنية وعسكرية بهندسة وإتقان وحوّلتها إلى بنية مدمجة ضمن الإطار السلطوي، وطبّقت هذا الأمر على المستوى المؤسساتي في سوريا نازعة عنه الصفة المؤسساتية من الناحية التقنية وتحويله إلى مجرد جهات تعبوية. باختصار، صارت السلطة متغلغة في كل مفاصل الدولة والمجتمع، وهو ما أدى في النهاية إلى إلغائهما وإزاحة الفواصل بينهما وبين السلطة – النظام، وصارت سوريا مجتمعاً ودولة «سوريا الأسد».
على مدار سنوات الحكم ، ظلت سلطة الأسد قادرة على إعادة إنتاج نفسها من خلال شبكة التغذية التي تأتيها عبر هذا التشكّل ومن خلال استخدامها المفرط للعنف وتهديدها الدائم به، وهو ما سمح لها بتحقيق سيطرة وضبط كبيرين على مدار سنوات طويلة.
في مرحلة لاحقة، وفي سنوات ما قبل الثورة، غرقت سلطة النظام بالفساد بشكل علني ومكشوف، ومن اجل ضمان تحقيق مردودية أكبر لمنظومة الفساد التي صنعتها، جرى تخليق شبكة عنكبوتية لموضعة الفساد ، لكنها خلقت بقعا واضحة من التهميش في كامل الجغرافيا البشرية السورية، وفتحت ثغرة كبيرة، حين حولت السلطتين السياسية والأمنية لمصادر استرزاق، نتج عنها انهيار البنى ذات الطابع العقائدي والأيديولوجي، مثل حزب البعث والجيش، وأصبحت كيانات مترهلة رخوة. وهي أكثر المؤسسات التي سيضربها التفكك بعد انطلاق الثورة.
غير أن السلطة في سوريا، ورغم انتشارها الأفقي الواسع وتغلغلها العميق في المجتمع، من خلال أدواتها الأمنية والحزبية، وتمفصلها في مختلف القطاعات، إلا أنها تميزت على الدوام بمركزيتها الشديدة وأبويتها، بحيث كانت مراكز القوى التابعة لها عبارة عن أذرع للمركز وليست صاحبة قرار، تتوقف سلطاتها عند حدود معينة وضمن قضايا محدّدة، كما بقيت قوى متفرقة لا ناظم لعلاقاتها سوى ارتباطها بمركز الأسد، الذي كان يصر على توريطها بالقضايا السيئة عبر تصديرها لتبني تلك القضايا والدفاع عنها، كالقهر والفقر والفساد، وهو ما ضرب أي إمكانية لبناء رصيد اجتماعي وسياسي لهذه القوة.
غير أن هذه البنى، حققت لنظام الأسد درجة من المرونة استطاع من خلالها الظهور بتعبيرات عديدة وبنسبة تمثيلية مهمة، لكنها أيضا زادت فرصه في الحماية والبقاء، فكان اذا ضعفت بنية عوضّها بأخرى وإن حصل توتر مع جهة استعاض بتقوية العلاقة مع جهة اخرى، وهكذا ضمنت له هذه اللعبة جعل الآخرين يشعرون على الدوام أنهم بحاجة للعلاقة معه وليس العكس، كما حصل في دول عربية أخرى، لعب على التوازنات وتحكم بها، وأدت تلك المعطيات، ممزوجة بمناخ تجفيف القوى الحزبية والاجتماعية، إلى تصعيب مهمة إيجاد بديل لسلطة الاسد في سوريا، وإفراز حالة الفوضى الرهيبة.
واستطرداً، فإن المقاربة السابق ذكرها لن تستطيع تفكيك هذه السلطة ضمن آليات العمل المطروحة، والغالب أنها ستمنحها الفرصة بدل ذلك لإعادة إنتاج نفسها من جديد، وبخاصة وأنها تترك بيدها كل الأدوات اللازمة لفعل هذا الأمر، وفي هذه الحالة لن تساهم سوى بوأد عملية التحول الكبرى وإعادة المجتمع السوري إلى حظيرة القمع والاستغلال تحت ذريعة العملانية والعقلانية، في حين أن الحل المنطقي والعادل، وهو مطلب غالبية السوريين، تفكيك هذه السلطة وإنهاؤها، بذهنيتها وطريقة عملها والتوجه لبناء شكل جديد من السلطة، يناسب عملية التحول الكبرى التي حدثت في سوريا والتي عكستها الثورة، بوصفها الحدث المحوري لكل التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة.
المستقبل