سوريا العلمانية تخسر متنفساً/ علي السقا
“مات الأدمن اللي ما إلو اسم، أدمن (مدير) صفحة التيار الصهيوصليبي العلماني الليبرالي اليساري الماسوني الغربي السوري… ماتت الصفحة كلّها. أقفلتها إدارة “فايسبوك”. كنا نسخر من الإرهابيين على صفحتنا فاعتقدوا بأننا إرهابيون. سنة ونيف من العمل ذهبت أدراج الرياح. كانت الصفحة قد شارفت على التحول إلى صوت الشباب العلماني غير المنظم في سوريا، وكانت متنفساً للشباب من مختلف التوجهات ليعبّروا بحرية. ماتت الصفحة بس نحنا لسه ما متنا”.
بهذه الرسالة، خرج “أدمن ما الو إسم”، ليخبر أصدقاءه عبر صفحته الخاصة في “فايسبوك” بقرار إدارة الموقع إقفال صفحة “التيار الصهيوصليبي العلماني الليبرالي اليساري الماسوني الغربي السوري”، التي كان أحد القائمين عليها، بعد سنة ونيف من إطلاقها.
ظهور أعلام تنظيم “القاعدة” و”حزب الله” في الصفحة، إضافة إلى صور المجازر والسلاح في سوريا، عزز حكماً مسبقاً أو لامس خطوطاً حمر رسمها “فايسبوك” ولا يسمح بتجاوزها، تحت طائلة الحذف. وهذا ما حدث بالفعل، حُذفت الصفحة بعدما “نبّهتنا إدارة الموقع أكثر من مرة بضرورة التوقف عن نشر صور تتعلق بالقاعدة وحزب الله وصور المجازر والقتلى”، حسبما يشرح “أدمن ما الو إسم” في حوار مع “المدن” (وفضّل الاكتفاء بلقبه وعدم نشر إسمه الحقيقي).
فقد إعتبرت إدارة “الفايسبوك” أن الصور التي تعرضها الصفحة تحضّ على العنف، من دون أن تستفسر عن الإطار العام لاستخدامها، الذي هو في الحقيقة نقدي لمشاركة حزب الله في معركة القصير، وكذلك السخرية من المعارضة السياسية، كالائتلاف الوطني السوري المعارض، والتيارات الدينية المتطرفة من قبيل “داعش” و”جبهة النصرة”، علماً أن هناك العديد من “الصفحات السورية المتطرفة التي تدعو إلى العنف والقتل، وهي لا تزال موجودة”.
هذا المنع الذي طاول صفحة “التيار الصهيوصليبي العلماني الليبرالي ….”، ربما ينسحب في وقت لاحق على صفحات سورية أخرى معارضة وموالية، أصبحت منذ بداية الأحداث مرآة لاحتقان الشارع بدلاً من أن تكون فضاء لنقاش يقود إلى إعمال لغة العقل، وتقبل الآخر أياً يكن مختلفاً. وهو ما لم يحصل، إذ تنتهي غالبية هذه “النقاشات” بتبادل الشتائم والتهديد والوعيد.
لغة الشتائم والتهديد هذه، لم يخل منها أي نقاش كان يدور على صفحة “التيار الصهيوصليبي…”، ورغم ذلك استطاع القائمون عليها أن يمنعوها من السقوط في شرك الإصطفاف الطائفي. وذلك لإجماعهم، وهم من خلفيات ثقافية وسياسية متنوعة، بوجوب أن تكون سوريا دولة علمانية بعد سقوط النظام. إشهارهم العداء للنظام، كما لأي ديكتاتورية سياسية أو دينية، جعل من صفحتهم عرضة للتبليغ (report) من قبل صفحات سورية معارضة ذات طابع “إسلامي”، كانت أبرزها حملة شنتها صفحة “الثورة الصينية ضد طاغية الصين” بحجة أنّ أصحابها علمانيون، ملحدون، وكفّار.
فقد تمكن مشغلو صفحة “التيار الصهيوصليبي…” من تسديد ضربات موجعة بأسلوبهم الهازىء، سواء بالمقالات أو الحوارات والرسوم، من فكرة الجهاد في سوريا طمعاً بالجنّة وحور العين، وكذلك من فوضى الفتاوى، ومنها ما سمّي بفتوى جهاد النكاح. الأمر الذي أثار غضب الغيارى على “الإسلام”. هذا الاستهزاء يتكشف أكثر عند التدقيق في اسم الصفحة. إذ يحيل على نحو ساخر إلى لغة التيارات السياسية والدينية العربية التي ينحو من خلالها البعض، وبطريقة عجيبة، إلى احتكار مفاهيم الإسلام والعروبة والصمود ومناهضة الإمبريالية والليبرالية، وإلى إطلاق أحكامهم الجاهزة.
وهنا، قد يكون مفيداً التذكير بالفيلم المصري “السفارة في العمارة” الذي قدم أكثر من نموذج عن رموز هذه التيارات ولغتها. كما حصل مع “شريف خيري” (الفنان عادل إمام) عندما قرر رفع دعوى قضائية ضد السفارة الإسرائيلية الملاصقة لشقته، فهبّ أحد الحاضرين في قاعة المحكمة، وهو قيادي في حزب يساري بحسب ما يخبرنا الفيلم، ليهتف بأعلى صوته “شريف خيري رمز الصمود”. لم يسأله هذا “اليساري” عن سبب رفعه دعواه. تماماً كما لم يسأله عن مبرّر تراجعه عنها، عندما عاد وشرع يصرخ، من قاعة المحكمة نفسها، “شريف خيري الخائن العميل”.
السخرية من هذه التيارات وأفرادها هو ما حدث بالفعل عند إنتقاء إسم الصفحة (هناك صفحات عربية أخرى أردنية ومصرية وتونسية تحمل الإسم نفسه)، إذ كان بحسب “أدمن ما الو إسم”: “نوعاً من أنواع السخرية من أسماء الكثير من التيارات والأحزاب التي ظهرت على الساحة السياسية السورية حديثاً”.
لغة التهكم ستبقى لتطبع أي صفحة جديدة بديلة قد يقرر هؤلاء الشباب إنشاءها في حال فشلهم في استرجاع صفحتهم، خصوصاً أن ما من خطوط حمر تحول في رأيهم دون ذلك: “ما عنّا خطوط حمر.. مين ما بيغلط بدنا نحكي عنّو”.
صحيح أن القائمين على صفحة “التيار الصهيوصليبي العلماني …. ” لم يخسروا من إغلاقها أي شيء على الصعيد الشخصي، إلا أنهم خسروا مكاناً واظبوا على إبقائه مساحة للتعبير وصوتاً للشباب العلماني في سوريا، والذي تمرّن ومرّن على خوض النقاش العقلاني في الشأن السوري.. والتهكم أيضاً لا يضر.