سوريا: المدينة الناعمة والوحش!/ سامر محمد إسماعيل
لم تنجُ الحركة الثقافية السورية من مطبات عديدة مع دخول الفاجعة عامها الثالث، لكنها أيضاً لم تنحسر، ولم تضمحل، ففي عواصم المدن الكبرى ما زال هناك من يراهن على مواجهة العنف بالمسرح؛ والقذائف بالقصيدة؛ والسيارات المفخخة بالسينما، فالأنشطة الثقافية والفنية ما زالت تراهن على مفهوم «المدينة الناعمة» على تلك الأماكن التي يمكن أن تقدم فيلماً أو أمسيةً شعرية أو عرضاً مسرحياً بعيداً عن جحيم القتال الدائر؛ ففي زمن حروب الشوارع لابد من أماكن بديلة توفر فضاء لمدينةٍ سريةٍ، مدينة محايدة؛ أو لنقل احتياطية تعيش مسرح الأندرغراوند كما حدث مع مسرحية « العودة إلى البيت» العرض الذي قدمه المخرج أسامة غنم في قبو فندق «برج الفردوس» بدمشق، مشتغلاً على نص الإنكليزي هارولد بنتر عبر مقاربات جريئة للحدث السوري طرحت أسئلة العائلة كنواة أولى للانتماء والوجود، كذلك فعل الفنان سامر عمران في مسرحيته « رماد البنفسج» التي صاغها مع طلابه في أستوديو معهد الفنون المسرحية، ففي إطار العروض الخاصة والصغيرة؛ تمكن عمران من تشخيص الجنون السوري من خلال ثيمة مرضى الفصام، حيث تحوّل مستشفى الأمراض العقلية إلى مختبر لقياس هستيريا وطنية مزمنة تدفع بأصحابها نحو انتحارٍ جماعي خاطف. هكذا يمكننا توصيف حال المسرحية السورية بمزيد من العروض التي قدمها المسرح القومي بدمشق عام 2013، حيث صاغ عروة العربي أيضاً عرضاً جريئاً حول الهوية السورية عن نص لعدنان العودة بعنوان « المرود والمكحلة» باحثاً في سيرة الأعراق والأديان والإثنيات بما يشبه مراجعة لمئة عام من تعايش القوميات والمذاهب في بلاده، كما قارب كفاح الخوص المأساة من خلال مسرحيته « في بار بشارع الحمرا» العرض الذي كتبه عن واقع النازحين في بيروت وبقية منافي الشتات السوري، مستعرضاً أشكالاً عدة لخيانة المكان عبر خيانة الصديق والزوجة. حظ المسرح لم يكن كحظِّ اللوحة التشكيلية التي تراجع حضورها في المدن السورية بعد إطاحة التكفيريين برأس تمثال أبي العلاء المعري، وإحراق مرسم الفنان أحمد معلا في قدسيا قرب دمشق؛ كإشارة تحذير لكل من يعمل في النحت التجسيدي والتصوير، حيث شهد هذا العام انسحاباً كبيراً لمعظم صالات العرض من محترفات كانت مالئة الدنيا وشاغلة الناس فيما مضى، إضافةً لهجرة كبيرة للتشكيليين السوريين خراج بلادهم، لتغيب برامج صالات عرض رئيسة في قلب العاصمة على نحو: « أيام؛ آرت هاوس؛ تجليات؛ الأتاسي؛ عشتار»مع حضور لمعارض الخريف والربيع في خان أسعد باشا وصالة الفنون الجميلة بدمشق؛ إذ يواظب اتحاد التشكيليين على برمجة هذه الفعالية الموسمية لتجارب اعتمدت في محترفها على حساسية مغايرة ومختلفة في تناول الحدث السوري؛ مع بقاء معظم التجارب الجديدة في دائرة المؤسسة الرسمية التي تعرض اللوحات مرةً واحدة وإلى الأبد؛ قبل أن تودعها دائرة الفنون الجميلة جداً في مخازنها ومستودعاتها الرطبة، فالجميع يعرف أن سورية لا تمتلك متحفاً للفن الحديث، لا سيما بعد أن أقامت الحكومة على قطعة الأرض المخصصة لهذا المتحف حديقة للحيوانات.!
السينما والشعر
السينما كانت حاضرة من خلال إنتاجات المؤسسة العامة، فعلى الرغم من صعوبة عرض الأفلام المُنتجة، إلا ان الجمهور السوري تابع باهتمام فيلم «مريم» لباسل الخطيب وفيلم «صديقي الأخير» لجود سعيد؛ الشريطان اللذان تم عرضهما بحضور جماهيري لافت في صالات دمشق واللاذقية وطرطوس والسويداء، فرغم الظروف الأمنية الصعبة ثمة جمهور ظل مصمماً على المجيء إلى صالات العرض، بينما تأخر عرض فيلم «العاشق» لعبد اللطيف عبد الحميد بعد أنباء تفيد عن عرضه في مهرجان للأفلام السورية بمناسبة اليوبيل الذهبي للمؤسسة العامة للسينما، لكن هذا الأخير تم تأجيله من قبل وزارة الثقافة حتى إشعار آخر، ليقوم المخرج محمد عبد العزيز بإنهاء عمليات تصويره لفيلمه الجديد «ملائكة النهار- عنوان مؤقت» بينما قام جود سعيد بإنهاء تصويره لفيلمه الجديد «في انتظار الخريف» كما شرع باسل الخطيب مؤخراً بتصوير شريطه الأحدث «الأم» عن سيناريو كتبه بالتعاون مع تليد الخطيب، لكن ما يلفت في الحراك الثقافي السوري لعام 2013 ازدياد ظاهرة الملتقيات الشعرية التي ردت على خشبية المراكز الثقافية الواقعة تحت الرقابة الصارمة للسلطة، إذ تشهد العاصمة دمشق نمواً مطرداً لفعاليات أهلية تسربت من سطوة الخطاب الرسمي الخشبي نحو فضاء حر للتعبير وكتابة مغايرة لقصيدة النثر، بدأها المسرحي أحمد كنعان بملتقى «يامال الشام – شعر وخمر» بعد نقله لهذا النشاط من بيروت إلى دمشق، جنباً إلى جنب مع ملتقى «ثلاثاء شعر» الذي ينظمه دار سرجون للطباعة والنشر بإشراف من الشاعر زيد قطريب في قلب المدينة القديمة.
ملتقيات الشعر تطورت نحو جمهور «القلة الكثيرة» التي يراهن القائمون على حضورها لإيجاد فسحة مناوئة للعنف اليومي، والتأكيد على شرعية القصيدة في طرق أبواب لا تجرؤ الفنون الأخرى على اقتحامها، لتتفاقم هذه الظاهرة مع ملتقيات أسبوعية عديدة كان أبرزها ملتقى «أضواء المدينة» الذي ينظمه كل من الشاعر عمر الشيخ والروائي جورج حاجوج في صالة «نينار» بباب شرقي، وملتقى «جرمانا الشعري» الذي تشرف عليه الشاعرة رولا حسن، إضافةً لملتقى «عناة» بمدينة صحنايا الذي ينظمه الكاتب عدنان أزروني؛ إذ تزخر هذه اللقاءات الأسبوعية بجمهور من شرائح مختلفة لأطياف المجتمع السوري، وكأن الحوار يبدأ من هناك بين الكمان والدبابة، بين البلدوزر والوردة، فحال هذه التظاهرات يبدو كمن يصر على الموت حباً بما تبقى له من مدنه العائمة فوق شلالات الدم، مفارقة تعكس أثراً كبيراً تركته هجرة بعض النخب السورية من بلادها، مفسحةً المجال لأصوات جديدة تعلو على صوت المعركة. من هنا كان على من بقوا في سورية من أدباء وفنانين وكتّاب تدبر أمرهم، والخوض في صياغة النص تحت وابل من قذائف الموت العبثي، فبين مثقفي الداخل ومثقفي الخارج تبدو المسافة عبارة عن جمل عريضة من الحنين وتوازع الميراث، لكن مهلاً هناك أيضاً من حافظ على صمته وهدوئه مشتغلاً دونما ضجة تُذكر على توثيق الكارثة، هكذا أنجز خليل صويلح مخطوط روايته الجديدة « جنة البرابرة» مُسجلاً لألف يوم ويوم من عمر المذبحة عبر نص يغرف من التراث والسيرة الشخصية، مقارباً يوميات البديري حلاق بمسامرات الموتى الجدد؛ وليحقق محمد ملص فيلمه الأحدث «سلم إلى دمشق» عابراً إلى شريط صادم ومؤثر عن الجرح السوري المفتوح؛ فيما وصلت منشورات هيئة الكتاب السورية إلى ما يقارب 273 عنواناً في زمن نزوح معظم دور النشر السورية إلى خارج البلاد، وتوقف معرض دمشق للكتاب بعد دورته الأخيرة 2011، ليتوقف معه كل من مهرجاني دمشق المسرحي والسينمائي، ولتكون دار الأوبرا السورية رهناً لحفلات المولوية وبرنامج حفلات الفرقة السيمفونية التي تواظب على تقديم برنامج أمسياتها؛ وكأنها نسخة من عازفي سفينة التيتانيك، أو عنوان مشابه لمجابهة مستمرة عنوانها اسم مقطوعة شوبرت الشهيرة «الموت والعذراء»..
(كاتب سوري)
السفير