صفحات سوريةعلي العبدالله

سوريا الى أين؟/ علي العبد الله

مع دخول الثورة السورية عامها الرابع تثور بين السوريين أسئلة قلقة حول المستقبل والمصير في ضوء الحالة السائدة في البلد، وتمسك النظام بالسلطة ورفضه أي حل آخر، ووضع المعارضة، بجناحيها السياسي والعسكري، الحرج لما تواجهه من انقسامات وتشتت، وفشلها في ادارة الصراع، خاصة بعد تعدد ساحاته، ودخولها، تحت ضغوط اقليمية ودولية، في مواجهة مع الجماعات المتطرفة، وتجرعها هزائم عسكرية في معارك مع قوات النظام وحلفائه، وخسارتها لحواضن شعبية، وتعاطي المجتمع الدولي الرخو مع التطورات الميدانية والسياسية السورية.

 كل هذا جعل التساؤل “سوريا الى اين؟” مشروعا وضاغطا.

يسود اعتقاد لدى كثيرين من المواطنين السوريين انهم باتوا سلعة وضحية لصراع مشاريع سياسية على ارضهم ترتبت على انخراط قوى اقليمية ودولية في الصراع، ومحاولة كل منها توظيف الحدث السوري لتحقيق مصالح خاصة ولو على حساب دم السوريين ومستقبل اجيالهم ووطنهم. فقد أحدث انفجار ثورة الحرية والكرامة هزات زلزالية وارتدادات محلية وإقليمية ودولية ضربت في العمق معادلات سائدة استثمرت فيها قوى اقليمية كثيرا (ايران وتركيا وإسرائيل)، وأثارت هواجس ومخاوف قوى دولية لما يمكن ان يحدثه العامل الشعبي السوري، الذي نهض مطالبا باستعادة دوره وحقوقه، من متغيرات محلية وإقليمية ودولية، ما دفعها للتحرك لحماية استثمارها والتحكم بتطورات الحدث وتداعياته. فالنظام الذي كان لعقود خلت الدولة وساحة الاستثمار في آن أدرك مغزى خروج المواطنين للمطالبة بالإصلاح بداية ثم بالتغيير الشامل تاليا على شرعيته وموقعه في المعادلة المحلية والإقليمية والدولية وانعكاس ذلك على قواه ورعاته وحماته، فأطلق آلة القمع، ووظّف كل امكانيات الدولة المادية والبشرية لاستعادة المبادرة وتثبيت المعادلة القديمة وإنهاء الثورة وإعادة المواطنين الى بيت الطاعة التي ظن انها حالة دائمة في ضوء ما فعله بالبلاد والعباد من 8 آذار 1963 الى مذبحة حماة مرورا بعمليات السيطرة والتحكم والتنميط التي نفذتها أجهزة مخابراته بعد انقلاب الحركة التصحيحية عام 1970. ايران وتركيا، اللتان دخلتا في العقد الأخير في صراع مكتوم على سوريا، عملتا، كل لاعتباراتها الخاصة، على دفع الاوضاع المتحركة على الساحة السورية لخدمة مصالحهما العميقة، فإيران التي تتوجس من عودة الموجة الخضراء فيها من جهة وخوفها على استثمارها في سوريا ولبنان من جهة ثانية غذت توجه النظام لرفض مطالب المواطنين واستخدام القوة لسحق الاحتجاجات، في حين سعت تركيا لإقناعه بالاستجابة لمطالب التغيير وإجراء اصلاحات تشيع الديمقراطية بما في ذلك اشراك المعارضة في صياغة القرار الوطني. اسرائيل، التي لم تنس ايجابيات النظام، حيث ساد الهدوء طوال عقود على حدودها مع سوريا، ودوره في إضعاف الموقف الفلسطيني في ضوء شقه لصفوف الحركة الوطنية الفلسطينية، اعتبرت التغيير كارثة سياسية، واستثمرت الحدث لتدمير امكانيات سوريا مع عدم السماح بالحسم لصالح أي من الطرفين لذا وظّفت نفوذها الدولي للإبقاء على المذبحة والتدمير مستمرين. دول الخليج، التي ليست على تماس جغرافي مباشر مع سوريا، رأت في الثورة السورية فرصة وخطرا، فرصة لإخراج ايران منها، وخطرا لاحتمال قيام نظام ديمقراطي في سوريا في حال انتصرت الثورة، فتحركت على مستويين: اسقاط النظام وتهجين الثورة (مد الثورة بالمال والسلاح والتحرك سياسيا في خدمتها واللعب داخلها لصياغة توازن قوى يعيق توحد الثوار على حل محدد وواضح عبر بذر مشاريع متناقضة ومتصارعة داخلها). روسيا، الدولة التي تعاني من تبعات جغرافية سياسية وتضييق غربي عبر تمدد حلف الناتو الى حدودها الغربية، اعتبرت اسقاط النظام خسارة جسيمة لوجودها في المياه الدافئة، وخطرا داهما قد يحرك احجار الدومينو في محيطها القريب، خاصة ايران، فاستنفرت امكانياتها السياسية والتسليحية والخبرات التقنية لدعم النظام وتثبيته حتى لو ادى ذلك الى تفكك المجتمع والدولة السوريين. الغرب، بجناحيه امريكا والاتحاد الاوروبي، عاش تناقضا منطقيا فهو مع استثمار ثورات الربيع العربي للترويج للقيم المعتبرة غربية: الديمقراطية وحقوق الانسان والسوق الحرة، وللضغط على ايران وروسيا، وضد التغيير في سوريا خدمة لإسرائيل وخوفا من تداعيات انتصار الثورة على دول الجوار( لبنان والأردن ودول الخليج) ما دفعه الى اللعب على الوقت والتناقضات، خاصة انقسامات المعارضة وبروز جناح اسلامي متشدد داخلها وآخر وافد من خارجها، والدفع باتجاه استمرار الصراع لاستنزاف الخصوم( ايران، روسيا، الجماعات الاسلامية المتشددة) وإنضاج شروط عقد صفقة تحت سقف “لا غالب ولا مغلوب”، وإقامة نظام جديد في سوريا قائم على المحاصة بالتذرع بالتعددية القومية والدينية والمذهبية والخوف على الاقليات وحقوقها، نظام رخوي ضعيف التماسك وسهل الانقياد او التأزيم ما يجعل سوريا في حالة ضعف بنيوي دائم في مواجهة التطورات الاقليمية والدولية.

جسدت مواقف الدول من الثورة السورية برامج ومشاريع ومصالح هذه الدول وتوظيفها للحدث السوري لتحقيقها عبر دعم موقف احد طرفي الصراع قبل ان تلجأ إيران الى استدعاء منظمات مسلحة شيعية لخوض حرب بالوكالة (حزب الله اللبناني، لواء ابي الفضل العباس، عصائب أهل الحق، كتائب حزب الله العراقي، لواء بدر، وغيرها وغيرها)، هذا دون ان ننسى الحرس الثوري الايراني ممثلا بفيلق القدس الذي يقوده الجنرال قاسم سليماني، متذرعة بمشاركة حركات اسلامية سنية تكفيرية وإرهابية شجعتها ودعمتها السعودية وقطر وتركيا(جبهة النصرة لأهل الشام، الدولة الاسلامية في العراق، ومقاتلون أفراد من دول اسلامية وغربية)، دعما للنظام الذي ظهرت عليه عوارض الانهاك والتهلل العسكري.

قاد الانخراط الاقليمي والدولي الى تعدد الخيارات وتناقض المصالح وتعقدها، وتراجع فرص الحل وامتداد الصراع عبر تغذيته بعوامل الاستمرار. انعكس ذلك سلبا على المجتمع والدولة السوريين، فعلاوة على مئات آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين والمعتقلين، وملايين النازحين واللاجئين، والدمار الهائل في المدن والبلدات والقرى، وانهيار الصناعة والزراعة وتهتك البنى التحية والخدمية( مدارس، مشاف، كهرباء، مياه، نفط، طرق جسور) والخسائر الاقتصادية الضخمة، طفت على السطح عوارض ضعف الاندماج الوطني وهشاشة الوطنية السورية، وبرزت الخلافات القومية والدينية والمذهبية وانبعاث الولاءات ما دون وطنية، العرقية والمذهبية والدينية والجهوية، وتباين الرؤى والخيارات الوطنية وتعددها في المجتمع وداخل صفوف الثورة بين دعوات ومشاريع متضاربة من الفدرالية الى اللامركزية الادارية الى دولة مركزية بخلفية اسلامية(دولة خلافة) ومركزية تسلطية الى دولة مواطنة وديمقراطية ومساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.

سوريا الآن تحت قصف عقائدي وسياسي وتسليحي بهدف توليف الوضع والتحكم بمساراته على طريق إنضاج شروط الحل عبر ارهاق طرفي الصراع بانتظار اتفاق القوى الاقليمية والدولية على صفقة تأخذ بعين الاعتبار مصالحها المتعددة والمتباينة، تحدد النسب والصور والمواقع من جهة، ومن جهة ثانية تصوغ الواقع المحلي بتلبية بعض مطالب الثورة والنظام على حد سواء. وهذا يشير الى استمرار الصراع والضحايا والدمار الى حين تحقيق حالة الانهاك للقوى المحلية واتفاق القوى الاقليمية والدولية على حل يرضي تطلعاتها ويحقق أهدافها، ويجعل الحل غير متاح على المدى القصير نتيجة ركون هذه القوى الى آلية الربط بين الملفات والحلول بحيث باتت اوكرانيا وفنزويلا وآسيا الوسطى والدرع الصاروخية الامريكية وأنابيب الغاز والنفط وأسواقهما والنووي الايراني ملفات على طاولة التفاوض وجزءا من المعادلة الشاملة.

وهذا يستدعي من قوى الثورة، بجناحيها السياسي والعسكري، وحواضنها الشعبية توحيد الجهد وتنسيق التحرك لضمان الاحتفاظ بموقع رئيس على طاولة التفاوض وتحقيق نسبة معقولة من مطالب الثورة والشعب، وهو هدف متاح اذا ما انحاز الجميع للتفكير العقلاني والعملي، واستبعدوا الصراعات الطفولية القائمة على الغاء الاخر وإخراجه من المعادلة بالكامل، فالشراكة والتوافق والتمسك بنسبة استقلالية معقولة في اتخاذ القرار كفيلة بوضعنا على جادة الصواب وفتح طريق الأمل واسعا امامنا، فهل تفعل؟.

\\ كاتب سوري \\

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى