إياد الجعفريصفحات المستقبل

سوريا العام 2055/ إياد الجعفري

 

 

وقف رئيس الوزراء السوري أمام الشاشات ليُهنئ السوريين بليلة رأس السنة للعام 2055 ميلادية، مُعلناً أن الشعب السوري بات يحتل سادس أعلى مستوى معيشة في العالم، والناتج القومي لسوريا بات يحتل المرتبة الرابعة عشرة عالمياً، بالتزامن مع الإعلان الأهم، وهو انتهاء عهد النفط إلى غير رجعة، عبر تطوير استخدامات ألواح الطاقة الشمسية والوقود الهيدروجيني، إلى المرحلة التي يتم فيها الاستغناء تماماً عن الوقود النفطي، بفضل ابتكارات علمية خلّاقة نفذتها شركات محلية سورية.

وصل دخل الفرد بسوريا عام 2055 إلى 51430 دولاراً أمريكياً، وتجاوزت الليرة السورية قيمة الدولار، لتصبح كل ليرة سورية بـ 1.2 دولار أمريكي. كان ذلك بالتزامن مع إطلاق سابع قمر صناعي بحجم الحقيبة الصغيرة، للاستشعار عن بعد، والكشف عن الموارد الباطنية، فيما رأى مراقبون أنه للتجسس على دول إقليمية مجاورة.

***

في العام 2016، وصلت حرب المتصارعين الإقليميين والدوليين في سوريا إلى ذروتها، وسط عجز أي طرف عن الحسم، والحاجة الملحة لحل سياسي لجميع الأطراف. وفي العام 2017، تسارعت خطوات الحل السياسي، وكانت خاتمتها مخيبة لآمال السوريين، فتحولت سوريا إلى فيدرالية، المركز فيها ضعيف التأثير، وبقي الأسد رئيساً لفترة انتقالية دامت سنتين، لكن الضغوط الإقليمية والدولية الجادة في إنهاء الصراع على الأرض السورية، أفضت إلى انتخابات جمعية تأسيسية، وضعت دستوراً جديداً للبلاد، ومن ثم انتخابات نيابية وبلدية، وأخيراً رئاسية، غادر معها الأسد السلطة، وانتقل للعيش في بريطانيا، بضغط روسي.

واستقر المشهد بسوريا تماماً في منتصف العام 2019، بعد أن تمكن تحالف النظام والمعارضة من طرد “داعش” من كامل الأراضي السورية، فانحصر الأخير في زوايا متفرقة في “المثلث السني” بالعراق، وتابع حربه مع إيران وحلفائها العراقيين لسنوات أخرى قادمة.

أما “النُصرة”، فانسل العديد من مقاتليها، بين من التحق بـ “داعش” ولحق به إلى العراق، وبين من انضم لتنظيمات سورية، وبين من غادر سوريا عائداً إلى بلده، بعد أن قررت قيادتها عدم مواجهة التيار.

كانت الخاتمة عام 2019، مُخيبة لآمال السوريين.. بلد فيدرالي، ضعيف المركز، تتزعمه ميليشيات الحرب، التي يتبع كل منها لأطراف إقليمية ودولية مختلفة. لكن رغم تلك الخاتمة المُخيبة لآمال السوريين، بدأت أفواج منهم بالعودة إلى البلاد.

وبدأت أفواج العائدين من دول الجوار، بمئات الآلاف، ومن ثم بالملايين، فتفاقمت الضغوط على الحكومة المركزية، والإدارات المحلية في الولايات والأطراف. وازدادت الاضطرابات، وحصل العديد من التظاهرات، والاشتباكات المسلحة في بعض المناطق، كانت حصيلتها خلال بضع سنوات، تقويض سلطة زعماء مليشيات الحرب، فقرر معظمهم الابتعاد جانباً عن الواجهة، لصالح قيادات شابة محلية، سياسية وتكنوقراط، بدأت بالإمساك بزمام الأمور، بدعم من رجال أعمال سوريين، في الداخل، وفي بلاد الاغتراب.

ومنذ العام 2025، بدأت ملامح نخبة سورية جديدة تتبلور، وسط انزياح طوعي لمليشيات الحرب، إلى زاوية الجيش والأمن فقط، وسط تسويات مع تلك النخبة الجديدة المدعومة من رأس المال السوري، المحلي والمُغترب، الذي لعب أدواراً بارزة في إعادة اللُحمة بين السوريين، رغم بقاء النظام الفيدرالي.

خلال عقد، حتى العام 2035، انتعشت البلاد بصورة متسارعة، وتمت مأسسة أجهزة الأمن والجيش، التي تحول فيها مقاتلو الميليشيات السابقة إلى قيادات مُنضبطة بأسس مُتفق عليها مع النُخبة الحاكمة، التي ضمت تكنوقراط، الكثير منهم عائد من دول الاغتراب، بعد اكتساب خبرات إدارية وعلمية وسياسية، وسط دعم غربي ملحوظ.

وخلال بضع سنوات، عادت أعداد ضخمة من الشباب السوري المهاجر للغرب، من أولئك الذين غادروا في عقدهم الثاني، ليعودوا في عقدهم الرابع، محملين بإمكانيات مالية، وخبرات معرفية ضخمة. قرر هؤلاء العودة إلى البلاد بعد أن شجعتهم الأنباء عن تحسن أوضاعها، واستقرارها الأمني والسياسي والاقتصادي، وتعزز سلطة القضاء فيها، واستقلاليته. قرر هؤلاء العودة بعد تعب نفسي مُزمن من الغربة في أوروبا بعيداً عن قيمهم التي تربوا عليها، والتي فارقوها لسنوات طويلة، لكنها بقيت حية في وجدانهم، تُنغص عليهم بشكل مستمر محاولاتهم للاندماج بالمجتمع الغربي والذوبان فيه، فكانت القلة من السوريين هي التي تمكنت من الذوبان بالفعل.

عاد هؤلاء، ومعهم شهدت البلاد مسيرة أكثر تسارعاً من النهوض. ومع عودة مئات آلاف المغتربين والمهاجرين، بما يحملونه من قيم ليبرالية، وعقلية تتجاوز الحدود لصالح المصلحة المشتركة، مما تعلموا في مدارس ومنشآت الغرب، خبت الفروق العِرقية والمذهبية، وتزايد توق السوريين لكسر قيود الفيدرالية، فتم تعديل الدستور ثلاث مرات، خلال عقد، حتى العام 2045، لينتهي الأمر إلى تزايد سلطة المركز بدمشق، على حساب الكيانات الفيدرالية في الأطراف، وتزايدت سلطة النخبة البيروقراطية، ورأس المال، وسادت النزعة الليبرالية الملبوسة بلبوس إسلامي معتدل، لكن ذلك كان في السياسة فقط، أما في الاقتصاد، ففرضت النخبة البيروقراطية الحاكمة بدمشق قيوداً صارمة على استيراد أي منتجات يمكن تصنيعها محلياً، ودعمت المنتج المحلي بإصرار، رغم كل الضغوط الخارجية.

وخلال سنوات قليلة فقط، تفتقت أذهان الأجيال الجديدة من السوريين، التي نشأ بعضهم في مدارس الغرب، عن اكتشافات واختراعات مُذهلة. ودعمت حكومة دمشق البحث العلمي، بميزانيات ضخمة، ودعمت الشركات المحلية، التي أبدعت بصورة متسارعة، وتضاعف دخل الفرد السوري 14 مرة، في بضع سنوات، وتحولت سوريا إلى قُبلة للاستثمار، وسط محدودية الضرائب.

وحتى العام 2055، كانت سوريا شيئاً آخر، غير التي عرفها أبناء العام 2015. ورغم أن الكثيرين ممن عاشوا العام 2015، كانوا قد دخلوا في عقد الستينات، أو قاربوه، إلا أنهم كانوا مشدوهين، ويروون لأولادهم أننا لم نكن نتصور يوماً أن سوريا ستكون كما هي عليه اليوم، كنا نظن أننا في الطريق إلى صومال وأفغانستان جديدة.

وصل التردي في سوريا إلى الذروة، ثم عكس التاريخ مساره. فكان المشهد فريداً للغاية بعد 40 سنة.

***

.. يذكر التاريخ أن عشرات الدول والشعوب عاشت تجارب أكثر مرارة مما يعيشه السوريون اليوم، وهي تنظر بعد عقود إلى تاريخها، بشيء من الاستغراب، وتتساءل، هل عاش آباؤنا ما يروونه لنا فعلاً؟

كل عام وأنتم بألف خير..

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى