سوريا: “المركزي” “يوسع” السوق السوداء من بوابة النفط؟/ بلقيس أبو راشد
خطوة إيجابية كشف عنها النظام السوري، أتت من باب المصرف المركزي، وهي في الظاهر لمصلحة التجار والصناعيين، لكنها تحمل في طياتها مآرب أخرى، تهدف إلى تعزيز وضع المقربين من النظام.
هي مبادرة أطلق عليها المصرف المركزي اسم “تنظيم التمويل”، وجاءت نتيجة مطالبة الفعاليات الاقتصادية بفتح الباب أمامهم لإستيراد المشتقات النفطية، وبتمويلٍ واضحٍ وصريح من المركزي، بعد أن ظل هذا القطاع حكراً على مؤسسات الدولة لعقود. وأتت هذه المبادرة بعد تراجع انتاج النفط إلى مستويات غير مسبوقة، وفقدان سيطرة النظام على معظم الحقول في شمال سوريا، وعجزه بالتالي عن الوفاء بإحتياجات السوق عموماً وما بقى من الصناعيين خصوصاً. وقد نصت المبادرة على وجوب تقديم طلب استيراد المشتقات النفطية إلى مديرية الاقتصاد والتجارة الخارجية، والتي ستقوم بدورها بإحالة الطلب إلى المصرف المركزي مرفق بوثائق إجازة الاستيراد المبدئية التي تبين مبلغ التمويل وكمية المادة المطلوب استيرادها، وكتاب من المستورِد ينص على تحديد الطريقة التي سيقوم على أساسها بتمويل استيراد المشتقات، سواء من حساباته في الداخل السوري أو من الخارج أو من قبل المركزي. ومن ثم سيقوم المركزي بدراسة الطلب ومنح الموافقة على مصدر التمويل وفق الطرق المتاحة للمستوردين والتي يراها المركزي مناسبة.
لكن بالعودة إلى الذاكرة، نرى أن مثل هذا الإجراء صعب الحصول، فقطاع النفط بيد الدولة التي تحدد وحدها كل الآليات المتعلقة به، حتى أنه، وخلال سنوات الثورة السورية، عمل المصرف المركزي على تحديد سلع ومنتجات يستوردها القطاع الخاص، ويقوم هو بدوره بتمويلها بالدولار، على أن يدفع التاجر القيمة نفسها بالليرة السورية، بعد أن كان قبل العام 2011 يمول كامل مستوردات القطاع الخاص بالقطع الأجنبي، وذلك حتى لا يفسح المجال لاتساع وتشعب السوق السوداء، ضماناً منه لثبات سعر صرف الليرة مقابل الدولار. لذلك، فإن الذاكرة تفضي إلى التشكيك بقرار البدء بتنظيم تمويل استيراد المشتقات النفطية بالقطع الأجنبي لصالح القطاع الخاص، خصوصاً أن تخلي المصرف عن دوره السابق، في زمن الحرب، يسمح بإنتشار السوق السوداء، التي يفترض فيه أن يكافحها.
التناقض الواضح بين ممارسات المصرف المركزي السابقة والحالية، تُظهر أن العملية الجديدة “ستفتح الباب واسعاً للمركزي للإمساك برقبة التجار، ومنح الموافقات أو حجبها وفقاً للمحسوبيات، فهناك عشرات البوالص المقدمة من التجار يومياً لا يتم الموافقة عليها من دون تقديم مبرر واضح”، وفق ما أشار إليه أحد الخبراء المصرفيين السوريين (فضّل عدم ذكر إسمه) لـ”المدن”. وعن المكاسب المحتملة في عملية الاستيراد، أوضح الخبير أن “التجار سيستفيدون ثلاث مرات، الأولى من التمويل الذي سيمنح لهم من المركزي، حيث سيتم منحهم التمويل بالدولار وبسعر أقل من سعر السوق. والثانية من خلال الربح التي سيتم جنيه من بيع النفط المستورد أيضاً في السوق السوداء، خصوصاً في ظل الطلب الكبير على المشتقات النفطية، حيث يقضي السوريون هذا الشتاء من دون تدفئة، لعدم وجود المشتقات النفطية وارتفاع أسعارها. أما المكسب الثالث فهو استخدام تلك المشتقات للغرض المعلن عنه كسبب للسماح بإستيرادها، وهو تشغيل المنشآت الصناعية، ما يعني توفيراً في تكاليف الإنتاج، وطبعاً هذا لن ينعكس على السعر النهائي للمنتج، كما جرت العادة في السوق السورية”. وهنا تجدر الإشارة الى ان حركة العرض والطلب في سوريا ليست سليمة في ظل الأوضاع الراهنة، أي ان المنشآت لا يمكنها انتاج سلع بكميات كبيرة كما كانت تفعل قبل الحرب، نظراً لعدم توفر الطلب الكافي، مما يعني ان الكميات المطلوبة من النفط لن تُستعمل جميعها في الإنتاج، فإلى أين سيذهب الباقي؟ خصوصاً أنّ وزارة الاقتصاد السورية أعلنت عن زيادة في عدد الطلبات المقدمة من قبل التجار لإستيراد المشتقات النفطية.
بدوره أشار خبير اقتصادي آخر (فضل عدم الكشف عن اسمه)، لـ “المدن”، إلى أن “الفرق القائم الآن بين سعر الصرف الرسمي والسوق السوداء، يزيد عن 8 % (سعر دولار المركزي 199 ليرة، في حين أن دولار “السوداء” 215)، ووفقاً لضوابط التمويل لدى المركزي فمن المتاح للتاجر تأمين التمويل من ماله الخاص أو من المركزي، ما يعني أن من سيدفع من ماله الخاص سيزيد تكلفة الاستيراد لديه عمّن سيأخذ تمويل المركزي بنسبة 8 %”، وهنا يرجح الخبير أن يكون المحدد الأساسي لإنتقائية المركزي في الموافقة على التمويل من عدمها، هو “الفساد”.
ويؤكد الخبير أن “العقوبات الدولية تمنع استيراد المشتقات النفطية على الأفراد والحكومة معاً، ما يعني أن مصادر التجار أو الصناعيين هي ذاتها مصادر الحكومة أي الدول الحليفة، وبالتالي فإن الأساس في السماح للقطاع الخاص بإستيراد المحروقات، فيه الكثير من الالتباس”. ويضيف أن النظام و”لأول مرة تخلى عن احتكاره للمواد النفطية، وإن كان السبب المعلن هو تشغيل المنشآت الصناعية، فالسبب الكامن خلف الكواليس هو إنعاش سوق المحروقات السوداء، وتحقيق الفائدة لبعض التجار المقربين من السلطة، خصوصاً بوجود فرق بين الأسعار المحلية والأسعار العالمية للنفط مع انخفاض سعر برميل النفط إلى حدود 46 دولاراً للبرميل”.
بالرغم من ذلك، فإن إظهار التناقض بين الأهداف المعلنة وتلك المخفية، كان يمكن التغاضي عنه والأخذ بالنوايا الحسنة لو أن كميات المشتقات النفطية المستوردة يتم مقارنتها بواقع الإنتاج أو عدد العمال، لكن هذه المقارنة غير موجودة، مما يتيح للتجار والصناعيين -المقربين من النظام بمعظمهم- تقدير حجم حاجاتهم وإنتاجهم.
المدن