سوريا البوصلة.. لا فلسطين/ رشا الأطرش
مع اقتراب الثورة السورية من إتمام عامها الثالث، ورغم تحولها من حراك سلمي إلى تمرّد فأزمة فحَرب، يبدو لمتابعيها، قريبين من نارها وأحلامها كانوا، أم بعيدين، أنها ترسّخ خاصيتها كمعيار جديد. معيار للتفكير، للأفراد، للجماعات، للتنظير السياسي والثقافي والأخلاقي.. كميزان لعلاقات كثيرة، ضمن العائلة الواحدة أو الطائفة أو المنطقة أو حتى الحزب، وبين أصدقاء عُمر وزملاء عمل ومعارف.
سوريا الواقع المشرقي، والتي ظهّرت ثورتها تناقضاته وتشابكاته. سوريا النموذج الأشرس لاستبداد الحاكم، وقهره وجرائمه. والثورة على نظام يحتّم دمها الكثير. والمعارضة التي خرجت إلى النور، بعد عقود مظلمة، لتصارع ظلماً طال، وفي بطنها تتصارع تراكيبنا المتخلّفة مع قضايانا المحقة. وبذلك، باتت التمثيل الأكثر فجاجة، ليس فقط لأقصى الديكتاتوريات في بقعتنا هذه من الأرض، ديكتاتوريات “أقتل شعبك لتبقى”. بل هي أيضاً العيّنة الأكثر صراحة من شعوبنا، بطوائفها وقومياتها وتشظّي جماعاتها. منها وبها، نفهم أنفسنا، أو بالأحرى ما زلنا في مرحلة النظر – النظر فعلاً – في المرآة. لذا، بات الموقف، أي موقف، من القضية السورية الآن، بوصلة. بات مؤشراً على ماهية صاحب الموقف. عمقه السياسي، نظافته أو تبسيطيته أو انحيازاته – المنطقي منها والغريزي.
… حتى بالمعنى السياسي والأخلاقي الأعمّ… حتى فلسطين لم تعد البوصلة. سقطت، بالثورات العربية (وربما من قبلها)، مقولة القضية العربية المركزية، ولعبة زعماء عرب يطمسون الداخل من أجل دور خارجي شعاره المزعوم هو “فلسطين” و”الصراع مع إسرائيل”، على غرار ما فعل حافظ الأسد (ثم بشار) أو رؤساء مصريون منذ جمال عبد الناصر. الأرجح أن فلسطين لم تكن، في ذاتها، أداة لقياس الصواب السياسي. أخلاقياً، ومن حيث المبدأ، هي قضية واضحة، وإن واجه الفلسطينيون إشكاليات في بلدان لجوئهم… وإن عَمّمت الايديولوجيات السائدة في المنطقة نظرة تنميطية لليهود، أو نفت المحرقة النازية، أو وظفت لمصالحها تناقضاتٍ من نوع: السلام/الاستسلام، الهدنة/التطبيع، الدولة/الدولتين، فتح/حماس الخ.. هي مفاصل مهمة، بلا شك، لكن شيئاً لا يضاهي القضية السورية اليوم كمحكّ إنساني وتاريخي. ولعله، كان يفترض بهذا التفكير المركزي في شأن فلسطين، أن يندثر منذ زمن، منذ أثبتت القومية العربية وأخواتها من العقائد، جمودها الصلف، وأنها ليست سوى مَركَبة للاستبداد والقمع والتهميش. ولو أن احتلال فلسطين عومل كقضية الفلسطينيين، لربما كانت النتائج اليوم أفضل مما “أنجزه” العرب لـ”أشقائهم”، اللاجئين كما الصامدين في أراضيهم. ظُلمت فلسطين عندما صودرت من الفلسطينيين، وعلى النحو هذا بدأت تُظلَم الثورة السورية.
ليس في تاريخ العالم العربي، منذ نصف قرن على الأقل، ما يضاهي االقضية السورية من حيث أنها ذاك الميزان للأخلاق والسياسة، وإمكان دفع التفكير في اتجاه أكثر تركيباً، وبحمولة واقعية تحوي، في ما تحوي، فسيفساءنا المربك والمعقّد… وعلاقة ذلك كله بنظام حكم وحاكم، بمفهوم التسلّط والعسكرة والمدنية، ودورات الاقتصاد والإبداع بأنواعه، بل والتاريخ نفسه. لا الحرب (الحروب) الأهلية اللبنانية صعدت هذا الدرب إلى آخره، ولا الوقفات السياسية/الثقافية/الاجتماعية في مصر أو تونس أو ليبيا أو اليمن أو الجزائر..
وفي لبنان، أكثر من سواه، كشفت سوريا كثيرين. ليس بحكم الجوار الجغرافي و”المصيري” وتداخل التحالفات والخصومات فحسب. بل، الأهم، أن لبنان صورة مصغرة عن النسيج السوري، ولطالما كان الساحة الذي ينفّس فيه النظام (وإن لم ينحصر فيه الدور هذا) المحقون الاجتماعي والسياسي والطائفي في سوريا. نفّس في لبنان ما دعسه بجزمته لسنوات طويلة في سوريا. في السياق اللبناني، اليومي قبل السياسي، فُضحت صداقات، وتعرّى مثقفون وزعماء وأفراد.
وأطلقت القضية السورية السؤال – التمرين: هل في ما زال إمكاني أن أحب نتاج شاعر ما، أو باحث، أو روائي، أو صحافي، أو حتى موسيقي.. بمعزل عن موقفه من القضية السورية؟ السؤال في حد ذاته مسألة، ناهيك عن الإجابات المحتملة، مع الثورة، أم ضدها، أم توليفاً مركّباً بتفكير نقدي للنظام والثوار معاً. رفع الحدث السوري غلالات قديمة، عن حصيلة تجارب سياسية وحزبية، وصعدت من قعر النفوس أهواء وعصبيات لتعبّر عن نفسها بوقاحة هي، رغم كل شيء، صحّية، لأنها الحقيقة، العلّة الأصل الواجبة مواجهتها أخيراً.
باتت سوريا تعرّف الأشخاص والجماعة إلى حد كبير. وثمة المزيد من الأسئلة – التمارين القيّمة لذاتها: كيف أناصر الثورة؟ أو بالأحرى هل/كيف أنقد ما أناصر؟ وكيف أقارع ما أناهض تحت طائلة أن أتحوّل إلى نسخة مما أثور عليه؟ عيّنات من حوارات، تدور مثلاً في شبكات التواصل الاجتماعي، تضيء صنو النقاش هذا. التمرين الذي استحقّ، وحان وقته، بل تأخّر، لكنه حلّ في النهاية.
تلك أسئلة قد لا تجول في عقول وصدور الجميع. لكنها تقال بصوت مسموع، والجميع يسمع إن لم يسأل. قد يكون “الحق” السوري واضحاً. لا ينكره، في حدّه الأدنى، حتى عتاة “الشبيحة”، بدليل أنه أساس “الإصلاحات” التي ذرّها بشار الأسد عبثاً في عيون شعبه. لكن تفاعلاته هي المتشابكة، والتشابك هذا صورة واقعية تطفو جليّة على سطح الوعي، للمرة الأولى منذ عقود. هذا خطير، بلا شك. لكنه الحتمية، الضرورة. وهو بالضبط ما يجعل القضية السورية مستحِقّة للقب “الميزان”، الفردي والجماعي. يتأرجح التفكير السياسي، كما الثقافة والاجتماع، على كفتيه.. حتى يستوي في تحديد علاقة فرد بجماعة، أو بفرد آخر، أو علاقة جماعة بـ”وطن”. ما هو الوطن؟ من أنا؟ من أنتم؟ هل فهمنا ماضينا؟ وهل ندرك أي مستقبل نريد؟ تُساءَل الثورة السورية، وهي أيضاً تُسائل ناسها، وجمهورها الأوسع خلف حدودها. في الضاحية الجنوبية لبيروت، كما في عرسال واللبوة البقاعيتين. في جبل لبنان، والأشرفية، وطرابلس الشمال. في المقاهي والمسارح وجبهات القتال. في مجلس التعاون الخليجي، وفي قاعات أوروبية وأميركية. من فوق ومن تحت البراميل المُسقطة من الطائرات. في صفوف الجيش السوري النظامي والشبيحة و”الجيش الحر”، وعلى جوانب “النصرة” و”داعش” و”كتائب عبد الله العزام”.
ربما هي الانتفاضات العربية برمتها. من التونسي محمد البوعزيزي إلى اعتصامات الطلاب في الجامعة الأميركية في بيروت. لكن سوريا خلطت كل شيء في وعائها. باتت وليمة “قُل لي ماذا تأكل ههنا.. أقُل لك من أنت”. غذاء التفكير والأفعال، متطرّفاً كان أو معقلناً أو شارداً. طرحت علينا جميعاً زيارات ثانية وثالثة ورابعة: لجوهر الخوف، لمعنى الدولة، الفوضى، الشعب، المواطنة، النظام، الحرية، الديموقراطية، الحرب، اللجوء، الكتابة، الصحافة، الإبداع، الحوار، الدين، العنف، الاعتقال، الخطف، الأقليات، الآخر، العروبة، اليسار، المقاومة، الغرب والمشرق وإسرائيل.. وفلسطين باعتبارها فلسطينيين في “اليرموك” بدلاً من أرض مجرّدة لا يدخل أهلها في حسابات “الشرف والكرامة”.
ليس في سياق عربي آخر ما في سوريا. هي اللعنة والنعمة في آن.
المدن