سوريا: المادة الثامنة على طريق الإلغاء؟
تتأرجح سوريا بين خيار أمني وآخر سياسي. لا النظام قادر على الحسم الأمني، ولا المعارضة قادرة بدورها على الحسم السياسي. في المقابل، لا يريد الخارج التورّط في إسقاط النظام، ولا هو قادر على توحيد المعارضة، ويُغمض عينيه عن الدور الأمني للإخوان المسلمين
نقولا ناصيف
لا تواجه سوريا دعوة إلى الإصلاح الشامل فحسب، بل أيضاً إلى الانتقال الجذري من حقبة إلى أخرى، تضع نظام الرئيس بشّار الأسد، الذي أبقى إلى حدّ بعيد على سمات الحكم الطويل لوالده الرئيس حافظ الأسد، أمام امتحان استعداده للتحوّل إلى حقبة جديدة ومختلفة تماماً، بل الواضح أن وطأة التهديدات التي تجابه الأسد في الداخل، ومن الخارج خصوصاً،
تضعه عند مفترق المجازفة بين المحافظة على نظام والده منهكاً وضعيفاً ومهدّداً، ولا يشبهه أبداً عندما كان في ذروة قوته على امتداد ثلاثة عقود، وبين الانتقال بسوريا إلى مرحلة لم يرسم الأسد الابن ملامحها بعد، ولا تحدّثت عنها المعارضة السياسية، فلم تقل أي سوريا تريد، وأي نظام يخلف نظامي الأب والابن.
بيد أن الأمر جلي بالتأكيد عند الإخوان المسلمين، الذين يسعون إلى تقويض النظام القائم لإقامة نظام آخر لم تخبره سوريا على مرّ تاريخها منذ الاستقلال عام 1946، ولم يسبق لأي من رؤساء مرحلة ما قبل الانقلابات العسكرية ولا قادة هذه الانقلابات أن خاضوا فيه، وهو قيام نظام إسلامي على نحو ما يتوخاه الإخوان المسلمون.
يبدو الجدل المحيط بالمادة الثامنة من الدستور السوري، التي تجعل حزب البعث الحزب القائد في المجتمع والدولة، النموذج الأمثل لامتحان المجازفة الذي ينتظر الأسد بين إبقاء نظامه مطعمّاً بإصلاحات سياسية، والفصل الكامل بين الحزب والدولة، كي تكون هذه على صورة المجتمع التعدّدي، ويكون ذاك أحد الأحزاب العاملة، فلا يقبض على الجيش والأجهزة الأمنية والحكومة والبرلمان والإدارات الحكومية، ولا يُنتخب رئيس إلا من صلبه.
ويرتكز الجدل الدائر على المادة الثامنة على معطيات لا ترضي طرفي النزاع على الأقل، وهما النظام ومعارضوه السياسيون. لا يعرف البعثيون أيّ نظام يستقرّون عليه بلا حزبهم القوي، والمهيمن على كل الدولة. ولا يكتفي المعارضون بإلغاء المادة الثامنة، ساعين إلى أكثر من إعادة النظر في الدستور، إلى إخراج الرئيس وحزبه كلياً من أجل بناء دولة مختلفة، لا يعرفون مَن تشبه وماذا تشبه.
قوة الأسد أنه لا يزال يمسك بالجزء الأقوى من الشارع. وضعف المعارضة أنها عاجزة عن تفكيك دولة الحزب قبل تفكيك الحزب نفسه.
أما أبرز المعطيات تلك، فتكمن في:
1 ـ المناقشات المستفيضة داخل القيادة القطرية للحزب، المنقسمة بحدّة بين مؤيدين لإبقاء المادة الثامنة، ومنادين بإلغائها، آخذين في الحسبان الأمر الواقع الجديد الذي ضرب النظام برمته منذ 15 آذار الماضي، عندما انفجرت الاحتجاجات الشعبية تدريجاً. بدأت بالمطالبة بالحرية، ثم تطورت سريعاً لتدعو إلى إسقاط النظام عندما راحت تدمر التماثيل. ثم دخلت على خط النزاع بين النظام ومعارضيه الهجمات المسلحة لتنظيم الإخوان المسلمين كي يختلط الأمني بالسياسي في الأزمة السورية.
ورغم تشبّث القوى المتشدّدة بالتطابق بين الحزب والدولة كجزء لا يتجزأ من تراث البعث وتاريخه وبقائه مع مراعاة المطالب الإصلاحية، أحرزت المناقشات تقدّماً ملموساً في تغليب وجهة نظر الفريق المطالب بإلغاء المادة الثامنة، وبينهم مسؤولون كبار محيطون بالأسد، كنائبه فاروق الشرع. واستمد الداعون إلى الإلغاء حجتهم من أن الحزب ترأس الدولة 10 سنوات بين عامي 1963 و1973 قبل إدخال هذه المادة إلى الدستور، وكان حزب البعث يمسك بقبضته على النظام برمته، بشقيه المدني والعسكري، من غير أن يتسلّح بالمادة الثامنة.
قال هؤلاء أيضاً، في معرض انتقادهم شيخوخة الحزب وترهّله، إن ضمور العضل يحتّم تقويته بدوافع تحمله على منافسة الأحزاب الأخرى للوصول إلى السلطة، في نطاق تسليمهم بالتعدّدية الحزبية. سمع الرئيس السوري كلاماً مماثلاً لدى اجتماعه بالقيادة القطرية للحزب ولجنته المركزية في 17 آب الماضي، عند تأكيده المضي في تطبيق قانون الأحزاب بعد صدوره.
2 ـ يسلك إلغاء المادة الثامنة طريقه إلى التحقّق داخل الحزب، تحت شعار كان قد طرحه الرئيس، وهو إجراء مراجعة شاملة للدستور تتناول كل المواد التي تحتاج إلى إعادة نظر وإصلاح، بما فيها المادة الثامنة، كي لا يُقال إن آفة النظام تكمن في المادة الثامنة فحسب. واقع الأمر أن المراجعة الشاملة للدستور لا تعدو كونها إلّا غطاءً سياسياً من أجل حصر التعديل في المادة الثامنة وتلك الوثيقة الصلة بها والملازمة لتطبيقها كمقدمة الدستور والمادة 84:
ـ تتطرّق مقدمة الدستور إلى حزب البعث بشقين: أولهما جعله السلطة أداة في «خدمة النضال»، وثانيهما قيادته «جبهة وطنية تقدّمية» أضحت الأداة الوحيدة للتنظيم الحزبي الممثل في مجلس الشعب، وللعمل المشروع للأحزاب وإطاره الدستوري الذي أوردته المقدمة والمادة الثامنة.
ـ المادة 84 التي تنتزع من مجلس الشعب صلاحية أساسية في آلية انتخاب رئيس الجمهورية، هي صدور الترشيح بناءً على اقتراح القيادة القطرية لحزب البعث. والواضح، على مرّ تاريخ هذه المادة طوال 38 عاماً، أن القيادة القطرية تملي، بحكم الدور المنوط بالحزب في المادة الثامنة، على مجلس الشعب اسم المرشح الوحيد للرئاسة من أجل أن يتبنّاه ويدعو المواطنين إلى الاستفتاء عليه. هكذا انتُخب الأسد الأب بعد صدور دستور 1973 لأربع ولايات (1978 و1985 و1991 و1999)، وانتخب الأسد الابن لولايتين (2000 و2007). الأمر الذي يعني أن القيادة القطرية، لا مجلس الشعب، هي الناخب الرئيسي للرئيس. ومع أن الرئيس يمسك بكلتا الهيئتين، إلا أنه لا يفصل صلاحيات إحداهما عن الأخرى، ولا يمنح كذلك مجلس الشعب استقلالاً عنه، ويضع مجلسي الوزراء والشعب في عهدة سبعة أحزاب تؤلف برئاسته الجبهة الوطنية التقدّمية.
ولعلّ المفارقة المثيرة للانتباه أن الأحزاب السبعة المؤلفة للجبهة الوطنية التقدّمية، مطعّمة بمستقلين، لا تزال إياها تحكم الحياة البرلمانية منذ عام 1973، عندما كرّس الدستور في متنه كيانها بقيادة حزب البعث الذي تمنحه الانتخابات النيابية، دورة تلو أخرى، ما يتجاوز ثلثي نصابه القانوني. الأمر الذي يؤول إلى اقتران نفاذ القانون الجديد للأحزاب ووضعه جدّياً موضع التنفيذ، والسماح بتعدّديتها، بتعديل المادة الثامنة بغية إلغاء احتكار الجبهة الوطنية التقدّمية العمل الحزبي، وإخراج هيمنة البعث على الأحزاب الأخرى الدائرة في فلكه، وتجريده من المقوّمات التي تمكّنه من السيطرة على الصلاحيات التنفيذية والاشتراعية للمؤسسات الدستورية.
3- لا يبدو النظام منفتحاً على إصلاحات تتجاوز هذا الجانب، على أهميته الجوهرية، إلى الخوض في تغيير أسس النظام الرئاسي والصلاحيات الدستورية الواسعة النطاق التي يتمتع بها الرئيس وتدمج الاشتراعي بالتنفيذي كي تضعهما في عهدته، وتضع الدولة بين يديه. كذلك لا يبدو في وارد استعجال انتخابات نيابية جديدة قبل تعديل الدستور، رغم انتهاء الولاية الحالية لمجلس الشعب في 6 أيار الماضي، إذ يرتبط تحديد موعد للانتخابات بإنهاء الحلّ الأمني الذي يرسم عندئذ توازن قوى جديداً على الأرض بين المؤيدين للنظام ومعارضيه.
الأخبار