صفحات سوريةطيب تيزيني

سوريا: الطريق من أوِله!/ طيب تيزيني

حين تتعقد الأمور وتتصاعد المخاطر ويرى المرء الدماء تسيل، يشعر بأنه ارتكب أخطاء كبيرة أو صغيرة، أو كليهما، حتى حين يتقاعس حيال طرح السؤال بصيغة تجريبية تصل إلى كل الممكنات، عدا تلك التي تلامس الدم أو تقترب من رائحته. فهنا مع هذا الاحتمال، يكون الباحث أو الناشط قد خرق الشرط، وعليه من ثم أن يصوب موقفه بقدر أولي. وإذا لم يستجب لهذا الشرط فقد يكون سلك طريقاً من طرق الموت، وهذا نفسه يمكن أن يأخذ شكلاً من أشكال عناد عبثي لا مستقبل له. مثل هذا الموقف قد يأخذ في نهاية المطاف الخيار الشمشوني العدمي: عليَّ وعلى أعدائي يا رب! لكن في سياق ذلك وسياق الأفق التاريخي المفتوح، نجد أن الاحتمال الذي وضعه فوكوياما وأن ذلك الخيار الشمشوني كليهما يسقطان حين نكتشف أن الحطام التاريخي إن هو إلاحالة نسبية غير مطلقة، وذلك حين ننظر إليه بمثابته لحظة من هذه الحالة التاريخية: فبالتاريخ يتحطم وعبر التاريخ نكتشفه احتمالاً قابلاً لتلبّس التاريخ والوجود والعقل مجدداً.

هكذا يبرز أمامنا نمطاً من جدلية الوجود والموت والانبعاث، شرط أن يتوفر مَن يفتح الأبواب. وهذا ما نراهن عليه الآن في مرحلتنا التاريخية، التي تشهد فيها سوريا سيلاً من الانهيار والحطام، أو لنقل زلزالاً غير مسبوق ربما عالمياً. فالبنية التحتية بما تقوم عليه الزراعة والصناعة والمؤسسات بكل حقولها وتجلياتها، تبدو كأنها لم يكن لها حضور مليء كثيف في يوم ما سابق. ألم يكن ما بدأ يحدث في سوريا قبل سنتين ونصف السنة، حالة لا يعجز عن حلِّها مَن امتلك “العقل الطبيعي والحكمة الطبيعية” غير متلبِّسين بالمصالح الاقتصادية والسياسية والعسكرية والديموغرافية وغيرها! ألم يكن أفضل وأصوب للجميع، لو أن الأخطاء التي راحت تظهر في الساحة السورية وجدت حلولاً لها؟

لقد خسر من ذلك الزلزال الهائل، الذي ما زال في طور الفعل، والذي رأوا فيه هؤلاء تسونامي كونياً، ولعل مَنْ ربح منه ومن نتائجه فئات صغيرة تجد مصالحها متماهية مع استمرار خراب “تسونامي”، وهذه -في الحقيقة- لون من ألوان مفارقة وحشية لا تمنع الأسى والبؤس حتى عن تلك الفئات الصغيرة وخصوصاً حين يكتشف هؤلاء وغيرهم أن الربح الذي يحققونه عبر خراب وتفكيك الوطن السوري الفريد في عذوبته وغناه الإنساني، لا يرقى إلى مستوى دمعة عين لطفل قادم من هنا أو هناك في سوريا.

والآن وبعد الذي حدث ولم يتوقف، أيمتلك القول بأن العودة إلى حيث بدأ “تسونامي” السوري، قمين باستعادة ما فاتنا، على طريقة من قال: إن تصحيح أخطاء الآن أفضل من ألا تفعل ذلك أبداً! لكن هذا النمط من التفكير وإنْ كان عاجزاً عن رأب الصدع، بعد أن أصبح الصدع والغاً في حياة الناس، إلا أن التفكير بهذه الرؤية، مع استعادة منظومة السياسة بكل تجلياتها ومفرداتها، قد يضع اليد على ما يخفف الوطأة. نعني هنا أن إنجاز ذلك يقتضي التشديد على مقولتين لسياستين، هما المساومة التاريخية، والعدالة القضائية. وفي إطار الوصول إلى هذين الشاطئين، قد نمر بحيثيات كثيرة نوظفها في خدمة هذين الأخيرين في سبيل الوصول إلى ما هو أكثر تأثيراً وتعميقاً عبر صعيد تلك المساومة، في هذه الحال يبرز الوطن موحداً، وترفرف أعلام العدالة والكرامة والسلم والحرية.

وإذ ذاك، يتعين على الجميع أن ينصاعوا إلى الوطن الجريح، بعد أن يكونوا خرجوا من مُنغلق هذه الأخيرة، وفي هذا وذاك، يمكن أن يحدث ما لم يحدث من قبل، حيث سيُكتشف الوطن السوري حينذاك، وعلى هذا الطريق، سيتضح أمامنا أن العودة إلى بداية الطريق الذي طفح بالدم، إنما تمثل شرطاً ربما لو نجد حضوراً لنا فيه. وبهذا الاعتبار نكون أمام إمكان للخروج من الظلام القاتل: إن الشجاعة هي في أن نبدأ بداية جديدة تحتمل الكرامة والتفوق على كبرياء زائف يوغل في توظيف الحالة السورية في مزيد من الحماقة والقتل. هذا إذن يمكن أن يلجم مَن يسعى إلى استباحة الوطن عبر تنشيط السلاح القاتل والمعروض بحذر حيناً وبسادية فظيعة أحياناً.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى