صفحات العالم

سوريا: العمليات العسكرية «حرب» بطريقة أخرى؟


الياس فرحات

بات من المؤكد ان التدخل العسكري الاجنبي في سوريا أصبح مستبعدا لأسباب أفاض الكثيرون في شرحها وان الوقت الراهن هو لمبادرة انان ونقاطها الست التي حظيت بموافقة أميركية وأوروبية وخليجية ودعم من دول «بريكس». في المقابل لا نشهد ترجمة لمناخ هذه المبادرة، لا في السياسة ولا في الإعلام، وكأن الحرب لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات. الخطاب السياسي والاعلامي ما زال عدائيا وشرسا ولا يوحي باقتراب التسويات. ماذا تخبئ البراغماتية الاميركية في جعبتها تجاه هذا الوضع في الازمة السورية؟

تتضمن العقيدة العسكرية الاميركية إجراءات في مثل هذه الحالة تسمى «العمليات العسكرية غير الحرب» تنفذ أثناء النزاعات وعند تعذر شن حرب, وهي تختلف عن الحرب الناعمة التي تجري أثناء الخلاف والتوتر بين الدول. بمعنى آخر هذه العمليات تدخل مباشرة في النزاع وتعتبر بمثابة تطوير للحرب الناعمة نحو الاقسى.

العمليات العسكرية غير الحرب، هي تدابير اقتصادية وسياسية ونفسية وعمليات للقوات الدفاعية البرية والبحرية والجوية أثناء النزاعات, وقد وردت ضمن العقيدة العسكرية للقوات المسلحة الاميركية، كما صدرت عن وزارة الدفاع البنتاغون تعليمات تنفيذية لها. وضع البنتاغون ستة مبادئ للالتزام بها أثناء تنفيذ هذه العمليات هي: 1- توجيه العمليات العسكرية نحو أهداف واضحة ومحددة . 2- توحيد الجهود كافة والتثبت من أنها موجهة نحو تحقيق الهدف المحدد. 3- ضبط العمليات وإدارتها بحكمة. 4- المثابرة على العمليات وعدم انقطاعها والحرص على ان تخدم الاهداف الاستراتيجية. 5- التأكيد على أمن العمليات وعدم السماح للعدو بتحقيق مكاسب سياسية أو عسكرية. 6-المحافظة على شرعية العمليات وأخلاقيتها.

تتضمن العمليات العسكرية غير الحرب التي تجري حاليا ضد سوريا أو المرجح ان تجري مستقبلا تدابير عديدة نذكر أبرزها:

اولا: حملات إعلامية وعلاقات عامة. لم تتوقف الحملات الاعلامية ضد الحكم السوري بل ازدادت شراسة وهي مرشحة للمزيد عندما يبدأ أنان بتنفيذ نقاطه الست. انطلاقا من مبدأ الحرية الاعلامية المقدس في الغرب، شهدنا استباحة للقيم وللمعايير عندما ظهرت الأفلام المركبة على فضائيات عربية، وعندما شاركت محطة «سي ان ان» (سواء كان عمدا او استدراجا لها) في تصوير عملية تفجير أنبوب نفط وهو عمل يستوجب الملاحقة القضائية في اية دولة قانون بجرم المشاركة في الارهاب. ستشتد المعارك وتباح كل الاسلحة وتقدم مواد إعلامية مزيفة لجمهور, يرفضها بعضه ويقبلها البعض الآخر ويبني عليها.

ثانيا: عمليات حرب نفسية. لم تبدأ هذه العمليات بالحديث عن طلب الرئيس السوري اللجوء في إحدى الدول, ولا في نشر أخبار عن محاولة فرار شقيقه, ولا في وصول الجيش الحر الى مسافة عشرين كلم من العاصمة (لم يقل الخبر أين كان قبل الوصول؟) أو انسحابه من حمص أو ادلب (الى أين؟) ولن تنتهي بأخبار البريد الالكتروني للرئيس ولا هبوط طوافة سورية في تركيا. هذه الحرب ستستمر بضراوة ولن تعدم وسيلة للتأثير على معنويات الشعب السوري، ومن يتابعها يتأكد انها تجري من قبل فريق متخصص وانها مخططة بدقة وليست عشوائية ولا تأخذ شكل ردود أفعال.

ثالثا: الحرب الاقتصادية والمالية. هي مجمل التدابير والعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي وبعض الدول العربية على سوريا, وخصوصا وقف شراء النفط ومقاطعة المصارف السورية, وما تجميد أرصدة بعض الشخصيات السورية وزيارة معاون وزير الخزينة الاميركي لشؤون الارهاب والاستخبارات المالية ديفيد كوهين الاخيرة الى بيروت للتثبت من تنفيذ التدابير المالية ضد سوريا, إلا جهود في هذه العمليات تليها حتماً جهود اخرى.

رابعا: عمليات للقوات الخاصة. تختلف القوات الخاصة الاميركية عن القوات الخاصة في الدول العربية, وتشبه الى حد كبير وحدات المستعربين الاسرائيلية. انها وحدات تنتشر في دول عديدة في العالم تحت مسميات مختلفة. في 17 كانون الثاني عام 2012 نشرت صحيفة «ايست كاونتي ماغازين» الاميركية خبرا يفيد بأن مدير عمليات القوات الخاصة الاميركية الاميرال اريك اولسون أدلى بشهادة أمام لجنة القوات المسلحة في الكونغرس أقر فيها بأن القوات الخاصة الاميركية تنتشر في 20 بلدا في الشرق الاوسط من بينها سوريا. وهذا يعني ان مثل هذه القوات وربما من دول اخرى تنتشر بطريقة ما على الاراضي السورية لتنفيذ مهمات دعم المعارضة المسلحة أو إخلاء أشخاص أو القيام بإغارات على أهداف معينة. وقد اعترف العميل السابق في وكالة المخابرات المركزية الاميركية تيم وينر في كتابه «ارث من الرماد» بأن الاميركيين قاموا بعمليات خاصة في ايران (إطاحة محمد مصدق عام 1953) واندونيسيا (إطاحة سوكارنو عام 1967) وتشيلي (إطاحة سلفادور الليندي وقتله عام 1973) والعملية الفاشلة لإنقاذ الرهائن الاميركيين في ايران عام 1980. رغم إعلان الدول الغربية والخليجية دعم مهمة انان, لم يصدر عنها ما يوحي بتسهيل هذه المهمة.

خامسا: دعم المتمردين. يحظى «المتمردون» حسب تعبير البنتاغون بدعم سياسي قل نظيره من الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج وسجل سابقة في العلاقات العربية وهي تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية, وسحب سفراء معظم الدول العربية والاوروبية وإفلات العقال للاعلام الرسمي وغير الرسمي في هذه الدول, وشن حملات تعبئة وتحريض ضد الحكم السوري بالاضافة الى احتضان المعارضة وتنظيمها وقيادة العمل الدبلوماسي وإعداد الأوراق السياسية, على حد قول المعارض ميشال كيلو الذي سمى ورقة معارضة اسطنبول بالورقة القطرية – التركية. وذهبت تركيا الى أقصى التطرف عندما احتضنت ودعمت وأدارت انشقاقات فردية متفرقة في الجيش السوري وسهلت تسلل المسلحين من أراضيها الى سوريا. ويبدو ان تسليح الجيش الحر أصبح معلنا بعد تصريحات وزيري خارجية قطر والسعودية ودعوات المجلس الوطني المعارض, وليس هناك ما يشير الى تجميد أو وقف هذه الاجراءات حتى أثناء تنفيذ مهمة انان.

سادسا: حظر الاسلحة. أعلنت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوروبي حظرا على واردات السلاح الى سوريا. لم ينجح هذا التدبير، خصوصا عندما طالبت هذه الدول روسيا, المورد الاساسي للاسلحة الى سوريا, بوقف تزويدها بالاسلحة. رفضت روسيا الطلب وزودت سوريا بصواريخ «بوك» المضادة للطائرات وصواريخ ياخونت المضادة للسفن وهي من أحدث الصواريخ وعقدت صفقة بقيمة 550 مليون دولار لتزويدها بطائرات مقاتلة وتدريب من نوع «ياك – 130».

سابعا: فرض حظر بحري وجوي وتنفيذ عمليات اعتراض بحرية وجوية بما في ذلك تفتيش السفن والطائرات والتحقق من حمولاتها. يبدو ان الولايات المتحدة اتخذت هذه الاجراءات، وان روسيا وايران استشعرتا بها، ويرجح انهما أرسلتا سفنا حربية الى سوريا تحمل على متنها إمدادات عسكرية. الولايات المتحدة ليست بوارد تفتيش سفن حربية روسية لأنها تشعل أزمة وربما مواجهة أميركية روسية. كما انها لن تفتش سفنا حربية ايرانية لأنها لا تنوي تفجير النزاع مع ايران في توقيت لا يناسب مصالحها. شهدنا مثل هذه الاجراءات عندما فتشت تركيا طائرات ايرانية عابرة لأجوائها للاشتباه بحملها أسلحة الى سوريا. هذا الحظر سواء كان معلنا أو لا, يلحق أضرارا بالغة بالاقتصاد السوري.

ثامنا: تقديم مساعدات إنسانية. تحت هذا العنوان تماما حددت وزارة الدفاع الاميركية نوعا من العمليات العسكرية غير الحرب. هل المساعدات الانسانية هدف أم وسيلة؟ واضح انها وسيلة لتحقيق مآرب سياسية. تشمل المساعدات تقديم الغذاء والدواء والمساعدة في التنظيم ونشر الديموقراطية وإجراء الانتخابات وغيرها. ان الهدنة الانسانية لمدة ساعتين التي تطرحها مبادرة انان هي غلاف إنساني لعمل سياسي هو التمهيد للاقرار بوجود «الجيش الحر», وقد انتبه السوريون لذلك وسربوا رفضهم لأي خطوط تماس. لقد كانت الامم المتحدة تسمي الميليشيات المتعاملة مع اسرائيل أثناء احتلالها جنوب لبنان قوات الامر الواقع وتتعامل معها على هذا الاساس فهل هناك نيات مماثلة لإنشاء «قوات أمر واقع» في سوريا؟ ان تصنيف المساعدات الانسانية كجزء من العمليات العسكرية غير الحرب يظهر حقيقة الكلام عن «كوريدور» جوي أو مناطق آمنة أو ممرات إنسانية وانها كلها أعمال ذات أهداف سياسية واضحة ترتدي لباسا إنسانيا.

لقد أفشل الجيش محاولات إنشاء جيوب آمنة للمعارضة على الحدود مع الدول المجاورة وشددت الاجهزة الامنية إجراءاتها في ملاحقة شبكات المعارضة المسلحة، خصوصا بعد الهجمات الانتحارية في دمشق وحلب ودرعا. رغم ذلك لا تزال موازين القوى تميل لمصلحة الدول الداعمة للمعارضة، نظرا الى الامكانيات الضخمة المتوافرة لها, إلا انه في الآونة الاخيرة سجلت تراجعات ملموسة من المعارضة وداعميها لمصلحة الحكم السوري, لكن الثابت ان المواجهة مستمرة والوضع حرج ودقيق ولا تزال نار الحرب مستعرة بأشكال مختلفة.

عميد متقاعد ـ لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى