سوريا: القفزة الليبرالية… إلى الهاوية
وجيهة مهنا *
بوصول بشار الاسد الى الرئاسة السورية، حدثت عملية تغيير في بنية السلطة ستتضح ملامحها تدريجياً، وتتحقق على مراحل. وهي أنتجت مقاربة اقتصادية – اجتماعية ليبرالية أنجز الشطر الأعظم منها بين عامي 2005-2007، وسمي في أدبيات البعث بـ«اقتصاد السوق الاجتماعي».
الخطة الخمسية التاسعة
اعتمد الاقتصاد السوري في عهد حافظ الأسد على المساعدات الخارجية، وهذه نقطة ضعف رئيسية، إذ أن عملية جذب المساعدات والحفاظ عليها تحوّلت إلى ميدان للاستثمار والتوظيف في الدور السياسي الإقليمي. سجلت هذه المساعدات تراجعاً حاداً في السنوات الأخيرة من حكم الأسد الأب نتيجة متغيرات سياسية عدة بدأت مع نهاية الحرب الباردة التي مكنت النظام السوري قبلاً من لعب دور إقليمي واسع، تمثل بالرضا بوظيفته العسكرية في لبنان وتجاه منظمة التحرير الفلسطينية معاً، ومشاركته الرسمية في الحرب على العراق العام 1991. تسبب ذلك التراجع بانخفاض معدل النمو الاقتصادي بشكل حاد، وصل إلى السلب في العام 2000، مترافقاً مع ازدياد معدل النمو السكاني الى حدود 2.5 في المئة، وارتفاع نسبة البطالة والتضخم المالي، فوجدت حالة ركود اقتصادي خانق. وفي هذا المناخ ولدت الخطة الخمسية التاسعة 2001-2005، ومهندسها هو عصام الزعيم. وكانت مهامها تتركز على رفع حجم القطاع العام ومكافحة البطالة من خلال زيادة حجم الإنفاق الجاري الحكومي. وهذه افتتح بها بشار الاسد عهده. إلا أن حجم الفساد وشبكاته، والمصالح المتداخلة بين البيروقراطية وشرائح رجال الأعمال حديثة التشكل، وخصائص التسلطية الأمنية السورية، تسببت في إجهاض نتائج الخطة التاسعة، وتسريع البحث عن مصادر تمويل خارجية لتجنب الخوض في متاهات عملية تنموية مستدامة يكون عمادها الداخل المفقر والمهمش.
… الكائن الهجين ينمو
فتْح باب الاستثمار المباشر لرأس المال الخارجي والداخلي أطلق أكبر عملية تحرير اقتصادي في تاريخ سورية المعاصر. وقد جرى التمهيد لها بتطوير البيئة الاستثمارية القانونية، وإصدار أكثر من 1200 قانون ومرسوم بين عامي 2000 – 2005، في الوقت الذي كانت الخطة التاسعة تحاول اثبات نفسها في التطبيق، مما يقول الكثير عن التناقضات القاتلة في تلك الانظمة. تكفلت هذه القوانين والمراسيم بصياغة اطار تشريعي لبيئة الأعمال، وتحسين مناخ الاستثمار، ووضع مشروعات قوانين بشأن التجارة والشركات والمنافسة، ما اعتبر استجابة «طوعية» (من دون توقيع اتفاقيات) مع معايير منظمة التجارة العالمية، من منطلق شعار «التجارة قاطرة النمو». ولم تنل هذه التشريعات وقتها من قوانين القطاع العام، بل كيّفت القوانين السورية معها. وهكذا ازداد نمواً الكائن الهجين والذي سيتحول وحشاً يزيد من افقار الناس.
الخطة العاشرة و«حارة كل مين ايدو الو»
وضعت الخطة الخمسية العاشرة 2006-2010 من قبل الطاقم الاقتصادي والاستشاري الذي شكلته حكومة «محمد ناجي عطري» (2003-2011)، معلنة الهدف: نقل سورية من الاقتصاد المركزي إلى «اقتصاد السوق الاجتماعي». وزينت تلك الخطة بإعلانات سياسية محابية للفقراء، تعد بتطوير المناطق الفقيرة والمهمشة وإدماجها في عملية التنمية، وهي بقيت كلاماً. ورغم أنها صيغت كنموذج ليبرالي، ولكنها حددت ضوابط تنموية ومقاربات لإصلاح مؤسسي شامل.
لم تطبق الخطة الخمسية العاشرة. فهي تلقت صفعة من قبل الحكومة السورية المشاركة في صياغتها…التي رفضتها، بسبب ما تعلق فيها بالإصلاح المؤسسي. وبهذا، وبعدما أُجهضت الخطة التاسعة التنموية على أرض الواقع، تمّ خنق الخطة العاشرة الليبرالية، وجرى اختزالها حكومياً إلى مقاربة ليبرالية مجزوءة وانتقائية. أصر المسؤولون الاقتصاديون في حكومة «العطري»، وعلى رأسهم نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية حينها «عبد الله الدردري»، والذي كان قبل توزيره يشغل موقع رئاسة هيئة تخطيط الدولة، على فرضية تحرير «التجارة الخارجية كقاطرة للنمو الاقتصادي»، دون التفات الى الشرائح الأكثر فقراً، أو تقديم حلول حمائية للصناعة المحلية، أو التركيز على القطاعات الإنتاجية، أو حتى العناية بإصلاح مؤسسي قد يستغرق أكثر من عشر سنوات. فقد كان هناك استعجال لقطف نتائج العوائد المالية الخليجية مباشرة، إثر ارتفاع أسعار النفط العالمية، عبر ما عرف لاحقاً بـ«برنامج الاصلاح الاقتصادي»، وهو برنامج لم يعلن رسمياً لكنه اعتمد كخطة عمل. تماشى ذلك مع تجميد كامل مقترحات «اصلاح ودعم القطاع العام» التي تبنتها الخطة التاسعة، التي كانت خصصت 69 في المئة من استثماراتها لهذا القطاع، ورفعت حجم الإنفاق الحكومي الجاري والاستثماري الفعلي من الناتج المحلي الإجمالي إلى 33.7 في المئة بحلول العام 2004، بعد أن كان 24.6 في المئة العام 1997.
القطاع العام: لا يموت ولا يفنى الغنم
دفع كل ذلك إلى التسريع في انهيار القطاع العام المريض أصلاً (قطاعات واسعة منه كانت خاسرة)، إذ تُرك من دون أي معالجة. انعدمت الإرادة التنموية في إعادة هيكلته، فلا هو يُصْلح ولا هو يُصفّى بطريقة منهجية. وإبقاؤه يتم لأنه يمثل نقطة تقاطع لمصالح البرجوازية البيروقراطية التي تعامل القطاع العام كمصدر لنهب لا ينضب. وهو من جهة ثانية أداة تسلطية ذات طابع اقتصادي – اجتماعي، فهو متخم بالعمالة الفائضة والبطالة المقنعة، ويشكل بيئة متسعة مهترئة تقي آلاف المشتغلين فيه من الانهيار إلى حال البطالة الكلية في حال التسريح الجماعي، وذلك بأجور ابتدائية هزيلة لا تتعدّى 200 دولار شهرياً لموظفي الدرجة الأولى من الشرائح الأكثر تعليماً وتأهيلاً، وتقترب من إعانات البطالة في دول أخرى.
تحالف المئة الكبار
مهّد «عبد الله الدردري» الطريق أمام رجال الأعمال الجدد، عبر انسحاب الدولة من مجالات كانت حكراً لها في قطاع الخدمات الإنتاجية، وفتحها أمام باب الاستثمار للقطاع الخاص، مباشرة في شركات مساهمة أو في شراكة بين الدولة والشركات القابضة الكبرى المعتبرة كصناديق استثمارية، تتملّك أصول الشركات المساهمة المحدثة والتي أجيزت نظرياً عبر المرسوم التشريعي رقم 7 لعام 2000. كانت البداية عبر الشركة «القطرية السورية القابضة»، ثم لحقت بها «الشام» القابضة العام 2006 المدعومة من قبل السلطة والتي يمسك بها رامي مخلوف ابن خال الأسد وصاحب شركة «سيرياتيل» للاتصالات الخليوية، وهو الذي جعل أقاربه وشركات القطاع الخاص ورجال الأعمال والتجار السوريين ينضوون تحت جناحها. وشكل هذا تحوّلاً كبيراً في تكتل العائلات الحاكمة، وتوّجها كقوة اقتصادية تتحكم في الاقتصاد السوري خارج نطاق الدولة والتسلطية الأمنية. دخلت عائلات الأسد ومخلوف وشاليش والأخرس وغيرها في بنية وتكوين الشركات القابضة المستحدثة، وهذا يمثل انتقالاً من السيطرة الأمنية على الدولة والمجتمع إلى السيطرة الاقتصادية عليهما. وقدّر مخلوف حجم نشاط «الشام القابضة» بنسبة 60 في المئة من النشاط الاقتصادي السوري لمجمل الأعوام السابقة على اندلاع الثورة السورية. ثم ظهرت شركة «السورية القابضة» التي أسسها «هيثم جود». ويشكل أعضاء الشركتين وما يدور في فلكهما من كبار تجار وأعضاء الغرف التجارية والصناعية في المدن الكبرى ما دُرج على تسميته بتحالف «المئة الكبار» الذي سيطر على مجمل السوق السورية في السنوات الأخيرة.
ونتيجة الشراكة غير المعلنة بين رجال الأعمال الجدد وكبار موظفي الدولة السورية، خضعت الحكومات لهذه الشركات ومصالح نخبها، حيث أن التحالف بينهما دفع الى توجيه الاستثمارات نحو القطاعات الخدمية ذات الربحية السريعة. وتحوّل النشاط الاستثماري الفعلي الى نظام الاستثمار المباشر BOT (بناء. تشغيل. نقل إدارة الأصل إلى الدولة) في قطاعات العقارات والسياحة والمجمعات الخدمية الضخمة، مما تسبب في ارتفاع قيمة الأرض والعقارات بصورة خيالية، وصلت إلى 500 في المئة، خصوصاً في مراكز المدن الكبرى كدمشق وحلب، في حين غاب الاستثمار كلياً في قطاعات الصحة والصناعة والطاقة. كما أبرمت معظم مشاريع الشركات القابضة مع الدولة منذ تأسيسها وحتى العام 2010 بطريقة الاحتكار، ضمن صيغ العقود بالتراضي، ومنحت مدداً طويلة للاستثمار. وهذه من ضمن ديناميات الفساد الكبير التي تتحكّم بالدولة السورية.
نتائج اللبرلة: فقر مدقع ومتّسع
نقلت اللبرلة الاقتصادية بين عامي 2004-2007 ما يقرب من 22 في المئة من السكان المصنفين «تحت خط الفقر الأعلى» نحو عتبة «تحت خط الفقر الأدنى»، أي بإضافة ما يقرب من 4.5 مليون انسان إلى 2.3 مليون يمثلون 12.3 في المئة من السكان الموجودين سلفاً تحت خط الفقر الأدنى، ليصبح 34 في المئة من السوريين تحت خط الفقر حسب أرقام العام 2008 الواردة في «التقرير الوطني الثاني عن الفقر وعدالة التوزيع في سورية». ادى ذلك الى اختلال توزيع نتائج النمو الاقتصادي الذي راوح عند معدل 5.1 في المئة للفترة ذاتها، وهي نسبة عالية غالباً ما يجري الاعتداد بها كدليل على الازدهار، فيما هي ناتجة عن حسابات كمية بحتة، تستند الى معدل وسطي بالأسعار الثابتة بين عامي 2000 -2010، وتعبر عن الحركة القوية لرأس المال التي استفادت منها شرائح رجال الأعمال وشركاتهم القابضة. كما ارتفع معدل التضخم العام 2008 إلى 15.15 في المئة نتيجة اجراءات رفع الدعم عن السلع الرئيسية والتي زادت أسعارها بنسبة 56 في المئة، عما كانت عليه عام 2000، وخاصة اسعار الرز والسكر اللذين كانا مشمولين بالدعم. وتم خفض الدعم عن المشتقات النفطية وتحرير أسعارها ضمن شرائح. وكانت الضرائب المباشرة على الأرباح الحقيقية خفضت إلى مستويات قياسية عالمياً لتصبح 14 في المئة للشركات المساهمة العامة، و27 في المئة لشركات الأشخاص، ورفعت نسبة الضرائب غير المباشرة والرسوم، كضرائب الرواتب والأجور والرسوم الجمركية التي تتحمّل عبئها الفئات الواسعة في المجتمع: تراجعت نسبة الضرائب المباشرة الى الناتج المحلي الإجمالي بأسعار السوق من 13 في المئة العام 2001 إلى 6.5 في المئة العام 2008، في حين تضاعفت نسبة الضرائب غير المباشرة إلى الناتج المحلي من 4 في المئة إلى 8.8 في المئة للفترة نفسها، مما يُعتبر نسبة عالية جداً.
وقد وصلت نسبة البطالة إلى 16.5 في المئة العام 2009، أي 3.4 مليون عاطل عن العمل من مجمل حجم قوة العمل السورية، بسبب إفلاس مئات المنشآت الصناعية الصغيرة والمتوسطة، والخسارة الهائلة التي مُني بها قطاع الزراعة، بنسبة 44 في المئة من حجم قوة العمل فيه. وهذا لم يتأتّ من الجفاف في المنطقة الشرقية فحسب، بل من التهميش الحكومي وإحجام القطاع الخاص عن الاستثمار به. تراجع حجم قوة العمل الزراعية في ريف دمشق بين العامين 2002 – 2008 بنسبة 60 في المئة، وفي حلب بنسبة 54 في المئة، وفي السويداء بنسبة 67 في المئة. ولم يتمكن الاقتصاد الوطني من خلق سوى 90 ألف فرصة عمل صافية بين عامي 2004-2008، في حين كان يلزم فعلياً تأمين 720 ألف فرصة عمل حقيقية.
كيف دفع الناس الى الثورة
وهكذا، عانى المجتمع السوري من انهيارات متلاحقة شملت جميع صعد الحياة، إذ تراجعت وبشكل حاد الخدمات الصحية وميزانية التعليم. وطفت على السطح ظواهر العشوائيات التي يقطنها ما يزيد على 40 في المئة من سكان المدن، وازداد نخر الفساد في كل المؤسسات والسلطات بما فيها التشريعية والقضائية، وغيبت الدولة عن دورها الحمائي الاجتماعي – الاقتصادي للمواطن، في حين ظلت التسلطية الأمنية سيفاً مسلطاً على حياة المجتمع المدني والأهلي، مما رفع مقدار التوتر الشعبي إلى عتبات قصوى من الغضب، لم يعد يجدي معها نفعاً سوى الثورة، فخرج الشعب «يريد إسقاط النظام».
* أستاذة الاقتصاد السياسي من سوريا
السفير