سوريا الحرّة تنتصر بهؤلاء
تواجه الثورات العربية وخصوصاً في سوريا، تحديات وجودية متشابكة وخطيرة، ليس أقلّها أن أعداءها المتنوّعين يجعلونها تحارب على جبهتين داخليتين، كلٌّ منهما أشدّ فتكاً وضراوةً من الثانية: جبهة النظام وأجهزته العسكرية والأمنية وشبّيحته من جهة، وجبهة الظلاميات التكفيرية وفتاويها المدمّرة وميليشياتها وزمرها المسلّحة ومصادراتها القاتلة من جهة ثانية. هل ثمة مفرّ من المواجهة المزدوجة؟
يعرف القارئ كلّ شيء تقريباً عن “فضائل” هاتين الجبهتين. فليس من ضرورة والحال هذه للاسترسال في كشف حسابهما وتعداد “مآثرهما” الجليلة في الداخل السوري وفي الجوار، بل وفي العالم على السواء. جبهتان تبدوان ظاهراً، متناقضتَين، ومتنافستَين في كلّ شيء، لكنهما أشبه ما تكونان بتوأمين. بل هما في الواقع العملاني للأمور مرآة واحدة ذات وجهين، واحدٍ أمامي وثانٍ خلفي. ولا فرق. فما لا يبين من الجبهة الأولى، يظهر في الثانية. وما لا تفعله هذه، تتولى تلك القيام به. بل لعلّهما تشربان من بئر واحدة، وتصبّان في بحر واحد، وإن بدا ظاهراً أنهما تشربان من بئرَين مختلفتين، وتنتهيان إلى بحرَين متناقضين.
لكن تناقض هاتين الجبهتين واختلافهما الظاهريين، في النظرية وطرائق العمل، مطلوبان من الداخل والخارج، من النظام و”أعدائه” الظلاميين في الداخل، ومن النظام و”أعدائه الديموقراطيين” في الخارج. وعليه، فإن الجبهتين هاتين تتبادلان “موضوعياً” الخدمات المرئية واللامرئية، الظاهرة والخفية على السواء. هاكم مثلاً صارخاً: خطف المطرانين. ترى، أيٌّ من الجبهتين تولّت التخطيط والإخراج والتنفيذ، أجبهة النظام ومرتزقته أم جبهة التكفيريين الظلاميين؟ أياً تكن. الفارق يكمن فقط في طبيعة الإستفادة ودلالاتها ونوعية الآثار المترتبة عليها، وليس في مبدئيتها. ذلك أن الإثنتين تستفيدان في الأحوال كلّها، من عملية الخطف ومما ينجم عنها، وإن تناقضت الأسباب والذرائع والمصالح والخلفيات. هل ثمة حاجة لشرح مستفيض، كي يعرف القرّاء والرأي العام كيف تستفيد هذه الجبهة وتلك؟ ربما ثمة ضرورة رمزية. هاكم ما قلّ ودلّ: النظام يستفيد، بتعزيز نظريته التاريخية حول حماية الأقليات، التي لا بدّ، حيال حادثةٍ خطيرة كهذه، أن تغالي في التعلّق بأثوابه وطلب الحماية منه. أما التكفيريون الظلاميون فيستفيدون بالتقدم خطوةً نوعيةً إلى الأمام، في جعل البلاد السورية بل المشرق العربي برمته على طريق تفريغه من المسيحيين، والأقليات الأخرى، بهدف إقامة دولتهم الإسلامية الموعودة.
… ثمّ، هاكم ما قلّ ودلّ أيضاً: الديكتاتورية الأسدية البعثية، والديكتاتورية الظلامية التكفيرية، تصبّان معاً في مصلحة الإيديولوجيا الصهيونية، التي تستفيد من هاتين الجبهتين المتناقضتين ظاهراً، الملتقيتين موضوعياً، إذ بهما تترسخ دولة إسرائيل الدينية العنصرية، وتزداد ثباتاً في الأرض المغتصبة.
ما العمل؟ ماذا تفعل الثورة؟ ماذا يفعل الثوّار، في مواجهة المطرقة والسندان هذين؟ جوابي البديهي، ثمّ جوابي المتفكّر: لا مفرّ، ولا رجوع إلى وراء. فلا أحد يستطيع أن يطلب من الثورة أن لا تكون ثورة، ولا من الثوّار أن لا يكونوا ثوّاراً. الحقيقة الوحيدة التي يمكن الأخذ بها، أن الثوّار الأحرار لن يُخفِضوا هاماتهم ولن يعودوا أعقابهم: إذ ليس مسموحاً للنظام الديكتاتوري بأن ينتصر، وليس مسموحاً للجهات التكفيرية بإخلاء البلاد السورية من الديموقراطيين المدنيين الليبيراليين العلمانيين الثوريين الأحرار، لتكون هذه البلاد نعجةً طيّعة في الأفواه الجائعة إلى ممارسة سلطتها الإلهية الاسبتدادية.
لا أزعم أنه يحقّ لي أن “أعظ” أو أن “أنصح”. لكن هذه حقيقة لا مفرّ منها. ليس لأني أمتلك زمام هذه الحقيقة، بل لأن الوقائع تقول نفسها بنفسها. من هذه الوقائع التي لا بدّ من أن تكون واضحة لدى الجميع، في الداخل السوري، والجوار العربي، وفي الخارج الأوسع، أن الثوّار الديموقراطيين الأحرار لا يهابون أحداً، ولا يتحمّلون أن يكونوا أتباعاً لأحد. ولا شبّيحةً عند أحد. ولا حجار شطرنج أو دمى في يد أحد. ولا حتى أن يكونوا رهائن عند الهواء. أو منتصف الليل. أو الفجر.
هذه حقيقة ساطعة وعلنية، ولا تتحمّل الالتباس الرجراج. فهؤلاء الثوّار الديموقراطيون الأحرار ليسوا غنماً في السياسة والعقل والتفكير والموقف والرأي، ولن يكونوا بالطبع قطيعاً إيديولوجياً ولا دينياً. وعليه: ليس أمامهم سوى أن يواصلوا شقّ الطرق الصعبة، بل أحياناً المستحيلة. وعليه أيضاً: “فليطمئن” النظام الديكتاتوري. و”لتطمئن” الجهات التكفيرية الظلامية، لأن هؤلاء الثوّار لن يستكينوا. وهم لن يهرعوا طالبين شيئاً من أحد. لا اللجوء. لا العون. لا الحماية. لا الأمان. لا الطمأنينة. لن يطلبوا حتى الحياة. فهي لهم. بقوة الحياة نفسها. وليس بقوة أحد.
الأحرار الثوّار الديموقراطيون هؤلاء لن يسكتوا. لن يطأطئوا. لن يركعوا. ولن يهربوا.
الأحرار الثوّار الديموقراطيون هؤلاء كُثُر، وإنْ – ربما – ناقصون عدّةً. هم كُثُر، لأنهم يتكاثرون بالحلم الذي يكسر عدد الواقع. ويمرّغه. أياً يكن هذا الواقع. عسكريتارياً أكان، أم حزبياً، أم شخصانياً، أم إيديولوجياً، أم إلهوياً (من إله)، أم ما شئتم من التسميات.
الأحرار الثوّار الديموقراطيون المدنيون العلمانيون الليبيراليون هؤلاء، وبينهم مسيحيون، وأقليات أخرى، لا حلول يمكن التوصل إليها معهم، إلاّ بالحرية. والحرية هذه، لا تخذلهم. لا تخونهم. ولا تروّضهم. هي فقط تعرف كيف تترفق بجموح أحلامهم، فتسلس لها القياد، ولهم، إلى أن يلينوا. أو إلى أن يُشبَّه لنا أنهم يلينون. وهيهات أن يلينوا.
الأحرار الثوّار الديموقراطيون المدنيون العلمانيون الليبيراليون المقاتلون هؤلاء، خلاص سوريا في أيديهم. فلا مفرّ. ولا رجوع إلى وراء.
عقل العويط
النهار