سوريا.. الثورة حتى النصر
غازي دحمان
بعد الخطاب الثالث للرئيس بشار الأسد، استقر في ذهن الثوار السوريين أنه لا جديد عند النظام ليقدمه، بل إن هذا النظام، بتركيبته الأمنية العسكرية, ربما تجاوز حدود قدراته على الإصلاح والتغيير، فباستثناء مسودات القوانين وقرارات تشكيل اللجان ودعوات الحوار المائعة، ليس لديه أي ممكنات سياسية تخرج البلاد من أزمتها الوطنية، لذا كان قرار الخروج بالملايين (3 ملايين حسب رويترز) في الجمعة التي أطلق عليها الناشطون (جمعة سقوط الشرعية).
من جهته أعاد النظام عملية تموضعه من الثورة التي تضرب البلاد في أربعة أركانها، وحدد شكل استجابته النهائية لهذه الظاهرة السياسية، واستتباعا جرى تقسيم الشعب السوري إلى مواطنين، وهم قلة، لهم مطالب مشروعة تتلخص في تقديم بعض الخدمات، أما البقية فهم خصوم، إما تكفيريون، وإما فارون من العدالة، وهؤلاء يجب مواجهتهم لا الحوار معهم.
عند هذه الحدود، يبدو أن الأزمة السورية دخلت في مرحلة انسداد للأفق واضحة للعيان، تتبدى معالمها من خلال كثافة استمرار مسلسل القتل والتهجير والاعتقالات، وإغلاق الباب أمام أي مبادرات جادة لحل الأزمة، وهو ما يدفع للتساؤل عن طبيعة الرهانات التي يتمترس خلفها طرفا الأزمة السورية.
رهانات الثورة
لعل الرهان الأهم لقوى الثورة السورية ينطلق من واقع المعطيات الحاصلة على الأرض، فثمة من يرى أن التغيير في المشهد السياسي السوري ترسخ نهائيا، ولا عودة إلى الوراء مهما صار. وأن أمام الثورة هوامش شعبية وجغرافية كبيرة للتوسع، وما يزيد من قوة هذا المعطى في المشهد السوري الاعتقاد بأن أوان انخراط الكتلة الكبيرة قد اقترب، ويربطون ذلك بتسارع خطى النظام نحو المنحدر الاقتصادي والمالي.
فالأزمة آتية بأسرع مما يعتقد، في فترة قصيرة ستجف موارد الدولة بما يهدد انفراط عقد فريقين كبيرين يعول عليهما، الإدارة الرسمية التي تضم مئات آلاف الموظفين، مدنيين وعسكريين، وطبقة التجار في المدن غير المتحمسة للتغيير تعريفا.
فالضغوط الاقتصادية المتصاعدة قد تدفع الشرائح التجارية الوسطى والعليا لإعادة حساباتها، ما ينذر بتصدع التحالف معها الذي لن يبقي بدوره المدينتين الرئيستين (دمشق وحلب) خارج الحراك الاجتماعي، من المرجح وقتها أن تضع محاولة سحقه داخلهما البلاد أمام كارثة حقيقية.
وفي ظل ذلك، تراهن قوى الثورة في سوريا على صمودها في وجه آلة النظام القمعية، وهي تصرّ علانية وبشكل صريح على سلمية تحرّكها ونبل أهدافها ومقاصدها، وترفض بشكل لا لبس فيه التدخلات الخارجية، كما أنها لا تنطوي على أي توجه طائفي أو مذهبي أو إثني يدفع نحو اقتتال أهلي أو تقسيمٍ للتراب الوطني، وتستنكر بوضوحٍ ما يترافق معه من تحريض أيا كان مصدره، وهذه هي الأخطار الرئيسة التي كانت تواجه الثورة في بداياتها واستطاعت تجاوزها والعبور منها إلى مرحلة أكثر أمانا وثقة.
وفي قلب رهانات المعارضة، ثمة رهان وإن بدا مستغربا، وهو الرهان على تفكك آلة القمع الأمنية أمام زخم الثورة المتصاعدة، وما يعزز هذا الرهان حقيقة أنه كلما زاد دفع جماهير الثورة بدت الجهود الأمنية أقل تأثيرا، أقله لجهة القدرة على الانتشار والتغطية.
وقد كان واضحا أن جزءا من إستراتيجية الثورة قام على أساس العمل على تشتيت جهود الأمن عبر الانتشار الجغرافي الواسع لفعاليات الثورة، وبالفعل استفادت مناطق عديدة من حالة تشتت الجهود الأمنية، وعلى العكس من ذلك كان الوضع كارثيا عندما انحصرت الثورة في درعا وحدها.
رهانات النظام
تمحورت رهانات النظام حول مسألتين أساسيتين، لعبة الوقت، التي طالما اشتهر النظام بإتقانها، وإمكانية تفتيت المعارضة وإنهاء الثورة.
فقد راهن النظام منذ بداية الثورة على أن يفقد المعترضون صبرهم ويعودوا مرغمين إلى بيوتهم، ويقبلوا بما يتحسن به النظام عليهم، خاصة أن غالبية الجسم المعترض للثورة تتكون من أبناء الأرياف الذين يحين في الصيف مواعيد مواسمهم، وكذا أبناء الأحزمة العشوائية الفقيرة الذين لا تسمح أوضاعهم الاقتصادية بالالتزام بما تقتضيه برامج الثورة من حالات إضراب وعصيان واعتصام، وفي إطار هذا الرهان، استخدم النظام تكتيك الحل الأمني عل ذلك يكسبه مزيدا من الوقت عبر استخدام ماكينة الرعب والقمع في تأخير وإعاقة الزخم الشعبي المعارض ضده.
وفي سياق هذا الرهان أيضا، يراهن النظام على أن التماسك الخارجي في وجهه مفقود، وذلك بسبب المواقف الروسية والصينية، التي رفضت إلى الآن أي تحرك ضد دمشق في مجلس الأمن. كما يراهن على صعوبة القيام بعمل عسكري ضد سوريا، على غرار ما حصل في ليبيا، وهو ما أكده الوزير المعلم في مؤتمره الصحفي، مبررا ذلك بأن سوريا لا تملك الثروات التي لدى ليبيا.
ويقوم الرهان الثاني على تقديرات معينة للنظام تتلخص في قدرته على تفتيت المعارضة، انطلاقا من حقيقة أن هذه المعارضة فسيفسائية ولا جامع مشتركا بينها، وأن الوقت كفيل بإظهار الانقسامات بينها، والواضح أن النظام لم ينتظر اشتغال الدينامية الداخلية لخلافات المعارضة، بل سعى إلى تفجيرها عبر وضع صواعق خاصة في مركبها لتسريع انفجارها وتفتيتها.
لذا سعى إلى إحداث الانقسامات بين مكوناتها عبر محاولته تقريب بعض هذه المكونات والسماح لها بعقد مؤتمر في دمشق تحت رعايتها وحراستها، ولعل النظام لم يدرك هنا أن من قام بجمعهم لا تأثير حقيقيا لهم في الشارع، وأن هؤلاء لن يفعلوا سوى المساهمة بحرق أنفسهم باكرا والخروج من ساحة التأثير الوطني بلا رجعة.
ولا شك أن كل من حضر اجتماع دمشق يتقاطع مع السلطة في الخوف من سيطرة القوى الإسلامية على مجريات الثورة، خاصة أن من قاموا بترتيب هذا الاجتماع كانوا قد التقوا ونسقوا مع مستشارة الرئيس بثينه شعبان، وكان لافتا تلميع الإعلام الرسمي لهم قبل البدء بفعاليات المؤتمر.
ثمة رهانات أخرى لدى النظام تتركز بشكل أساسي على تماسك النخبة وعدم وجود أي خلافات أو خصومات في الدائرة الحاكمة. ويراهن النظام أنه طالما ستبقى هذه الأجهزة موحَدة سيكون من الصعب، لا بل من المستحيل، للمعارضة أن تطيح به.
كذلك يراهن النظام على تصعيد مواجهة الاحتجاجات الشعبية إلى طور جديد، ربما يتمثل في سياسة “شارع ضد شارع”، أو مواجهة المحتجين بالموالين، وهذا تكتيك يجري اختباره بوضوح في الآونة الأخيرة.
وفي كل الأحوال، لا تستقيم موازنة رهانات الثورة ورهانات النظام على اعتبار أنها تعكس صورة عن ميزان القوة القائم بين الطرفين، ذلك أن رهانات الثورة متحركة ومفتوحة على مدى خيارات الشعب وقدراته، ولا يمكن التنبؤ بها، بقدر أنه لا يمكن لقوة، مهما بلغت أن تحد منها أو تقمعها، في حين أن رهانات النظام وخياراته تقتصر على العنف الذي أوصله حتى اللحظة إلى دائرة العزلة الكاملة دون أن ينقذه من المصير المحتوم.
الجزيرة نت